سفاح كرموز" | الفصل الخامس (3)"
في تلك الأثناء كانت
"قطقوطة" تصعد على الدرج قاصدةً شقّة الحاجة "بَمبَة" فقد
سمعت صوت ارتطامٍ بالأرض أعقبه صرخةٌ قصيرة تلاها عدّة دقّاتٍ على أرضيّة شقّة "بَمبَة"
التي هي سقف شقّة "قطقوطة"، وقد عمدت "قطقوطة" أن تطمئن على
الحاجّة "بَمبَة" أوّلاً وأن تستعير ثانياً بعضاً من الكيروسين لتملأ به
مصباحها الذي اصطحبته معها لينير لها سكّتها وقد كاد يفرغ من وقوده.
وقبل أن ينصرف
"سعد" عرج على مصباح الكيروسين الموضوع على مائدة الصالة فنفخ فيه
ليُطفئه حتي يتستّر بالظلام وهو خارجٌ من الشقّة ، ولكنه في اللحظة التي فتح فيها
باب الشقّة وأوشك أن ينفذ خارجاً منها فوجئ "بقطقوطة" أمامه، بل وكاد أن
يصطدم بها فقال لها في ارتباكٍ واضح :
- آآ .. أهلاً.
- أهلاً بيك .. مش
حضرتك أخو "بطّة".
- هه؟ .. آآآ .. آه
.. أخوها .. أنا.
- أومّال هيَّ هنا
ولّا إيه؟
- آه .. ضروري ..
آآآ .. هيَّ بس ف المطبخ بتولّع لمبة الجاز.
- طب والحاجّة؟
- آآآآ .. بتصلّي
جوّه .. خُشّي لها .. اتفضّلي .. اتفضّلي.
- فضّلك الله .. إحم
إحم .. دستور يا اللي هنا.
ولم تكَد تتجاوز
"قطقوطة" الباب وتصبح داخل الشقّة حتى أدارت ظهرها "لسعد"
الذي أخرج ساطوره من بين طيّات ملابسه وباغتها بضربةٍ واحدةٍ منه على رأسها فخرّت
صريعةً في الحال وقبل أن يعاود ضربها مرةً أخرى خيّل له أنه يسمع صوتاً يأتي من
خارج الشقّة فخشى أن يكون ابن الحاجّة "بَمبَة" قد وصل فخرج وأقفل الباب
وراءه ولاذ بالفرار دون أن يراه أحد.
وبعد قليل فرغ
"فتيحة" من صلاة العشاء ومرّ على أمّه وأخذ يقرع على الباب دون مُجيب
فانتابه القلق وحاصرته الهواجس وتبادر إلى ذهنه أنها مغشيٌ عليها كما حدث منذ أكثر
من أسبوع وخاف أن يعود لورشته ليُحضر المفتاح الذي يعلّقه على الحائط هناك فيضيّع
الوقت وتُسلِم أمّه الروح قبل أن يعود بالمفتاح، فرجع إلى الوراء ثمّ اندفع بقوّة
وصدم الباب بكتفه فكسره ففوجئ بجارته "قطقوطة" وهي ممدّدةٌ على الأرض
بلا حراك والدماء تنزف من رأسها، وتابع التجوّل في الشقّة فعثر على أمّه في حجرة
نومها وقد أصبح رأسها بلا ملامح بعد أن تهشّم تماماً فصرخ من هوْل المنظر وأخذ
يبكي وينتحب بصوتٍ عالٍ في هيستيريا غير مُدرِكٍ لما يفعل فاسترعى ذلك انتباه
الجيران الذين توافدوا على مكان الحادث ليعرفوا ماذا جرى.
وأسرع أحدهم فأبلغ
الشرطة التي لم تتوانَ عن الحضور في الحال، وأمر الضابط المسؤول جنوده ليصرفوا كل
هذا الجمع الغفير من الناس الذين تقاطر ورودهم في أفواج ليشاهدوا هذه المجزرة،
وبعد أن أصبح المكان خالياً إلّا من الجثّتيْن والابن المكلوم الثَكلان وبعض
الجيران الذين استبقتهم الشرطة لأخذ أقوالهم بدأ الضابط في معاينة مسرح الجريمة
حتى يصل وكيل النيابة وفجأة سمع صوتاً واهناً يستغيث فزجر الموجودين أن اسكتوا
وأصاخ السمع فتبيّن أن هذا الصوت صادرٌ من "قطقوطة" التي لم تمت بعد
ويبدو أن شُفْر ساطور "سعد" كان قد برد وفقد حدّته ومَضائه من كثرة ما
استعمله لتحطيم رأس الحاجّة "بَمبَة" الذي تفتّت فلم يؤثّر كثيراً في
رأس "قطقوطة" التي سارع الضابط وأمر عساكره بأن ينقلوها في الحال
بسيّارة الشرطة إلى المستشفى الأميري دون الانتظار لمجيء الإسعاف.
