المعذبون في الأرض (6) | رفيق
كان ذلك في ساعة من ساعات الضحى، حين كان
النهار يجب أن يبطئ في سعيه ليحبس الصبية والشباب من أهل الكتاب، ويمكسهم في
حياتهم تلك التي كانت تخضعهم لعنف سيدنا ومكر العريف، ويؤخِّر عنهم هذه اللحظة
السعيدة التي يؤذن لهم فيها بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، والتي كانوا ينتظرونها
متشوقين إليها، لا ليرضوا حاجاتهم إلى الطعام، بل ليرضوا حاجاتهم إلى الحرية
واللعب. وكان الصبية والشباب من أهل الكتاب يستبطئون ارتفاع الضحى وزوال الشمس،
ويخدعون أنفسهم عن هذا الانتظار الشاق البغيض، بنشاط غريب مفاجئ، ترتفع فيه الأصوات
بالقراءة وتكثر فيه حركة الأيدي التي تمسح الألواح لتزيل منها ما حُفِظ أمس، وتكتب
فيها ما سيُحفَظ بعد الغداء. وكان الكتَّاب في ذلك الوقت أشبه شيء بخلية النحل،
كله حركة، وكله نشاط، وكله دوي يرتفع حتى يُسمَع من بعيد جدًّا، على ما فيه من
تباين الأصوات واختلافها بين أصوات الصبية النحيلة الضئيلة العالية التي لم تثبت
بعدُ، وأصوات الصبية التي أخذت تمتلئ لأن أصحابها قد تقدَّمَتْ بهم السن شيئًا،
وأصوات الشباب التي كادت تشبه أصوات الرجال، وكادت تستوفي حظها من الامتلاء، وكانت
هذه الأصوات المختلفة المنطلقة في وقت واحد، تحمل إلى الآذان شيئًا حلوًا رائقًا،
فيه كثير من الملاءمة والانسجام، يشبه ما تحمله إلى الأذن الأدواتُ الكبيرةُ
للموسيقى حين يشتد اختلافها في طبيعة الجرس، وينشأ عن ائتلاف مختلفها جمالٌ يسحر
السمع، ويملأ النفس روعة وطربًا.
في هذه الساعة من ساعات الضحى، وفي ساعة أخرى
من ساعات النهار حين كان المؤذن يوشك أن يدعو إلى صلاة العصر، كانت حماسة الصبية
والشباب من أهل الكتاب تبلغ أقصاها، ولم يكن من اليسير أن يظفر سيدنا أو العريف
بردِّهم إلى السكوت دون أن يصفِّق تصفيقًا قويًّا، ويخرج من حلقه صوتًا كأنه الرعد
يقرع الآذان ويفجأ النفوس، فيعقد الألسنة عن النطق، ويكف الأيدي عن الحركة، ويعقل
التلاميذ في صمت أبله، وسكون أحمق، ووجوم غريب.
في ساعة من تلك الساعات، وقف على عتبة
الكتَّاب بين شقَّي الباب رجل تجاوز الشباب ولكنه لم يمعن في الشيخوخة، وعليه مظهر
الثروة وارتفاع المنزلة، يُعرَف ذلك من لباسه الأنيق، ووجهه الذي تشرق فيه الثقة
وتظهر عليه الكبرياء. وكان الرجل مرتفع القامة، مهيب الطلعة، ظاهر النعمة، يدل
منظره على أنه راضٍ عن نفسه كل الرضا، مستقر في الحياة كل الاستقرار، لا يخاف
شيئًا ولا يشك في شيء، ولا يعرف التردد ولا الاضطراب، وأكبر الظن أنه كان ضابطًا
من ضباط الجيش وقتًا ما، ثم تحوَّلَ عن الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية،
فانتقل إلى هذه الحياة الجديدة محتفظًا بعاداته وتقاليده العسكرية كلها أو أكثرها،
وأكبر الظن أنه لم يكن مصريَّ الأصل، وإنما كان تركيًّا تمصَّرَ هو أو تمصَّرَتْ
أسرته، فقد كان يحمل في وجهه وفي شكله كله شيئًا لا أدري ما هو، ولكنه يبين أنه
ليس من المصريين، ويباعد بينه وبين المصريين مباعدة ما، ويثير في نفوس المصريين
إذا رأوه من قريب شيئًا غريبًا فيه إكبار له، وفيه استخفاف به.
