الفصل الخامس (3)
إعجازٌ يتلوه إعجاز
نعود إلى الآية الكريمة: "أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً
فَفَتَقْنَاهُمَا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلَا
يُؤْمِنُون" .. في هذه الآية أعطانا الله سِرّاً من أسرار الحياة وهو الماء ..
ولقد أصبح هذا حقيقةً علميّةً يعترف بها العالم أجمع .. فالصور الحديثة التي تُلتَقَط
بالأقمار الصناعيّة وسفن الفضاء والكواكب القريبة من الأرض يستطيع العلماء أن يتنبّئوا
إذا كان في هذه الكواكب حياةٌ أم لا رغم أن هذه الصور لا تأتي بالتفاصيل الدقيقة
التي تبيّن إذا كانت هناك مخلوقاتٌ موجودةٌ على سطح هذه الكوْكب أم لا .. ولكن
مـجـرّد علـمـهـم بـأن الصـور لا تدل على وجود الماء على سطح الكواكب فإنهم يؤكِّدون
أنه لا حياة فيه .. فإذا كان هناك ما يشير إلى أن الماء مـوجـودٌ تحدّثوا عن
احتمالات الحياة .. وعمليّة وجود الماء هي من قُدرة الله - سبحانه وتعالى - التي
احتفظ بها لنفسه .. وهي عندنا في الأرض تتم دون عملٍ من الإنسان .. بل هي عطاءٌ من
الله .. بخار الماء يصعد من المحيطات والبحار .. ويتكثّف في طبقات الجوْ العُليا
وينزل مطراً .. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ الماءَ الذي
تَشْرَبون، ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُموهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلون، لَوْ
نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرون" (الآيات من 68 – 70 من سورة "الواقعة")
.. إذن الماء هـو رِزْقٌ من السـمـاء بقُدرة الله .. وكل مَن يدّعى غير ذلك نطالبه
أن يُنشيء لنا نهراً صغيراً وسط الصحراء .. ويملأه بالماء إن كان يستطيع .. ولن
يستطيع .. ولكن اعتراف العلم ويقينه من أن وجود الماء معناه وجود الحياة .. لم يُلفتهم
إلى ما ذكره القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً عندما قال: "وجَعَلْنا مِنَ
الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي" .. وكان يجب أن يلتفتوا إلى هذا الإعجاز .. فيؤمنوا
بالله خالقاً وموْجوداً وإلهاً واحداً .. ولذلك يقول الحق جل جلاله: "أَفَلَا
يُؤْمِنُون".
السماء والدخان وأصل الخَلْق
لقد قُدِّم لهم الدليل المادي في الأصل
الواحد للسماوات والأرض .. ومن أن الماء هو سر الحياة .. فإن لم يؤمنوا، حينئذ
يكون عدم إيمانهم مكابرةً وعِناداً .. ويكون عذابهم في جهنم عدلاً من الله .. الذي
أعطاهم الدليل تِلو الدليل .. ومع ذلك لا يؤمنون.
وقبل أن نترك السماء وآياتها .. لابد أن نتحدّث
عن الإعجاز في خَلْق السماوات والأرض .. نحن ننظر إلى السماء ونرى أشياءً وتغيب عَنّا
أشياء .. مثلاً عندما عُرِض معنى الآية الكريمة: "ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ
وهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا
طائِعين" (الآية 11 من سورة "فُصِّلَت") على البروفيسور الياباني
"يوشـیدي کوزاي" مدیر مَرْصَد "طوكيو" قال: إن العلم لم يصل
إلّا منذ فترةٍ بسيطةٍ جداً إلى أن السماء كانت دخـاناً وقد أصبح هذا شيْئاً
مـشـهـوداً ومرئيّاً الآن بعد إطلاق سُفُن الفضاء والأقمار الصناعيّة .. وعَرَضَ
هذا العالِم صوراً التُقِطَت لنجمٍ في السماء وهو يتكوّن .. وقد بدا كتلةٌ من
الدخان في وسطهـا تكوِّن الجزء المضيء من النجم وحوْله الدخان وتحيط بالدخان حافةٌ
حمراء دليلٌ على ارتفاع درجة الحرارة.
وقال: لقد كنّا نعتقد منذ سنواتٍ فقط أن
السماء كانت ضباباً ولكننا عرفنا الآن بعد التقدُّم العلمي بأنها ليست ضباباً
ولكنها دخان .. لأن الضباب خـامـدٌ وبارد .. والدخان حـارٌ وفيه حركة .. وهذا يدل
على أن السماء كانت دخاناً .. وقال إنني متأثرٌ جداً باكتشاف هذه الحقيقة في
القرآن.
