الفصل الثالث (1)
قد يكون عنوان هذا الفصل فيه تناقضٌ ظاهري
مـع مـوضـوع الكتاب .. ذلك أننا لا نتحدّث هنا عن الغيْب .. ولكننا نتحدّث عن الأدِلة
الماديّة التي يتحكّم فيها العقل وحده ويشهد بها .. ولذلك قـد يقـال: مـا دُمْـتُـم تتحدّثون عن
الدليل العقلي على وجود الله فلماذا لجأتم إلى الغيْب؟ .. نقول: إننـا لم نلجأ إلى
ما هو غيْبٌ كالملائكة والجنّة والنار وحياة البرزخ إلى غيْر ذلك مما يغيب عن
عـقـولنا .. ولكننا نأخذ من الدليل المادي مـا يؤكِّد لنا أن الغيْب قائمٌ ومـوْجـود
.. وأننا إن لم ندركه بعقولنا وأبصارنا فليس معنى ذلك أنه غير موجودٍ يؤدّي مهمّته
في الحياة .. ذلك أن وجود الشيء مختلفٌ تماماً عن إدراك هذا الوجـود .. فـقـد
يوجـد الشيء وأنت لا تدركه .. ومع ذلك فهو يؤدي مهمّته في الحياة .. ثم تأتي نفحةٌ
من رحمة الله تجعلنا نُدرِك بعقولنا أن ما حَسِبنا أنه ليس مـوجـوداً إنما هو
مـوجـودٌ وقائمٌ ويؤدّي مهمّته.
وقبل أن نبدأ الحديث لابد أن نعرف أن هناك نوْعيْن
من الغيْب .. غيْبٌ نِسبيٌ وغيْبٌ مطلق .. الغيب النسبي لا يعتبر غيباً في علم
الله وحده بل يمكن أن يعرفه البشر .. والغيب المطلق لا يعلمه إلّا الله سبحانه
وتعالى .. ما هو الغيب النسبي؟ .. هو ما لا تعلمه أنت ولكن يعلمه غيرك .. هَبْ أن
رئيس دولةٍ مـا اخـتـار أحـد الناس ليـتـولّى منصب الوزارة .. ولكن هذا الاختيار
لم يُبَلَّغ صاحبه .. إذن فهو غيبٌ عن صاحبه .. ولكنه معلوم لرئيس الدولة ومكتبه
إلى آخره .. ولنفرض أن لصاً سرق من بيتك شيئاً .. أنت حين اكتشفت السرقة لا تعرف مَن
الذي سرق .. ولا أين المسروقات ولكن الذي سرق يعرف نفسه ويعرف أين أخفى المسروقات
.. إلخ .. إذن هذا غيبٌ نِسبي .. أي بالنسبة لك ولكنه معلومٌ بالنسبة لغيرك .. أي
أن هذا الغيب قد يعرفه بعض الناس.
ولكن الغيب المطلق لا يعرفه أحد .. الله - سبحانه
وتعالى - كشف لنا أنه يعلم الغيب النسبي والغيب المطلق .. وأعطانا الدليل على ذلك
حتى نعرف أن ما سيقع في هذا الكوْن موجودٌ عند الله، ومعلومٌ ومُعَد، بحيث يخرج
إلى الدنيا بكلمة كُن .. ولذلك فإننا لابد أن نلتفت إلى آيتيْن كريمتيْن في القرآن
الكريم .. الآية الأولى قـوْله تعالى: "إنَّما أَمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئاً أَنْ
يَقولَ لَهُ كُنْ فَيكون" (الآية 82 من سورة "يس") .. أي أن الله -
سبحانه وتعالى - حين يريد أن يُظهِر لنا شيئاً يمارس مهمّته في الحياة .. فإنما
يقول له كُن .. فيخرج بكلمة "كُن" مِن عِلم الله - سبحانه وتعالى - إلى
كوْن الله فنعرفه .. في هذه الآية لابد أن نلتفت إلى قوله تعالى: "يقول له"
.. وما دام الحق - سبحانه وتعالى - يقول: "يقول له" فمعنى ذلك أن هذا
الشيء موْجود .. وإلّا لما قال الله: "يقول له" .. لأن الخطاب مِنّا لشيءٍ
موْجودٍ فعلاً.
إذن
فكل أحداث الكون وكل أحداث الدنيا والآخرة موجودةٌ في عِلم الله سبحانه وتعالى ..