وكان هذا الرجل حين وصل إلى الكتَّاب، قد
أعطى كلتا يديه لصبيَّيْن يكتنفانه ويسعيان معه سعيًا رفيقًا، فأما أحدهما عن
يمينه فقد كانت على وجهه سحابة رقيقة من حزن، وأما ثانيهما عن شماله فقد كان باسم
الثغر مشرق الوجه يكاد يُخرِج من جسمه قوة ونشاطًا، فلما بلغ باب الكتَّاب ومن
حوله هذان الصبيان ألقى تحيته، فسمع أهل الكتاب صوتًا لم يسمعوا مثله قطُّ في
قريتهم، صوتًا ضخمًا عريضًا ممتلئًا، أغنى سيدنا وأغنى العريف عن التصفيق والزئير،
فقد قرع آذان التلاميذ وفجَأَ نفوسهم، وعقلهم في هذا السكوت الأبله، وفي هذا
السكون الغريب، ووثب بسيدنا كأنما دفعه دافع، فإذا هو قائم على دكته قد أعجل حتى
عن أن يقوم كما تعوَّدَ أن يفعل في مهل وأناة، وقد ردَّ التحية على صاحبها في شيء
من وجل، ثم دعاه إلى أن يتفضَّلَ بالجلوس، وتنحَّى له عن موضعه في صدر المكان،
وشكر الزائر لهذا الشيخ احتفاءه به ودعاءه له إلى الجلوس، ولكنه أبى أن يدخل وأبى
أن يجلس، وقال في صوته ذاك المهيب المخيف: «إني حديث عهد بهذه المدينة، لم أصل
إليها إلا منذ يومين، وقد عرفت أن كتَّابك هو خير ما فيها من الكتاتيب، فأحببت أن
أقود إليه ابنَيَّ هذين، وأن أَكِلَ إليك تعليمهما؛ فأما أحدهما فهو هذا — وقدَّمَ
الصبي الذي كان قد أعطاه يده اليمنى — فقَدْ فَقَدَ بصره إلا قليلًا، فهَبْه كلَّ
عنايتك وأحفظْه القرآن، فإني قد وهبته للأزهر، وأما ثانيهما فعفريت ما أراه يصلح
إلا للمدرسة، فأمسكه في الكتَّاب حتى لا ينسى من الكتابة والقراءة ما تعلَّمَ،
وأحفظْه شيئًا من القرآن، وخُذْه بشدة إن أبى إلا أن يكون عفريتًا في الكتَّاب كما
هو عفريت في البيت.» ثم دفع من فمه ضحكًا عريضًا ما أظن إلا انه روع بعض القلوب في
صدور أولئك الصِّبْيَة الصغار، ثم تقدَّمَ خطوة وأخذ بيد سيدنا فوضعها على كتف أحد
الصبيين وقال: «هذا هو الأزهري.» ثم رفع يد سيدنا عن كتف ذلك الصبي ووضعها على كتف
الصبي الآخَر وهو يقول متضاحكًا: «وهذا هو العفريت.» ثم قال لسيدنا: «أما الأزهري
فاسمه عثمان، وأما العفريت فاسمه محمود. أتريد أن أتركهما لك منذ الآن؟ أم ترى أن
أعود بهما اليوم على أن يستأنفا سعيهما إلى الكتَّاب إذا كان الغد؟» وهمَّ سيدنا
أن يجيب، ولكن الرجل لم يمهله وإنما قال: «سأستصحبهما اليوم وسيسعيان إلى الكتَّاب
منذ غد، ولا تطلقهما للغداء فسيُحمَل إليهما غداؤهما كل يوم، ولا تطلقهما إذا
صلَّيْتَ العصر حتى يأتي مَن يصحبهما إلى الدار، فإنهما غريبان لا يعرفان طريق
المدينة بعدُ، وليست الدار قريبةً من الكتَّاب.» ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب
المخيف، وأدار ظهره منصرفًا لم ينتظر أن ترد عليه تحيته. وما أحسب إلا أنه قد سمع
هذا الضحك الذي اندفع الكتَّاب كله فيه، والذي لم يستطع سيدنا ولا العريف أن
يكفَّا عنه التلاميذ، إلا حين أذِنَا لهم بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، على أن يذكروا
أن مَن تأخَّرَ منهم عن موعده فلن تُعفَى رجلاه من هذا النصيب المعلوم من العذاب،
الذي لم يكن يقلُّ عن خمسة سياط، وربما بلغ العشرين سوطًا.