الحديد نُزِّلَ من السماء
وإذا كنّا نريد أن نمضي في التفاصيل ليقتنع مَن لم يقتنع .. فإننا نستعرض بسرعةٍ بعض ما قاله أشهر علماء العالَم في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم .. الدكتور "استروخ" - وهو من أشهر علماء وكالة "ناسا" الأمريكية للفضاء - قال: لقد أجريْنا أبحاثاً كثيرةً على معادن الأرض وأبحاثاً معمليّة .. ولكن المعدن الوحيد الذي يُحيِّر العلماء هو الحديد.
قُدرات الحـديد لها تكوينٌ مميـَّز .. إن
الالكترونات والنيـتـرونات في ذَرَّة الحديد لكي تتّحِد فهي محتاجةٌ إلى طاقةٍ
هائلةٍ تبلغ أربع مرّات مـجمـوع الطاقة الموجودة في مـجـمـوعتنا الشمسيّة .. ولذلك
فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكوّن على الأرض .. ولابد أنه عنصرٌ غريبٌ وَفَدَ إلى
الأرض ولم يتكوّن فيها .. فلمّا ترجموا له معنى الآية الكريمة: "وَأَنْزَلْنا
الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ ومَنافِعُ لِلْنَّاس" (من الآية 25 من سورة "الحديد")
قال: إن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام بشر.
فإذا تركنا السماء وأسرارها ونزلنا إلى أعماق
البحار وجدنا شيئاً عجيباً .. إن الصور الحديثة التي التُقِطَت للبحار قد اثبتت أن
بحار الدنيا ليست مـوحَّـدة التكوين .. بل هي تختلف في الحرارة والملوحـة والكثافة
ونسبة الأكسجين .. وفي صورةٍ التُقِطَت بالأقمار الصناعيّة ظهر كل بحـرٍ بلـوْنٍ
مـخـتلفٍ عن البـحـر الآخـر .. فبعضها أزرقٌ قـاتم وبعضها أسود وبعضها أصفر ..
وذلك بسبب اختلاف درجات الحرارة في كل بحرٍ عن الآخر .. وقد التُقِطَت هذه الصورة
بالخاصيّة الحراريّة عن طريق الأقمار الصناعيّة وسُفُن الفضاء .. وظهر خطٌ أبيض
رفيع يفصل بين كل بحرٍ وآخر .. فإذا قرأت الآية الكريمة: "مَرَجَ البَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيان، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيان" (الآيتان 19 و 20 من سورة
"الرحمن") نجد أن وسائل العلم الحـديثـة قـد وصلت إلى تصوير البَرْزَخ
بيْن البحريْن .. وبيّنت معني "لا يبغيان" بأن مياه أي بحرٍ حين تدخل
إلى البحر الآخر عن طريق
البرزخ .. فإنها تأخذ وقت دخولها خصائص البحر الذي تدخل فيه .. فلا تبغي مياه بحرٍ
على مياه بحرٍ أخر فتغيّرها.
موْجٌ من فوْقه موْج
ولقد تم الوصول إلى هذه الحقائق بعد إقامة
مئاتٍ من المحطّات البحريّة وبعد التقاط الصور بالأقمار الصناعيّة .. والذي صَرَّحَ
بهذا الكلام هو البروفيسور "شرايدر" - وهو من أكبر علماء البحار بـ"ألمانيا"
عندما قال: إذا تقدّم العلم فلابد أن يتراجع الدين .. لكنه عندما سمع معاني آيات
القرآن بُهِت وقال: إن هذا لا يمكن أن يكون كلام بشر.
ويأتي البروفيسور "دورجاروا" - أستاذ
علم چيولوچيا البحار - ليعطينا ما وصل إليه العلم في قوْله تعالى: "أَوْ كَظُلُماتٍ
في بَحْرٍ لُّجِّيٍ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحاب، ظُلُماتٌ
بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُّور" (الآية 40 من سورة "النور")
فـيـقـول: لقـد كان الإنسان في الماضي لا يستطيع أن يغوص بدون استخدام الآلآت أكثر
من عشرين متراً .. ولكننا نغوص الآن في أعماق البحار بواسطة المعدّات الحديثة ..