فإذا قال لها: "كن" خرجت إلى علم الناس .. ولذلك فإن يوم البعث مثلاً مـوجـودٌ
بكل تفاصيله وأحداثه في عِلم الله .. والجنة موجودة، والنار أيضـاً مـوجـودة ..
لذلك إذا قيل في الحديث الشريف: "هذا رمضانٌ قد جاء، تُفتَح فيه أبواب الجنة،
وتُغلَق فيه أبواب النار، وتُغَل فيه الشياطين" .. قد يتساءل البعض كيف يحدث
هذا والجنّة لم تُخلَق بعـد، والنار لم تُخلَق كذلك .. لأن وقتهما لم يأتِ .. نقول
لا .. إنهما مخلوقتان في علم الله بكل ما فيهما .. فإذا جاء وقتهما أظهرهما الله
.. وفي هذا يلفتنا الحق - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم: "يَسْئَلونَكَ عَنِ
الساعةِ أَيّانَ مُرْساها، قٌلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبّي، لا يُجَلّيها لِوَقْتِها
إلّا هُو" (من الآية 187 من سورة "الأعراف") .. أي أن الساعة بكل
أحداثهـا مـوجـودةٌ عند الحق - سبحانه وتعالى - ولكنه لا يُظهِرها إلّا عندما يشاء
.. إذن فكل شيءٍ موجودٌ في عِلم الله يُظهِره متى شاء وكيف شاء.
الآية الثانية قوْله تعالى: "أَتى أَمْرُ
اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلوه" (الآية الأولى من سورة "النحل") .. كيْف
يقول الحق سبحانه وتعالى: "أتى" أي حَدَثَ باستخدام الزمن الماضي، ثم
يقول: "لا تستعجلوه" باستخدام الزمن المستقبل .. أليس هذا تناقضاً؟
المـاضي والحـاضـر
نقول: إنه لا يوجد أي تناقض لأن هذا الأمر
الذي تتحدّث عنه الآية الكريمة أتي في علم الله .. أي تقرّر .. ومادام قد تقرّر
فإنه حادثٌ بلا شك لأنه لا توجد قوّةٌ ولا قُدرةٌ تستطيع أن تمنع ما يريده الله ..
والله - سبحانه وتعالى - دائم الوجود لا تأخذه سِنةٌ ولا نوْم حتى تظن أنه قد يغفل
عن شيءٍ دائم القوّة والقُدرة .. وكل مَن في هذا الكوْن يستمد قدرته من الله
سبحانه وتعالى.
ولذلك مادام الله هو القاهر فوق عباده جميعاً
.. فمتى قال: "أتى" يكون قد حدث فعلاً .. أمّا قوله: "فلا تستعجلوه"
أي لا تستعجلوا ظهوره وخروجه إلى دنياكم الماديّة أو لا تستعجلوا ظهوره لكي يصبح
مشهوداً لديكم .. وهكذا نرى أنه لا يوجد أي تناقضٍ أو تضاربٍ في قوْله تعالى: "أتى
أمر الله فلا تستعجلوه".
نأتي بعد ذلك إلى الدليل الغيْبي على وجود
الله .. ونبدأ الحديث بالدليل من الإنسان أولاً، ومن الأحداث ثانياً، ومن قضايا
الكوْن ثالثاً .. فتلك النقاط الثلاث هي التي سنتحدّث عنها في هذا الفصل (وإن كانت
هناك نقاطٌ كثيرةٌ أخرى لا يتسع المجال لها الآن) .. لأننا سنتناول الدليل الكوني،
والدليل الإحصائي، والدليل العِلمي وغيره من الأدِلة .. ونحن هنا نعطي أمـثلةً
يستطيع الناس أن يقيسوا عليها بعد ذلك .. لأنه كما قلنا أن كل شيءٍ في هذا الكوْن
يشهد أنه لا إله إلّا الله .. ويشهد على ذلك بالدليل المادي.
إذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشريّة .. فإن
الله - سبحانه وتعالى - أعطانا الدليل على أنه يعلم غيْب النفس البشريّة وما تُخفيه
.. وإذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشريّة فإننا نبدأ بأن الله يسيطر على غيْب هذه
النفس سيطرةً كاملة .. ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: "وَأَوْحَيْنا
إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعيه، فَإذا خِفْتِ عَليْهِ فَأَلْقيهِ في اليَمِّ ولا تَخافي
ولا تَحْزَني، إنّا رادّوهُ إلَيْكِ وجاعِلوهُ مِنَ المُرْسَلين" (الآية 7 من
سورة "القصص").