وقد رضي سيدنا ورضي معه العريف عن يومهما،
وعمَّا ساق الله إليهما من الخير فيه، فقد كان هذا الرجل موظَّفًا كبيرًا طرأ على
المدينة منذ أيام، ولم يكن شك في أنه ضابط تركي قديم من ضباط الجيش، يظهر ذلك في
حديثه، وفي عربيته التي تبرأ من الرطانة والتكسُّر، ولكنها لا تمضي مستقيمة إلى
غايتها، وإنما يثقل بها لسانه ويتعثَّر بها منطقه، بل زعم العريف أن زوجه تركية
خالصة لا تتكلم العربية إلا في مشقة شاقة وجهد شديد، وهي إذا أتيح لها أن تتكل
العربية التوى لسانها بها التواءً شديدًا، وهي تؤنِّث المذكر، وتذكِّر المؤنث،
وتفعل ببعض الحروف العربية الأفاعيل. وزعم العريف أن لهذين الصبيين أختين قد بلغتا
طور الشباب وظفرتا بحظ من جمال لا يُتَاح إلا للترك أو مَن يشبههم أو يقاربهم من
الأوربيين. وقد سمع سيدنا لكل هذا الكلام غير حافل به ولا آبه له، وآية ذلك أنه لم
يردَّ على العريف إلا بقوله: «ما أظنه يدفع أقل من عشرين قرشًا في الشهر أجرًا
لتعليم ابنيه.»
وكان في الكتَّاب صبي لم ينطلق مع التلاميذ ليصيب غداءه؛ لأنه كان من الذين يُحمَل إليهم الغداء في الكتَّاب، وقد سمع حديث الأب إلى سيدنا، وسمع حديثَ سيدنا والعريف عن الأب وابنيه وعن الأسرة كلها، فوعي هذا كله في صدره وحفظه في نفسه، ولم يكد يبلغ داره بعد أن صُلِّيَتِ العصر حتى أعاد إلى أمه ما سمع من حديث، وسألها عن هذه الأسرة، فقالت باسمة: «إنها أسرة المأمور الجديد، وستزورنا السيدة وابنتاها بعد حين، فاحذر أن تقع عين إحداهن عليك.»
ولم يرتفع الضحى من الغد حتى كان الصبي قد
تعرَّف إلى زميلَيْه في الكتَّاب، عرفه إليهما سيدنا؛ لأنه كان يحب أن يؤلِّف بين
الأسر التي تستمتع بحظها من الامتياز، ولأن هذا الصبي كان حافظًا للقرآن مجوِّدًا
له، فلم يتردد سيدنا في أن يكلِّفه إقراء الصبي الأزهري، وقال له وقد أخذ بيده
الصغيرة فوضعها على لحيته الغزيرة: «لقد وكَّلْتُ إليك ذقني، فأحفظ هذا الصبي ما
حفظت وأَجِد إحفاظه، ولا تفضحني عند أبيه الموظف الجديد الكبير، وقدِّرْ أني
وكَّلْتُ إليك عملًا كنتُ خليقًا أن أنهض به أنا، أو أن أَكِلَه إلى العريف.» وقد
وجد الصبي في نفسه شيئًا من الكبرياء، فقد أصبح معلمًا بعد أن كان متعلِّمًا،
وأصبح مقرئًا بعد أن كان قارئًا، ووجد في نفسه شيئًا من الفرح والابتهاج لاتصال
الأسباب بينه وبين هذين الزميلين المترفين اللذين يلبسان اللباس الأوروبي، ويضعان
على رأسيهما الطربوش، ولا يلبسان هذه الثياب الفضفاضة القَذِرة التي كان يلبسها
التلاميذ من أهل المدينة، واللذين ينتميان إلى أُسَر تركية ولا ينحدران من هذه
الأسر التي تأتلف من التجار والفلاحين. وقد أقبل الصبي على عمله، فطلب إلى تلميذه
أن يتلو عليه ما حفظ من القرآن في القاهرة، ثم اتخذ هذا نفسه سببًا للسؤال عن
كتاتيب القاهرة كيف تكون، وعن سادة هذه الكتاتيب كيف يسيرون مع التلاميذ، وعن
مذاهب هؤلاء السادة في تأديب تلاميذهم ووسائلهم إلى هذا التأديب، والأدوات التي
يصطنعونها فيه. وكان الصبي يسمع أحاديث تلميذه كلفًا بها متهالكًا عليها، يكاد
ينسى في سبيلها ما وُكِّل إليه من إقراء هذا التلميذ، لولا أنه كان يذكر من حين
إلى حين يده الصغيرة في اللحية الغزيرة، وصوت سيدنا الغليظ وقد تكلَّفَ الرقة
والرفق، وهو يلفته إلى أنه يكلِّفه عملًا خطيرًا كان خليقًا أن ينهض به هو أو أن
يكله إلى العريف، فكان ذلك يرده إلى القصد ويحمله على أداء الواجب.