فنجد ظلاماً شديداً على عمق مائتي متر كما تقول الآية الكريمة: "بَحْرٍ
لُّجِّي" .. كما أعطتنا اكتشافات أعماق البـحـار صـورةً لمعنى قوْله تعالى: "ظُلُماتٌ
بَعْضُها فَوْقَ بَعْض" .. فالمعروف
أن ألوان الطيْف سبعة .. منها الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر والبرتقالي إلى آخره
.. فإذا غُصْنا في أعماق البحر تختفي هذه الألوان واحـداً بـعـد الآخـر ..
واخـتـفـاء كل لوْنٍ يعطي ظُلمة .. فالأحمر يختفي أوّلاً ثم البرتقالي ثم الأصفر
.. وآخر الألوان اختفاءً هو اللوْن الأزرق على عمق مائتيْ متر .. كل لوْنٍ يختفي
يعطي جزءاً من الظُلمة حتى تصل إلى الظُلمة الكاملة .. أمـّا قـوْله تعالى: "مَوْجٌ
مِنْ فَوْقِهِ مَوْج" .. فقد ثبت علميّاً أن هناك فاصلاً بين الجزء العميق من
البحر والجزء العلوي .. وأن هذا الفاصل مليءٌ بالأمواج .. فكأن هناك أمواجاً على حافّة
الجزء العميق المظلم من البحر وهذه لا نراها وهناك أمواجٌ على سطح البحر وهذه
نراها .. فكأنها موْجٌ من فوْقه موْج .. وهذه حقيقةٌ علميّةٌ مؤكّدة .. ولذلك قال
البروفيسور "دورجاروا" عن هذه الآيات القرآنيّة: إن هذا لا يمكن أن يكون
علماً بشريّاً.
الجبال والأوتاد
وإذا كانت العلوم الحديثة أكّدت أن للجبال
جذوراً عميقةً في الأرض - وهو ما لم يكن معروفاً - ففي كل الخرائط الجغرافيّة تظهر
الجبال بلا جذورٍ ممتدّةٍ داخل الأرض .. ولكن الصور الأخيرة التي التُقِطَت للجبال
ظهر فيها أن لكل جبلٍ وتداً يقوّيه يسمّيه العلماء جِذراً .. وأن هذا الجِذر يمتد
إلى أعماقٍ بعيدة .. وهكذا ظهر إعجاز الآية الكريمة: "أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
مِهاداً، والجِبالَ أَوْتادا" (الآية 7 من سورة "النبأ").
ثم جاءت حقيقةٌ أخرى في قوْله تعالى: "الـم،
غُلِبَتِ الرُّوم، في أَدْنَى الأَرْض" (الآية 1 ومن الآية 2 من سورة "الروم")
.. وقد فُسِّرت "أدنى" على أساس أنها قريبةٌ من أرض العرب .. فقد حدثت
المعركة قُرْب "بيْت المقدس" .. وجاءت الخرائط الجيولوجيّة التي صُوِّرَت
أخيراً بالأقمار الصناعيّة لتُثبِت أن المنطقة التي دارت فيها المعركة هي أكثر
الأماكن انـخـفـاضـاً على سطح الأرض .. لأن "أدنى" تعنى المكان المنخفض.
لقد أوْردنا عدداً من الأبحاث التي تمَّت في
مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم .. والتي شارك فيها عددٌ من أكبر علماء
العالَم في مختلف فروع العلم من غير المؤمنين .. والذين شهدوا جميعاً أن الآيات
القرآنيّة التي قُرِئَت عليهم معانيها لا يمكن أن تكون إلّا من وحيٍ إلهى .. ومن
خالقٍ لهذا الكوْن .. ونحن نقول للناس جميعاً: يكفي أن كل ما قلنا كأدلةٍ علميّةٍ
على وجود الله كلها جاءت من أفواه الذين لا يؤمنون .. ورفضوا الإيمان حتى بعد أن
سمعوا هذا الإعجاز القرآني.
إن كل ما أوْردناه ليس مجال بحثٍ ولكنه قائمٌ
على المشاهدة والرؤية .. وعلى صورٍ عُرِضَت وقُدِّمَت .. ولم يكن الذين قدّموا هذه
الصور يهمهم إثبات معجزات وآيات القرآن الكريم .. بل إن معظمهم كان يقول: إذا جاء
العلم فليتراجع الدين .. وبعضهم عارض في أوّل الأمر في الاشتراك في حوارٍ يدخل فيه
الدين.
وإذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد استخدم
غير المؤمنين في إثبات قضيّة الإيمان فلابد أن نعلم أن المؤمن والكافر .. كليْهما
يخدم قضيّة الإيمان في الكوْن.