(30) نارالحياة
أذعنتُ لأمر "عائشة"
واستبد بي الخوْف والقلق .. وألقيْتُ نفسي مُنقاداً فوْق حافّة الصخرة ومددتُ ساقيَّ
إلى الخارج فلم تلمسا شيئاً فقلت لاهثاً:
- سأسقط.
فقالت "عائشة":
- اترُك نفسك تهوى ولا تخَف.
ففعلتُ؛ إذ لم يكُن
بُدٌّ من أن أفعل، وشعرتُ بنفسي أنزلق فوق صخرة، وبعد هُنيْهة استقرَّتْ قدماي فوق
أرضٍ صخريّة، فحمدتُ الله على نجاتي ولحق بي "ليو" بعد لحظات وأعقبه "جوب"
فسقط فوقنا وهو يصيح ويصخب.
وأمرتنا "عائشة"
بإشعال المصباحيْن، ورأينا على ضوئهما أننا وقوفٌ في غُرفةٍ صخريّةٍ مساحتها نحو
عشرة أقدامٍ مُرَبَّعة، وقالت "هي":
- ها قد وصلنا أخيرا بسلام .. ولكن .....
وأشارت إلى "جوب"
واستطردت:
- أما وقد أضاع هذا الخنزير اللوْح
الخشبي فيجب أن أتدبَّر وسيلةً أُخرى للعوْدة .. والآن: تأمَّلوا هـذا المكان جيّداً
.. وأخبروني ألا يوحي إلیکم بشيء؟
فلمّا أجبناها نفياً
استطردت:
- هل يدور بخلدك يا "هولي" أن
رجـلاً اختار هذا الجـُحر لسُـكناه في غابر الأيّام؟ .. لقد بقي هذا الرجـل أعواماً
طويلةً داخل هذا الجُحر ولم يكن يُغـادِره إلّا مرَّةً كل اثنيْ عشر يوْماً للبحث
عن الطعام والماء والزيْت الذي كان الناس يجلبونه بكثرة ويتركونه كقربانٍ عند مدخل
الدهليز الذي اجتزناه الآن.
فنظرتُ إليها مُتسائِلاً
فاستطردت:
- نعم .. هذا ما حدث .. وكان اسم الرجل "نوت"
.. وكان مُلِمّاً بحِكمة أهل "خور" برغم أنه من أبناء الجيل الأخير ..
وأمّا عن فلسفته وزُهده وإلمامه بأسرار الطبيعة فحدِّث ولا حرج .. لقد كان هو الذي
اكتشف سِر النار التي سترونها الآن .. وهي دم الطبيعة وروحها .. وكل مَن يغتسل بها
ويتنفَّس منها يعِش ما دامت الطبيعة باقية .. وكان "نوت" هـذا على غرارك
يا "هولي" لا يفكِّر في الاستفادة من الإحاطة بأسرار الطبيعة .. وظل لا
يُكاشِف أحداً بسِرّه .. وقبع في هذا المكان كأنمـا أوقف نفسه حارساً على ينبوع
الحياة .. فلمّا جئتُ إلى هذه الديار لأوَّل مرَّةٍ سمعتُ بأمر هذا الفيْلسوف
الناسِك .. فانتظرتُه حتى خرج كعادته ليأخذ القرابين .. وعُدتُ معه إلى هُنا مُستعينةً
بسِحر جمالي ورجاحة عقلي وذلاقة (طلاقة) لِساني .. واستطعتُ أن أُغريه حتى أخذني إلى
مكان النار وأفضى إليَّ بأسرارها .. ولكنه لم يحتمل أن يراني بداخلها .. وخشيتُ أن
يقتلني لو عصيت أمره فتنحيْتُ .. ولمّا كان الرجل هَرِماً وعلى أبواب الرَدَى
(الموْت) فقـد آثرتُ أن أنتظر حتى يموت ثم أعود وأدخل النار فأظفر بالحياة الخالدة
والجمال الملائكي والمعرفة والحِكمة.
وأطرقتْ "عائشة"
هُنيْهةً ثم عادت فاستطردت:
- وحدث بعد ذلك بأيّامٍ قليلةٍ أن التقيْتُ
بك أيّهـا الحبيب وأنت تطـوف بهـذه البلاد مع "أمنـارتس" المصريّة
الجميلة .. فأحببتك منذ النظرة الأولى وشغفتني حُبّاً .. فخطبتُ وِدَّك وتقرَّبت إليك
حتى استطعتُ أن أحملك على المجيء إلى هذا المكان لننال معا هِبة الحيـاة .. وقد
جاءت معنا تلك المصريّة رغم شِدَّة مُعارَضتي .. ولمّا وصلنا إلى هذا الكهف وجدنا "نوت"
الحكيم قد مات منذ قليل .. وكانت جُثَّته مُسجاةً فوق أرض هذه الغُرفة وقد غطَّته
لحيته البيْضاء .. وبذلك سهل علينا الوصول إلى "ينبوع الحياة" .. وإذ
وقعتْ عيْناي على "عامود النار الأبدي" انتعشتْ نَفسى بأمل الحصول على
تاج الحياة الخالدة المجيد .. فخطوْتُ إلى قلب النار .. ولعَمري أراني عاجـزةً عن
وَصـف ما خالجني من الإحسـاسات في تلك اللحظة الفاصلة .. فقد تدفَّقتْ في جسدي حياةٌ لا تستطيعون تحديدها ما لم تشعروا بها ..