وفي المستشفى وصلت
"قطقوطة" بين الحياة والموت ولكن الأطباء الهِمام استطاعوا إنقاذ حياتها
في آخر لحظة بعد أن أجروا لها عدّة عملياتٍ جراحيّة لوقف النزيف وعلاجها من
الصدمة.
وكأي مجرمٍ معتادٍ
على الإجرام أخذ "سعد" يحوم حول مكان جريمته البشعة ليتشمّم الأخبار
ويستقصي الأنباء فكان يجلس على المقاهي القريبة من شارع "باب الملوك" -
متحاشياً أن تراه "فاطمة" - ويستدرج أهالي المنطقة للحديث عن هذه
الفاجعة فعرف منهم أن "قطقوطة" ما زالت على قيد الحياة فأدرك أن حياته
في خطر وقرّر أن يتخلّص منها لينعدم الشاهد الوحيد على جريمته، وبالاستغراق في
السؤال والاستعلام تبيّن له أن هذه الشاهدة لم تزل محجوزةً في عنبر الحريم بقسم
الجراحة بالمستشفى الأميري العام.
واستغلّ
"سعد" ملامحه البريئة ومظهره البهي وهندامه الأنيق وارتدى معطفاً أبيض
(بالطو) وذهب في الصباح بنفسه حيث تقيم "قطقوطة" في هذا المستشفى الضخم
متنكّراً في زي طبيب وتجوّل بحريّة - كأي طبيب - بين العنابر و الأسرّة حتى عرف
مكانها وقبل أن يُخرج مطواةً كانت في جيبه ليجهز على غريمته فوجئ بأحد كبار
الأطباء أثناء مروره على المرضى يوجّه إليه كلاماً باللغة الإنجليزيّة بعد أن
توهّم أنه طبيب فتجاهله "سعد" وأسرع بالانصراف وسط دهشة الطبيب الكبير
ومعاونيه، و عزم "سعد" على معاودة الكَرّة في الليل وما إن وصل بعد
الحادية عشرة بقليل حتى ألفى جميع المرضى بل والممرّضات أيضاً ما بين النعاس
والنوم العميق فتسلّل إلى سرير "قطقوطة" فوجدها نائمة فأخرج مديّته
وفتحها وقبل أن يزرعها في قلب "قطقوطة" كانت جارتها في السرير المجاور
قد استيقظت فجأة وشاهدته فصرخت مستنجدةً بمن حولها وتنبّهت "قطقوطة" -
ذات السبعة أرواح - ففتحت جفنيْها في وهن ولكنها لم تقدر على الحركة فأكمل
"سعد" مهمّته ونزل بمديّته على صدرها فأغمضت "قطقوطة"
عيْنيْها في استسلامٍ ولكن جارتها شدّتها ناحيتها بعيداً عن "سعد"
فتحرّكت فطاشت تصويبته وأصابت مطواته ذراعها، ولم يقدر "سعد" على تكرار
محاولته مرّةً أخرى بعد أن رأى بضعة أشخاصٍ في آخر الممر يقتربون من العنبر لنجدة
المستغيثة فجرى في الناحية الأخرى وهرب بسرعة قبل أن يمسكوا به.
وبعد يوميْن انسلَّ "سعد" مرةً ثالثة إلى المستشفى ولكنه لمح من بعيد ثلاثة عساكر يقفون عند مدخل العنبر يفحصون هويّات الزائرين ويفتّشونهم ففطن إلى أن الشرطة قد شدّدت الحراسة على "قطقوطة" لحمايتها فخشى أن يغامر بالاقتراب منها وآثر أن ينتظر الحل من القدر عسى أن يقبض الله روحها قبل أن تتكلّم أو يصيبها بالعمى قبل أن تدل عليه، وقبل أن يسترسل في طلب ما يريد من الله الذي نساه بعد تكرار معصيته تدخّل الشيطان خوفاً من أن يتذكّر "سعد" ربه فيطيعه بعد ذلك؛ فطمأنه شيطانه أن "قطقوطة" على وشك الموت من تلقاء نفسها كما يتضح ذلك من معالم وجهها التي تغيّرت ووهنها الشديد وعدم قدرتها على الحركة أو الدفاع عن نفسها في آخر مرّةٍ رآها فيها، وأقنعه إبليسه الخنّاس بأنه ليس في حاجةٍ لأن يُتعِب نفسه ويقتلها؛ فليجلس مستريحاً في شونته حتي يسمع خبر موتها قريباً.