"أرواح بلا قبور" | الكبد المسكون (2)
وبعد حوالي شهر كان "قاسم" قد خرج
من غرفة العناية المركّزة والتحق بغرفةٍ عاديّةٍ من غرف المستشفى وفيما عدا بعض
المشاهد والرؤى الغريبة عليْه التي كانت تقتحم مخيّلته من حينٍ لآخر وفيما عدا بعض
الأحاسيس والأحداث الدخيلة على ذاكرته التي كانت تنتابه أحياناً فقد استقرّت حالته
الصحيّة وأصبح في أحسن حالٍ جاهزاً للجلسة الموْعودة، وجاء عالِم الروْحانيّات في
إحدى الليالي وسمح بحضور "قاسم" وطبيبه وأخيه والمترجِم فقط في حين أخرج
باقي الحاضرين ثم أظلم الغرفة تماماً وأسدل ستائرها السميكة وأمر "قاسم"
بالتمدّد على فراشه دون حركة ثمّ ظلّ يتلو كلاماً غير مفهوم تارةً بصوتٍ عالٍ وتارةً
أخرى بصوتٍ خفيض ويتكلّم حيناً ويصمت حيناً وكأنّه يتحدّث مع شخصٍ خفي ثمّ أشار
"لقاسم" أن يتكلّم، فتكلّم "قاسم" بصوتٍ مختلفٍ عن صوته
الحقيقي في لغةٍ صينيّةٍ واضحةٍ لا لبس فيها فأفصح الصوْت أنه يخص روح الرجل
الصيني صاحب الكبد المزروع واسمه "وانغ تشو" والذي كان يعمل لصالح
منظّمة "المافيا" الصينيّة وأنّه تمّت مطاردته من قِبَل الشرطة الصينيّة
وأنّه لا يدري ما حدث عندما كان يعبر شريط السكك الحديديّة بمدينة
"ووهان" بجنوب البلاد وكل ما يعرفه أن روحه أصبحت حبيسة داخل هذا الجسد
الغريب وتوسّل "وانغ" إلى عالِم الروْحانيّات أن يحرّر روحه من جسد
"قاسم" وإلّا سينتقم منه أشد انتقام ويتسبّب في موْته ليطلق سراح روحه
المعذّبة الساكنة في كبده وهو الجزء الوحيد المتبقّى من جسده على قيْد الحياة، فطمأن
العالِم الروح بأنّه سيفعل ما بوسعه ليحرّرها ولكنّه يحتاج وقتاً كافياً حتّى
يستطيع معرفة كيْفيّة عِتْقها وإطلاقها في عالَم الأرواح السرمدي اللا نهائي، وما
لبث "قاسم" أن توقّف عن الكلام لكن انتابته تشنّجاتٍ حادّة أجبرت
العالِم على إنهاء الجلسة فسارع الطبيب باستدعاء باقي الطاقم الطبّي الذي حقن
"قاسم" بحقنةٍ مهدِّئة جعلته يروح في نوْمٍ طويل.
وفي اليوْم التالي استمع "قاسم"
لما حدث من أخيه المرافق له طوال فترة العلاج ففزع من كـوْن كبده المزروع مسكوناً
بروحٍ أخرى تطلب الحريّة والانعتاق وحاول التفكير في حلٍ لهذه المعضلة فلم يجد، وهدأ
الأمر بعد أسابيع فلم يجد جديدٌ غير تحديد الأطبّاء موْعداً لخروج
"قاسم" من المستشفى بعد أن شُفي تماماً واختفت الفترات التي كان يفقد
فيها الوعي وقلّت اللحظات العارضة التي يشاهد فيها فجأة مقاطع من حياة
"وانغ" فأصبح قادراً على العوْدة إلى وطنه، ولكن حدث حادثٌ غريب أجبر
الأطبّاء على تأجيل هذا الموْعد فقد هرعوا ذات يوْم إلى غرفة "قاسم" بعد
أن سمعوا أخاه يستغيث بهم حين انتابت "قاسم" نوْبة هياجٍ عصبيّة حطّم
فيها كل ما في الغرفة من أجهزةٍ طبيّة وأثاث وكان خلال نوْبة غضبه ثائراً بشدّة ويصيح
ويصرخ ويبرطم باللغة الصينيّة، وبعد أن سيْطر عليه المتواجدون أعطوه مرّةً أخرى
جرعة دواءٍ مهدِّئة وعرضوه على طبيبٍ نفسي فلم يستطع أن يشخّص حالته فقرّروا وضعه
تحت الملاحظة.
ومرّ يوْمان فقط بعد هذا الحادث وحدثت
واقِعةٌ أخرى غريبة فقد دخلت إحدى الممرّضات غرفة "قاسم" فلم تجده على
سريره وكان أخوه قد تركه لشراء بعضاً من حوائجه، وأخذت الممرّضة تبحث عنه في أرجاء
الطابق الذي تقع به غرفته فلم تجده فأبلغت أفراد أمن المستشفى الذين راجعوا
تسجيلات الكاميرات المنتشرة بأركان المستشفى خلال الساعة الماضية فشاهدوا
"قاسم" في تسجيل كاميرا الطرقة التي تطل عليّها غرفته وهو يغادر الغرفة ببطء
وكأنه منوَّماً واتّجه نحو المصعد ثمّ شاهدوه في تسجيل كاميرا المصعد وهو يستقلّه
إلى آخر طابقٍ سفلي بالمستشفى حيث تقع مشرحة الموْتى ثمّ شاهدوه في تسجيل كاميرا
قاعة المشرحة وهو يفتح أدراج ثلّاجة الموْتى درجاً بعد الآخر فيجد فيها الجثث
الميّتة حديثاً راقدةً داخلها حتّى فتح درجاً وجده خالياً فدخل فيه وكأنه تحت
تأثير تنويمٍ مغناطيسي وجذب الدرج من الداخل فأُغلق عليْه، فأسرع رجال الأمن إلى
هناك وأخرجو "قاسم" من هذا الدرج ونقلوه إلى غرفته مرّة أخرى وتمّ
إسعافه وإفاقته فعاد لوعيه دون أن يتذكّر شيْئاً ممّا حدث، وفي نفس اليوْم وبعد أن
عاد أخوه من مشواره وعرف بما حصل عزم على ألّا يغيب بعيداً عنه وأن يلازمه كظلّه ولكن
غلبه النعاس وهو جالس فصحى على صوْت طبطبة أقدام "قاسم" وهو يسير خارجاً
من الحجرة فنادى عليْه فلم يجِب بل فتح الباب وسار بتؤدّةٍ نحو قاعة الانتظار فمشى
الأخ خلفه ليرى ما سيفعل، وقصد "قاسم" نافذة القاعة وحاول فتحها ليلقي
بنفسه من الطابق التاسع إلّا أن أخاه أدركه قبل فوات الأوان وأمسك به ومنعه من
الانتحار.