وخرجتُ منها كما ترونني الآن بهذا الجمال النادِر وقد كُتِبَ لي الخلود .. وبسطتُ
ذراعيَّ إليك يا "كاليكراتس" وناديْتك لتتناول يد خطيبتك الخالدة ..
ولكن جمالي بهرك وأعمى عيْنيْك فحـوَّلتَ وجهك عني وأخفيْته في صـدر "أمنارتس"
فـجُنَّ جُنوني وطاش صوابي .. وتنـاولتُ الخِنجَر الذي كنتَ تحمـله وطعنتك به ..
فتأوَّهتْ المصريّة وسقطت تحت قدميَّ جُثّةً هامدة .. فلمّا ثُبتُ إلى رُشـدي
قليلاً وأدركتُ فداحة جُرمي بكيْتُ حتى تقرَّحتْ مني الجفون .. وزاد لوْعتي أني
سأحيا حياةً أبديّةً بدونك .. وأمّا تلك المصريّة اللعينة فراحت تصُب عليّ لعنات آلهتهـا
"إيزيس" و"أوزوريس" وغيْرهما .. ولكن حُبّنا المُشتَرَك لك
حملنا على أن نتغاضى عمّا تُضمِره (تخبِّئه) كلٌّ مِنّا للأُخرى من بغضاءٍ وكراهية
.. وحملناك من هذا المكان .. فلمّا واريْناك تحت التُراب أرسلتُ المصريّة المشئومة
بعيداً فاجتازتْ المستنقعات وذهبتْ لشأنها .. ويبدو أنها عاشت وأنجبت طِفلاً .. ثم
كتبتْ القِصّة التي قادتك أنت - زوْجها - إليَّ أنا غريمتها .. تلك هي قِصَّتي أيّها
الحبيب .. وها قد عُدتَ إليَّ ولم يعُد يُعكِّر صفو سعادتي شيء .. بيْد أنه لن تتم
لي هذه السعادة إلّا حين تقول أنك صفحتَ عني وتغاضيْتَ عن زِلَّتي بقتل تلك الفتاة
"أوستين" .. وأنك تُحبّني بمجامع قلبك.
وكفَّت "عائشة"
عن الكلام، وكانت نغمات صـوْتها العذب لا تزال ترن في آذاننا، وشعرتُ بقلبي يدق
بعنفٍ وقد أطربته تلك النغمة العذبة أكثر من كلماتها الساحرة، ولم يكن تأثُّر "ليو"
من هذه النغمة بأقل من تأثُّري بها بل لعلَّه كان يفوقني إذ سرعان ما رأيْتُه
يتقـدَّم منها وقد اغرورِقت عيْناه بالدموع، ثم مد يده ورفع النقاب عن وجهها وهتف:
- هأنذا أُلبّي نداء قلبكِ .. وأنا واثقٌ
أن حُبّي لكِ ليس بأقل من حُبّكِ لي .. وأُعاهدكِ على أنني سأظل مُقيماً على هذا
الحُب حتى النهاية.
فصاحت "عائشةٌ"
بزهوٍ وطرب:
- أما وقد نطق سيّدي بهـذه الكلمات
النبيلة وعفا عني بكرمٍ وشهامةٍ فلن يسعني إلّا أن أقوم من ناحيتي بتقديم ما فُرِضَ
عليَّ.
وتناولتْ يده
ووضعتها فوق رأسها الجميل وانحنت ببطءٍ حتى لمستْ إحدى رُكبتيْها الأرض، ثم هتفتْ:
- انظروا .. إنني أحني هامتي أمام سیّدي
رمزاً لخضوعي .. وأُقسِم على أن أسعى ألى الخيْر وأنتكِب (أرجع عن) طريق الشر حتى
في هذه الساعة المُقدَّسة التي أتممتُ فيها أنوثتي.