وكان النهار يمضي ساعةً للقراءة وساعة
للحديث، ثم ازدادت الأسباب بين الصبي وزميله متانة واتصالًا، فكان الثلاثة يخرجون
من الكتَّاب إذا صُلِّيَتِ العصر، فيذهبون معًا إلى بيت الصبي قليلًا وإلى بيت
الزميلين غالبًا، وكان البيت أنيقًا مترفًا في نفس الصبي يملأ قلبه حين يدخله روعة
وكبرًا. كان قائمًا على القناة ليس بينه وبين الماء إلا هذه الطريق الضيقة التي
يسعى فيها الناس ودوابهم بين المدينة والقرية، وقد انبسطت من وراء سوره المرتفع
الذي تكسوه الأغصان الخضر والزهر النضر حديقةٌ عميقة مترامية الأطراف، عن يمين
وشمال، تقوم الدار من ورائها مطمئنة لا ترتفع في السماء إلا قليلًا، ولكنها تمتد
في الفضاء وتكثر فيها الحجرات، وكان الذي يفجأ الصبي من أمر هذه الدار ويملأ قلبه
رضًا وإعجابًا، أنه كان إذا عبر إليها الحديقة العميقة ودخل الدهليز الذي ينبسط بين
الحجرات، لم يمشِ على أرضٍ من تراب، وإنما يمشي على أرض قد بُسِط فيها البلاط،
وكثيرًا ما راعه أنه كان يرى الخادم تغسل هذه الأرض غسلًا وتنقيها تنقية، ولا ترش
عليها الماء رشًّا ليستقر ترابها فلا يثور.
وكان مما يملأ قلب الصبي رضًا وإعجابًا أنه
كان لا يكاد يدخل الدار مع زميليه حتى ينعطفوا إلى يمين، ويأووا إلى حجرة خاصة لا
يسكنها أحد من أهل الدار، ولا يطرقها أحد غير هذين الصبيَّيْن، قد خُصِّصَتْ لهما
يلعبان فيها، وجُمِعت لهما فيها أدوات كثيرة مختلفة غريبة للعب، وأُسنِدَتْ إلى
جدرانها كراسي ومجالس يستريح عليها الصبيان ومَن يلاعبهما من الرفاق، فهما لم
يكونا يجلسان على الأرض ولا يلعبان في الفضاء المنبسط أمام الدار، ولا يتعرَّض
لعبهما لضحك الكبار منه أو مشاركة الواغلين من الأطفال فيه، كان لعبًا مترفًا في
حجرة مترفة ليس للصبي بمثله عهد، وكان ثلاثتهم إذا وصلوا إلى الدار لا يكادون
يستقرون في حجرتهم تلك حتى تلمُّ ربة الدار وآنسة من الآنستين، فيكون الحديث
الرفيق والحنان الرقيق والدعابة العذبة، ثم يخلو الصِّبْيَة بعد ذلك إلى لعبهم،
فينفقون فيه ما شاء الله من وقت يقصر أو يطول.
