"أرواح بلا قبور" | الطيْف المجهول (3)
واندهش العريس من
توقيت هذه الرسالة وهذه المقابلة وظنّ أنّ هناك من يمزح معه مزاحاً ثقيلاً خصوصاً
وقد كان مصدر الرسالة مجهولاً فلم يُكتَب على شاشة الهاتف رقم "صفاء" ولكنّه
كُتِب "رقم خاص"، فحاول العريس أن يتّصل "بصفاء" أو والدتها
على هاتفهما المحمول أو الأرضي ولكن لم يستطِع بسبب عدم وجود شبكةٍ متاحة
للإتّصالات نظراً لانقطاع الكهرباء عن القرية كلّها فسأل نفسه في تعجّب: كيف وصلت
هذه الرسالة؟، ولكنه سرعان ما أجاب على نفسه بأنّه ربما عادت الكهرباء وقت وصول
الرسالة ثم انقطعت مرّةً أخرى ولم يجد بداً من نزوله لاستطلاع الحقيقة بنفسه في
هذه الساعة المتأخّرة فأبلغ أهله وسط اندهاشهم وترك هاتفه - الذي أصبح بلا فائدة دون
شبكة - على سريره وأسرع بالانصراف، وشقّ طريقه وسط الطرقات المظلمة بمساعدة ضوء
القمر الذي أرسل سناه ضعيفاً فبدّد جزءاً بسيطاً من الليْل الدامس وسار على شارع
"الزراعيّة" أعلى ضفّة الترعة حتّى وصل إلى الكوبرى المقصود فلم يجد
"صفاء" بانتظاره وعندما تلفّت حوْله لمح شبحاً أبيضَ واقفاً بالأسفل
بجوار مياه الترعة مباشرةً فأدرك أنها خطيبته فنزل درجات السلم الذي يوصله إلى
هناك وعندما اقترب من هذا الشبح وجده يبعد فنادى على خطيبته بأعلى صوْته ولكنها لم
ترد واستمرّ ذلك الشبح مسرعاً في السيْر بحذاء الصخور الملاصقة لمياه الترعة
بخفّةٍ ورشاقة يُحسَد عليْها فطارد العريس الشبح بهمّة حتّى اقترب منه ولكنه صُعِق
من هوْل المفاجأة فلم يكن الشبح هو شبح خطيبته بل شبح شابٍّ ذو عيْنيْن سوداويّن
انقلبتا إلى عينيْن شديدتيْ الإحمرار وتبدو على ملامحه الجامدة سمات الغضب العنيف فارتعب
العريس وحاول النكوص للخلف ليعود أدراجه غيْر أن إحدى الصخور التي يقف عليْها تزعزعت
من مكانها وهوت إلى أسفل فهوى معها العريس داخل مياه الترعة الضحلة ولكن الشابّ
الغاضب نظر إليْه نظرة أخرى بعيْنيْه الحمراويْن وقد كاد الشرر أن يتطاير منهما فأحس
العريس بقوةٍ هائلة تدفعه بعيداً عن الشاطئ وتجذبه نحو منتصف الترعة وتشدّه إلى
أسفل الأعماق فصارع العريس - المجيد للسباحة - الغرق إلّا أنّه لم يتمكّن من
التغلّب على هذه القوّة القاهرة التي ارتبطت بالشبح الغاضب فغاص العريس تحت المياه
وهو يصرخ طلباً للنجدة وغرق دون أن يشعر به أحد.
وبعد يوْميْن من
غياب العريس الغامض عُثِر على جثّته التي جرفها التيّار وهي منتفخةٌ متقيّحةٌ
طافية فوق مياه ترعة "البحر الصغير" أمام قرية "الريدانيّة"
التي تبعد أقل من كيلو متران عن "ميت مزّاح" وبعد أن استدلّوا على
شخصيّته من واقع بطاقته التي كان يحملها بملابسه قام المحقّق بسماع أقوال أقاربه وأصدقائه
وعمل التحريّات اللازمة لمثل هذه القضايا وتم تحريز هاتف العريس الغريق فانحسرت
جميع الشبهات في ذلك الشخص ذو "الرقم الخاص" الذي بعث للعريس تلك
الرسالة الخادعة على تليفونه وقت الحادث خاصةً بعد أن أنكرت "صفاء"
أنّها هي التي أرسلت الرسالة كما أوْضح تقرير الطب الشرعي أن القتيل قد لقي مصرعه
بسبب أسفكسيا الغرق مع عدم وجود أي آثارٍ لجروح أو خدوش أو اعتداء، فأرسل المحقّق
طلباً لشركة الاتّصالات لمعرفة صاحب هذا "الرقم الخاص" وردّت الشركة بأن
هذا "الرقم الخاص" لخطٍ هاتفي قد أُوقِف العمل به واعتُبِر لاغياً بعد
أن توقّف صاحبه عن سداد المستحقات الواجبة عليه منذ أربعة أعوام ولم تستطِع الشركة
تفسير إعادة تشغيل هذا الخط.
وازدادت القضيّة
غموضاً عندما تقدّمت "صفاء" بصورٍ فوتوغرافيّة لحفل خِطبتها تظهر هي
فيها بوضوح لكن وجه العريس مطمس في كل الصور وقد حل محل وجهه طيّفٌ شاحب غير واضح
المعالم ولكنه يشبه أيضاً تلك العينيْن السوداويْن اللتيْن كانتا
تظهران في صور "صفاء" من قبل، فأرسل المحقّق تلك الصور إلى المعمل
الجنائي الذي أعاد تحميض هذه الصور بأحماض عالية الحساسيّة وأعاد تصوير الصور
السالبة (النيجاتيف) بكاميرا خاصّة تعمل بالأشعة تحت الحمراء ذات مجال واسع لتردّد
الأشعة المرئيّة والغير مرئيّة ممّا يجعلها تلتقط تفاصيل الأجسام ذات المجال
الطيّفي المنخفض جداً أو العالي جداً فظهرت صورة طيْف الشبح المجهول ذي العيْنيْن
السوْداويْن الذي تعرّفت عليْه "صفاء" بمنتهى اليقين وهي مذعورة تصرخ من
الهلع.
وأحيلت القضية
للأرشيف وقُيّدَت ضد مجهول حيث أن صاحب خط الهاتف المحمول ذو الرقم الخاص وصاحب
الطيْف الغامض كان واحداً ؛ وهو "هيكل جلال هيكل" المتوفى منذ أربعة
أعوام.
وبعد سنةٍ أخرى
تقدّم أحد الشبّان إلى أسرة "صفاء" طالباً يدها للزواج فاستسمح خالها
العريس الجديد في مهلةٍ كافية للسؤال عنه ومعرفة رأي العروس التي رفضت فكرة الزواج
رفضاً باتّاً بعد أن وصلتها رسالة على هاتفها المحمول من "رقمٍ خاص" تقول
:
"افتكري وعدِك ليّ آخر مرّة اتقابلنا فيها.. قولتي لي: ما فيش حاجة ح تفرّق بينّا أبداً.. حتّى الموت".