وتحوَّلتْ إليَّ
وقالت:
- ها قد أقسـمتُ ولتكُن شاهداً على مـا
أقول یا "هولي" .. لقد تم زواجنا هُنا يا سيّدي تحت هـذا الظلام وستبقى
رابطتنا إلى أن ينتهي كل شيء .. والآن لنسطر عهود زواجنا على الرياح الجارية
لتحملها إلى السماء وحوْل هذا العالم إلى الأبد .. وكهديّةٍ أُقدِّم إليك تاج
جمالي المتلألئ والحيـاة الخالدة والحكمة اللانهائيّة والثروة التي لا تنفد .. سيجثو
عُظماء العالم تحت قدميْك وتَحجِب نساؤه الحِسان أعيُنهن من بهاء جمالك ويذري
(ينشر) الفلاسفة بأنفسهم حِكمتك .. وستُطالِع ماسطر فوق قلوب البشر كما تُطالِع
كتاباً مفتوحاً، وتقودهم أین تشـاء .. وستجلس كـ"أبي الهوْل" في "مصر" مرفوع الرأس
من جيلٍ إلى جيل .. وسيضرِعون (يتذلَّلون) إليك لتحل لهم لُغز عظمتك التي لا تفني
ولكنك ستسخر منهم بصمتك .. أُقبِّلك مرَّةً أخرى .. وبهـذه القُبلة أمنحك السيْطرة
التامّة على ما يقع تحت حِسّك وبصرك .. والآن قُضيَ الأمر .. ولأجلك أفك قيودي
كعذراء .. وأهبك نفسي كزوْجة .. قُضيَ الأمر .. ولم يبقَ إلّا دخولك في "نار
الحياة" لتُصبِح خالداً مثلي .. فهلمّوا بنا من هذا المكان لتتم الأمور
بترتيبٍ و نظام.
وتناولت "عائشة"
أحد المصباحيْن وتقدَّمتنا إلى درجٍ صخري في طرف الغُرفة الآخر، وأخذت تهبط هذا
الدرج في خِفّةٍ ورشاقة ونحن نتبعها، فلمّا بلغنا قاعدة الدرج ألفيْناها تنتهي
بمنحدرٍ صخريٍ طـويل على هيئة قمعٍ مقلوب وكان شديد الانحدار، ولكننا استطعنا
هبوطه بسهولةٍ مُستعينين بضـوْء المصباحيْن.
سِرنا على هذه الحال
مُدّةً لا تقل عن نصف ساعة إلى أن وصلنا إلى رأس القُمع حيث وجدنا دهليزاً ضيّقاً مُنخفِضاً
أرغمنا على إحناء رؤوسنا، بيْد أنه لم يلبث أن اتسع فجأةً بعد مسير خمسين خطـوةً
تقريبـاً واستحال إلى كهفٍ فسيح الأرجاء مُترامي الأطراف لم نستطِع رؤية سقفه أو
جوانبه.
واصلنا السيْر في
هذا الكهف إلى أن بلغنا آخر صغيراً انتهى بنا إلى دهليزٍ ثالثٍ كان ينبعث منه ضوْءٌ
ضئيل، فسمعتُ "عائشةً" تتنفَّس الصُعداء عندما أشرق هـذا النور من مكانٍ
مجهولٍ وقالت:
- هذا حسنٌ .. تهيّأوا لدخول بطن الأرض
التي تتدفَّق منها الحيـاة التي تُنعِش كل ما هو حي .. استعدّوا أيّها الرجال
فستولدون من جديد.
وأسرعت في خُطاها،
فتبعناها ونحن نتعثَّر وقد امتلأت قلوبنا بمزيجٍ من الدهشة والهلع، وكنا كلّما تقدَّمنا
في سيْرنا ازداد انتشار الضوْء شيئاً فشيئاً إلى أن صار يصلنا كبريق منار السُفُن
الذي يُرسِل أشعته المُتقطِّعة، ولكن لم يكن ذلك كل شيء، فقد كان يصحب البريق صوْتٌ
يُشبِه جلجلة الرعد وتحطيم الأشجار.
وأخيراً اجتزنا
الدهليز، فألفيْنا أنفسنا واقفين في كهفٍ طوله نحو خمسين قدماً وارتفاعه كذلك وأمّـا
عرضه فحوالي الثلاثين، وكانت أرضه مُغطّاةً بطبقةٍ من الرمال البيْضاء، وجُدرانه
ملساء بفِعْل النار أو الماء، ولم يكن هـذا الكهف مُظلِماً كغيره لأن ضوْءاً ورديّاً
كان يشع فيه ويملأ رحابه.
لم نرَ مصدر الضوْء أو
نسمع الصوْت الذي يُشبِه الرعد، بيْد أننا لم نلبث أن رأينا في آخر الكهف عاموداً
من النار قد امتد فجأةً بصوْتٍ ارتعدت له فرائصنا وجعل "جوب" يسقُط من
هوْله فوْق الأرض خوْفاً وهلعاً، وكان العامود خليطاً من الألوان كقوْس قزح.