وكانت ربة الدار سيدة كريمة، فقد تقدَّمَتْ
بها السن شيئًا، ولكنها كانت حلوة الشمائل، عذبة الحديث في لهجة عربية غريبة،
ضعيفة أشد الضعف، ملتوية أعظم الالتواء، وكان حديثها ذاك الملتوي المتعثِّر البطيء
يسحر نفس الصبي ويملأ قلبه فتونًا. فأما الآنستان فقد كانت كُبْرَاهما «تفيدة»
رائقة الحديث، شائقة الدعابة، متكسرة اللفظ، تتكلم فيُخَيَّل إلى السامع أن عهدها
بالنوم غير بعيد، وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان، لاذعة النكتة، بطيئة الحركة،
قليلة النشاط، وكانت أختها الصغرى «إقبال» جذوة من نشاطٍ، لا تنقطع لها حركة ولا
يستقر لسانها في فمها، وهي على ذلك حلوة المحضر، مشغوفة باللعب، لو أطلقت لها
حريتها لما فارقت الصِّبْيَة ولا زهدت في لعبهم، ولكن الدار كانت منظَّمَة أدق
النظام وأشقه، فلم يكن يتاح لهاتين الآنستين إلا قليل من فراغ بين حين وحين. وقد
نعم الصبي بهذه الحياة وقتًا لا يذكر أطال أو قصر، ولكنه يرى ذات يوم في الدار حركة
غير مألوفة، ويُخَيَّل إليه أن في الجو شيئًا لا يلبث أن يعرف ما هو، فقد خُطِبت
تفيدة، وما هي إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام في الدار أعياد، ثم
يعود الزائرون من حيث أتوا وقد استصحبوا تفيدة، ففقدت الدار من جمالها وبهجتها
شيئًا غير قليل.
والحياة مع ذلك ماضية في طريقها في هدوئها
المتصل واطرادها الممل، والصبي ناهض بواجبه، يحفِّظ زميله القرآن، ويشاركه في
اللعب، ويخوض معه في فنون الحديث، ولكنَّ محمودًا يتحوَّل من الكتَّاب إلى المدرسة
المدنية، فيفقد الكتَّاب بانصراف العفريت عنه من بهجته شيئًا غير قليل. ويخلو
الصبي إلى زميله وتلميذه عثمان يعلِّمه ويلاعبه، ولكن السأم يسعى بينهما، وإذا
بالصبي ينصرف عنه قليلًا قليلًا، ويُشغَل شيئًا فشيئًا برفاق آخَرين من أهل
المدينة، يعرضون عليه فنونًا جديدة من اللعب، ويلقون إليه ألوانًا طريفة من
الحديث، ويقرءون معه كتبًا لا عهد لأبناء الكتَّاب بها، ولا أرب لهم في قراءتها،
والصبي مع ذلك يلقى رفيقَيْه المترفين في داره حينًا وفي دارهما حينًا آخَر، ثم
يسمع ذات ليلة أبوَيْه يتحدثان في شيء من الحزن وفي شيء من السخرية أيضًا بأن
الضابط التركي القديم من ضباط الجيش قد سافر إلى القاهرة، فأقام فيها أيامًا، ثم
عاد ومعه سيدة تركية لم تبلغ الثلاثين بعدُ، لها حسن رائع، وجمال بارع، وفتنة
فاتنة، وتسلُّط على الضابط الشيخ عظيم، وأن تلك الدار المترفة الأنيقة التي كانت
جنةً من جنات النعيم، قد أصبحت مستقرًّا للحزن والبؤس والشقاء، قد أصبحت جحيمًا
تَصْلَى فيه أم البنين نار الحزن ولوعة الغيرة، ويشقى فيها هؤلاء الثلاثة بما يرون
من حزن أمهم وبؤسها وبكائها المتواصل، واعتكافها في حجرة لا تبرحها إلا أن تُكرَه
على ذلك إكراهًا، كما يشقون بهذا النعيم العظيم يستمتع به الضابط وزوجته الشابة في
طرف من أطراف الدار. كانا يستخفيان بسعادتهما أول الأمر فينعمان من وراء الأبواب
المغلَقَة والأستار المسدلة، ولكن السعادة جمحت بهما حتى تجاوزا القصد، وأكبر الظن
أن شقاء الأشقياء، هو الذي أذكى سعادة السعداء. وكأن الزوجين السعيدين قد رأيا في
اعتكاف تلك المعتكفة وبكائها المتصل، وفي هذه الوجوه العابسة الكئيبة من حولها،
وفي خفوت تلك الأصوات التي كانت تكلأ الدار فرحًا ومرحًا، وفي سكون تلك الحركات
التي كانت تملأ الدار بهجة وسرورًا، كأنهما رأَيَا في هذا كله احتجاجًا على ما
أتيح لهما من سعادة، وإنكارًا لم سيق إليهما من نعيم، فقَبِلَا التحدي، وأظهرا ما
كانا يضمران، وأعلنا ما كانا يُسِرَّان، وظهرت سعادتهما وقحة، مسرفة في القحة، لا
تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشيء وقارًا، فالقُبَل تُختلَس في هذه الزاوية أو تلك في
غير احتياط أول الأمر، ثم هي لا تُختلَس ولا يُستخفَى بها، وإنما يتهاداها الزوجان
أمام هذه الكاعب البائسة، وبمنظر من هذين الغلامين الشقيَّيْن، وغير بعيد من هذه
الأم التعسة المحزونة، ثم تتجاوز القحة حدودها، ويتعمد الزوجان المفتونان إيذاء
هذه المرأة الكئيب، فينتهزان الفرص ليُظهِرا لها سعادتهما بشعةً ليس لها حظ من
تحفُّظ أو استحياء.