إذن خواطر النفس البشريّة هي في يد الله
سبحانه وتعالى .. والعقل البشري هو في يد الله - سبحانه وتعالى - يعطيه من الخواطر
ما يشاء، ويمنع عنه ما يشاء ولكن الإنسان خُلِقَ حُراً في الاختيار .. نقول: نعم حُرٌ
فيما أراد له الله أن يكون حُـراً فيه وهو المنهج .. ولكنه ليس حراً حريّةً مُطلقةً
.. رغم أن الكثيرين ينكرون هذه الحقيقة .. فالإنسان حر .. نعم .. فيما قال له الله
فيه أفعل ولا تفعل .. هذا نطاق الحريّة الأولى في تطبيق المنهج وهو حرٌ في أن ينطِق
شهادة الإيمان أو أن ينطق شهادة الكُفر والعياذ بالله .. وهو حرٌ في أن يفعل ما
وضعه الله في منهجه وفي تطبيق هذا المنهج .. ومنهج الله يشمل كل نشاطات الحياة.
فالإسلام ليس مجرّد شهادةً بأنه لا إله إلّا
الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوْم رمضان وحج البيْت لمَن
استطاع إليه سبيلاً .. تلك هي أركان الإسلام .. الأركان التي بُني عليها هذا الدين.
الإسلام أشمل من ذلك بكثير .. ولكن العقل
البشري - فيما لا يخص المنهج - خاضعٌ لطلاقة قدرة الله.
ما هو الدليل على القدرة؟!
ولكن ما هو الدليل؟ .. نقول: إقرأ قوْل الله
سبحانه وتعالى: "تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وتَبْ، ما أَغْنى عَنْهُ مالهُ وما
كَسَب، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَب، وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَب، في جِيدِها حَبْلٌ
مِن مَسَد" (سورة "المسد")
هذه السورة الكريمة نزلت في "أبي لهب"
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقد كان كافراً رفض الإيمان .. محارباً لدين
الله ورسوله .. نزلت هذه السورة و"أبو" لهب كافر .. وكثيرٌ من صناديد "قريْش"
وزعماء "مكّة" كانوا كُفّاراً .. ثم هداهم الله فـأسـلـمـوا .. مـثل "أبي
سـفـيـان" و"خالد بن الوليـد" و"عكرمـة بن أبي جهل"
وغيـرهـم .. وكان من الممكن أن يكون "أبو لهب" من هؤلاء وأن يهتدي
للإسلام .. ولوْ حدث ذلك لانهدمت قضيّة الإيمان كلها لأن القرآن قال: إن "أبا
لهب" سيموت كافراً .. ولكن هناك شيئاً آخر لابد أن نتنبه إليه وهو أن هذا
الإخبار بغيْب .. بأن "أبا لهب" سيموت كافراً جاء في أمرٍ اختياري أي
يخضع ظاهرياً لإرادة "أبي لهب".
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن "أبا لهب"
ذهب إلى مكان يتجمّع فيه أهل "مكّة" أو دعا زعماء "مكّة" إلى
اجتماعٍ وقال لهم: "لقد قال عنّي "محمد" في قرآنٍ ادّعى أنه ينزل عليه
من السماء إنني سأموت كافراً وسأدخل النار ولكني أقول أمامكم أشهد أن لا إله إلّا
الله وأشهد أن "محمداً" رسول الله .. لتعلموا أن هذا الكلام غير صادق ..
وأن "محمّداً" لا يوحى إليه بشيء".
ماذا كان يمكن أن يحدث .. لو نطق "أبو
لهب" بالشهادتيْن رياءً أو نِفاقاً ليهدم قضيّة الدين .. ولكن حتى هذا التصرُّف
الذي كان يمكن أن يخدم قضيّة الكُفر التي كان "أبو لهب" أكبر أقطابها ..
حتى هذا الكلام لم يخطر على عقل "أبي لهب" ولم يقُله .. أليس هذا دليلاً
على أن ما يريده الله لابد أن يحدث .. أيوجد تحدٍ أكبر من أن يُعطي الله أكبر
أعداء الإسلام القضيّة التي يهدم بها هذا الدين .. ثم لا يستطيع أن يستخدمها ..
أليس هذا دليلاً على أن ما يقضي به الله غيْباً لابد أن ينفذ مهما بدا غير ذلك ..
وهل يوجد دليلٌ أكبر من ذلك على أن الغيْب عند الله لابد أن يقع؟