وقد ظلَّ يلتهب ويدوي
نحو برهةٍ وهو يدور ببطءٍ حوْل نفسه إلى أن تلاشي الصوْت المُفزِع تدريجيّاً
واختفت معه النار في مكانٍ مجهولٍ بعد أن خلَّفت وراءها ذلك الضوْء الوردي البديع
الذي رأيناه أوّلاً.
هتفت "عائشة"
بأعلى صوْتها:
- تقدَّموا .. تقدَّموا .. انظروا إلى
ينبوع الحيـاة وقلبها وهو يدق في صدر العالم الفسيح .. انظروا المادّة التي يستمد
منها كل حيٍ نشاطه .. انظروا إلى روح الأرض التي لوْلاها لماتت كالقمر .. تقدَّموا
واغتسِلوا في هذه النار الحيّة وضعوا جوْهرها في أجسامكم التَعِسة.
فتبعنا "عائشة"
واجتزنا الضـوْء الوردي إلى رأس الكهف، ووقفنا أمام البُقعة التي يمر منها اللهب
العظيم، وبينا نحن نسير إذ شعرنا بابتهـاجٍ شـديدٍ غريبٍ يغمُرنا من جرّاء تيّار
الحياة القوي ، ومع أنه لم يتسرَّب إلى أجسامنا غير هَبّةٍ خفيفةٍ منه فقد أحسسنا
بقـوّة المردة (جمع مارد) تدُب فينا.
بلغنا رأس الكهف،
ونظر كلٌ منا إلى وجه الآخر وأخذنا نضحك طرباً وسروراً، وخدرت عقولنا فشعرتُ بحِكمة
العالَم كلّه تتدفَّق إلى رأسي، وخُيِّل إليَّ كأن روحي انطلقت من محبَسها وأخذتْ
تُحلِّق في سماءٍ كلها مرحٍ وبهجة، وبينا كنت استمتِع بهذا السرور الغريب إذ أقبل من
بعيدٍ ذلك الصوْت المدوّي المُخيف حتى صار دويّاً وزئيراً مُرعِباً، وأخذ يزداد
قـوّةً ثم داهمنا الصوْت كجلجلة الرعد حتى توقَّف على مقرُبةٍ مِنّا وقد صحبه ضوْءٌ
وهـّاجٌ مُختلِف الألوان يخطف الأبصار، وأخذ يدور حوْل نفسه ببطء، ولم يلبث أن
تلاشى مع أصوات الجلبة ثم اختفى.
وكان المنظر غريباً
رائعاً فلم نتمالك أن سقطنا فوق الرمال، بينما ظلَّت "عائشة" واقفةً وقد
مدَّت ذراعيْها نحو اللهب.
وعندما تلاشت النار
قالت "عائشة":
- یا "کالیکر اتس": لقد حانت
لحظة اغتسالك في النـار العظيمـة ولكنها لن تمس جسدك بسوء .. فاخلع ثيابك لأن
النار لا تُبقي عليها .. ثم تهيّأ لدخول النار عند مجيئهـا مرَّةً أُخـرى وابقَ
بداخلها بقـدر ما تستطيع أن تتحمَّله حواسك .. دعها تتخلَّل جسدك وتنفذ إلى أعماقك
كيلا تُحرَم شيئاً من قوّتها .. هل سمعت؟
- نعم .. سمعت يا "عائشة" ..
لست بالجبان ولكنني شديد الريْبة في هذه النار المُحرِقة .. إذ كيف أستطيع أن أثق
بأنها لن تقضي عليَّ .. مهما يكُن .. سأفعل طوْع إرادتك.
فأطرقت "عائشة"
هُنيْهةً ثم قالت:
- لا عجب إذا ساورتك الشكوك .. حسنا ..
هل تأتی يا "کالیكراتس" إذا رأيْتني وسط النار دون أن ينالنى أذى؟
- بالتأكيد .. ولو كان في ذلك حتفي؟
فصحتُ بدوْري:
- وأنا أيضاً.
فضحكت "عائشة"
وقالت:
- ماذا تقول يا "هولي"؟ .. كنت
أحسب أنه لا حاجة بك لطول البقاء .. فكيف تقـول ذلك؟
فأجبتُ بلهجةٍ جـديّة:
- لستُ أدري .. ولكني أحس برغبةٍ في تذوُّق
طعم هذه النار كي أعيش.
فقـالت بطـرب:
- على رَسلك .. سأغتسل مرَّةً أُخرى في هذا الينبوع الحي کي یزید جمالي فِتنةً وعمري طولاً .. والآن تأهَّبوا يا هؤلاء .. إستعِدّوا كما لوْ كانت ساعتكم الأخيرة قد حانت وأنكم على وشك اجتياز قنطرة الموْت إلى أرض الظلام ولستم على أبواب المجد لتدخلوا حديقة الحيـاة الخالدة .. تأهَّب يا "كاليكراتس".