ويتحدَّث الناس ذات يوم بأن هذه الأم البائسة
عليلة لا تخرج من حجرتها ولا تترك فراشها، ثم يأتي النبأ ذات صباح بأنها قد فارقت
الحياة، فأراحت واستراحت وتركت في قلب أبنائها سعيرًا أي سعير. وقد استقرت هذه
الأم البائسة في قبرها المتواضع من وراء النهر، وجلس صاحب الدار للمعزِّين
يستقبلهم كما تعوَّدَ الناس أن يفعلوا، وقد مرَّتِ الليلة الأولى كما تعوَّدَت
ليالي العزاء أن تمر؛ أقبَلَ المعزون فسلموا وجلسوا وسمعوا القرآن، وانصرف فوج
منهم ليخلفه فوج آخر، ثم ختمت القراءة حين أوشك الليل أن ينتصف.
ثم أقبل اليوم الثاني وأقبل معه القراء يتلون
القرآن، وأقبل الناس يعزون ويستمعون ويخوضون في مختلف الأحاديث، وإنهم لفي ذلك بعد
أن صُلِّيَتِ العصر، وإذا امرأة شابة تخرج من الدار وتتوسط جمع الناس هادئةً
مطمئنةً رزينةَ الخطو، سافرةً لم تُلْقِ على وجهها نقابًا، وقد اتخذت في إحدى
يديها حقيبة صغيرة، فلما توسَّطَتِ الجمع وجم الناس، وهَمَّ صاحب الدار أن ينهض
ولكن الوجوم أخذه هو أيضًا فأثبته في مكانه، وارتفع صوت تفيدة هادئًا رزينًا، فقطع
المقرئ قراءته واستمع لها الجمع كأن على رءوسهم الطير، وإذا هي تقول: «مَن ظن منكم
أنه أقبل للتعزية والمجاملة فَلْيغيِّر ذات نفسه ودخيلة ضميره، فليس هذا حفل عزاء
وإنما هو حفل فرح وابتهاج. إن هذا الرجل الذي تعزونه قد قتل امرأته وابتهج بموتها،
لم يرعَ حرمتها، ولم يرعَ حياء ابنته الكاعب، ولم يرعَ صبا غلاميه الصغيرين، وإنما
ازدرى هذا كله في سبيل سعادته بزوجه الجديدة؛ فكان يداعبها ويلاعبها، وينال من
مداعبتها وملاعبتها في الجهر ما لا يناله الرجل الكريم ذو المروءة إلا سرًّا،
وكنتُ في القاهرة لا أعلم من ذلك شيئًا، فلما أقبلْتُ لدفن أمي سمعت، فأنكرَتْ
أذناي ولم يصدِّق قلبي، ولكن أشهد وأُشهِدكم أني رأيت ورأى إخوتي، وفيهم كاعب وصبيان،
هذا الرجل يداعب امرأته الشابة ويلاعبها راضيًا مغتبطًا مسرورًا ولم يمضِ على دفن
أمِّنَا إلا يوم وبعض اليوم، فإن رأيتم بعد ذلك أن هذا الرجل محتاج إلى تعزيتكم
فأقيموا، وإلا فانصرفوا راشدين.»
ثم تحوَّلَتْ عن الجمع فلم تدخل الدار، وإنما
أخذت طريقها إلى المحطة لتركب القطار الذي يحملها إلى القاهرة.
ولستُ أدري ماذا كان من أمر الجمع المحتشدين
بعد هذه الفضيحة، ولكني أعلم أن استقبال المعزين لم يبلغ أيامه الثلاثة، وأن هذا
الضابط التركي القديم من ضباط الجيش لم يستطع أن يقيم في المدينة إلا ريثما يدبِّر
أمرَ سفره، وأنه ارتحل ذات يوم بما كان يحيط به من نعيم وجحيم، فانقطعت بينه وبين
المدينة الصلات والأسباب، لم يسمع أهل المدينة عنه شيئًا ولم يسمع هو عنهم شيئًا.
٣
ومضت الحياة في طريقها هادئة مطمئنة، تعبث
بالناس ويعبث الناس بها، ويعفِّي ما يقبل من أحداثها على آثار ما أدبر من الخطوب.
وقد هاجرت أسرة الصبي من المدينة إلى أعلى الأرض، وهاجرت أُسَر أخرى إلى أدنى
الأرض، وشُغِلت كل أسرة بنفسها عن غيرها، وشُغِل كل واحد من أبناء الأسرة الواحدة
بشأنه الخاص عن شئون أهله وذويه، ومضت أعوام تبعتها أعوام، وبلغ الصبي طور الشباب
بعد أن خاض إليه غمرات الخطوب، ولكنه يحس ذات مساء بين درسين من دروس الجامعة
القديمة يدًا تمس كتفه، وصوتًا يمس أذنه، وتقع في نفسه هذه الجملة: «أَلَا تذكرني!
لقد كنتُ معك في الكتَّاب. أنسيت العفريت؟!»
بلى، لم أَنْسَ العفريت وهيهات أن أنساه، وقد
استأثر من قلبي ذاك الناشئ بمكان ممتاز لم يبلغه أحد من إخوته كما لم يبلغه أحد من
رفاق الصبا، أولئك الذين عرفتهم في الكتَّاب أو عرفتهم خارج الكتَّاب، أولئك الذين
اتصلَتْ بينهم وبيني أسبابُ المودة أيام الصبا، فكانت عشريتي لهم طويلة أو قصيرة.
بلى لم أَنْسَ العفريت، وقد حدَّثْتُ نفسي غير مرة حين هبطت إلى القاهرة لأطلب
العلم في الأزهر الشريف، بأن من الممكن أن ألقاه أو ألقى أخاه فأجدِّد من أسباب
المودة ما رثَّ، وأَصِلُ منها ما انقطع، وأنقل من صباي في المدينة إلى القاهرة
طرفًا أستبقيه وأنميه، وأجد في استبقائه وتنميته رضا القلب ومتعة النفس وسعادة
الضمير، ولكني اختلفت إلى الأزهر أعوامًا وأعوامًا، وعرفت فيه كثيرًا من الصبية
والشباب والشيوخ، دون أن ألقى العفريت أو أخاه أو أسمع عنهما قليلًا أو كثيرًا،
ولم أُبِحْ لنفسي أن أسأل عنهما أحدهما أو كليهما، ولو قد سألت لكان من الممكن أن
أصل إلى هذا الأزهري الذي كنتُ أحفِّظه القرآن أيام الصبا، وأن أصل من طريقه إلى
أخيه العفريت. لم أُبِحْ لنفسي أن أسأل، وما أقل ما كنت أبيح لنفسي السؤال! وما
أكثر ما صرفني الحياء عن السؤال والاستقصاء!
ثم أنفقت في الجامعة عامًا وعامًا وعامًا
ثالثًا، ولقيت من الطلاب مَن درس في الأزهر، ومَن تعلَّم في المدارس المدنية على
اختلافها، وخطر لي غير مرة أن أسأل عن العفريت ما خطبه، وأين يكون؟ ولكني لم
أُبِحْ لنفسي هذا السؤال، فحفظت في قلبي من ذكر العفريت ما كنتُ أردِّده على نفسي
حينًا بعد حين، أختصها به ولا أُظهِر عليه أحدًا من الناس، حتى أقبَلَ عليَّ
العفريت ذات مساء فمسَّتْ يده كتفي، ومسَّ صوته أذني، ومسَّتْ نفسه نفسي،
واستأنفنا في الشباب حياتنا كما ألفناها في الصبا. كان حديثَ عهدٍ بالجامعة،
يدخلها في أول العام الذي كنتُ أريد أنا أن أتركها في آخِره، فكنَّا نجتمع وجه
النهار، لا في داره تلك، وأين كنَّا من داره تلك! ولكن في تلك الحجرة المتواضعة
التي كنتُ آوِي إليها أثناء الطلب، ولم يخطر له قطُّ أن يدعوني إلى داره، ولم يخطر
لي قطُّ أن أسأله عن هذه الدار، ولقد همَّمْتُ أن أسأله عن إخوته فأجابني من طرف
اللسان، فلما استزدته راغ عني بالجواب، وانتقل إلى حديث آخَر؛ فأحسستُ أنه يستحي
من أسرته، فلم أسأله عنها بعد ذلك.
كان قد تخرَّجَ في إحدى المدارس الفرنسية،
وظفر بشهادة الثانوية والتحق بالجامعة، وكنتُ أحاول أن أتعلَّمَ هذه اللغة
الأجنبية، وأبذل في ذلك جهودًا مختلطة أشد الاختلاط، منها الموفَّق ومنها غير
الموفَّق، وكان هو مشغوفًا بالترجمة من هذه اللغة إلى اللغة العربية، فكان يقرأ
عليَّ بعض ما كان يترجم، وكان يقرأ لي ما كنتُ أريد أن أعرف من الأدب الفرنسي. وقد
أنسى أشياء كثيرة، ولكنني لن أنسى أنه قرأ لي أساطير لافونتين، وقصة «كانديد»،
وأحاول أن أذكر كيف قضينا أول الليل بعد خروجنا من الجامعة ذات يوم، وأين قضيناه،
ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلًا، وإنما أذكر أني صرفت خادمي وبقيت معه على أن يردني
إلى داري بعد أن نفرغ مما أردنا إليه، ولست أعرف ما هذا الذي أردنا إليه، ولكني
أعرف أن الليل بلغ نصفه، وأنَّا كنَّا بعيدَيْن عن داري قريبين من داره في حي من
الأحياء الوطنية المتواضعة، فقال لي في صوت متكسر: «لننفق سائر الليل معًا، فنقرأ
ما أطقنا السهر، ثم تعود إلى دارك في ضحى الغد.» وقد أجبته إلى ما أراد، فدُرْنَا
في حارات ملتوية وانتهينا إلى دار متواضعة حقيرة، وأوينا من هذه الدار إلى حجرة
بائسة قد أُلقِي عليها حصير بالٍ، وأُلقِيَ على الحصير وسادة ولحاف، في هذه الحجرة
قرأ لي جزءًا عظيمًا من «كانديد»، ولم نَنَمْ إلا بعد أن جاوز الليل ثلثيه، فلما
كان ضحى الغد عدت إلى داري واستبقيته معي إلى آخِر النهار، وفي تلك الليلة فهمت
مصدر هذا الحياء الذي منعه أن يتحدَّث إليَّ من أمر أسرته بشيء.
ومضت أشهر الصيف التي يفترق فيها الطلاب،
وأقبلَتْ أَشْهُر الخريف التي يلتقي فيها الطلاب، ولقيت صاحبي فيمَن لقيت، ولكنه
كان لقاءً قصيرًا؛ فقد سافرتُ إلى فرنسا في خريف ذلك العام، وودَّعْتُ صاحبي في
القطار. وأشهد ما نسيته أثناء ذلك العام الذي قضيته في فرنسا، وأشهد لقد عدت إلى
مصر حين دعتنا الجامعة إلى أن نعود قبل أن نتمَّ الدرس، وفي نفسي أني سأجد عند
صاحبي هذا عزاء عن هذا الدرس المقطوع، ولكني أصل إلى القاهرة، وأسأل عن صاحبي،
فأعلم أن حُمَّى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف.
وما أريد أن أصوِّر للقارئ ما وقع في نفسي من
حزن ولوعة، فإني لم أكتب هذا الحديث لشيء من هذا، وإنما أذكر أني سعيت مع رفيقين
لي ذات يوم بعد أن صليت العصر إلى قرافة المجاورين حيث قيل لي إنه دُفِن، وأني
أنفقت مع رفيقَيَّ وقتًا طويلًا وجهدًا ثقيلًا نلتمس قبره لنهدي إليه التحية ولنضع
عليه شيئًا من زهر، فلم نهتدِ إلى هذا القبر، فعُدْنا يائسين وقد ألقينا التحية
إلى قبور القرافة كلها، وألقينا الزهر على قبرٍ ما في قرافة المجاورين، وكنتُ
كئيبًا كاسفَ البال مظلمَ النفس معقودَ اللسان، وكان أحد رفيقَيَّ يهوِّن عليَّ،
وينشدني قول الشاعر العربي القديم:
لَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى
الْبُكَا
رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ
السَّوَافِكِ
فَقَالَ أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ
لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى
فَالدَّكَادِكِ
فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ
الشَّجَا
فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