الرؤية الكريمابيكيّة بين العصريّة والكلاسيكيّة
ربط بعض الخبثاء بين
الشيخ "أحمد كريمة" أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلاميّة بجامعة الأزهر
الشريف وبين النجم الساطع ذو البريق اللامع والمخ اللاسع "حمّو بيكا"
أستاذ علم المهرجانولوجي بجامعة "بوسي كات بالهرم" .. وكان سبب الربط هو ما صدر
عنهما من تصريحاتٍ أخيرة تؤكّد أن الشعب المصري لا يتوانى عن شُرب المُسْكِرات ولا
يتورّع عن عَب الأشربة المحرّمة بصفةٍ يوميّة كعادةٍ متأصّلةٍ لا تنقطع ممارستها
أبداً .. فالأوّل صرّح بأن "البوظة مشروبٌ شعبي مصري مُحرّم يقدّم للكادحين"
والثاني قال أن "ما فيش حد ف مصر ما بيشربش ويسكي" .. بصراحة شكلنا – كمصريين
– بقى عِرّة جداً أمام العالم وخصوصاً أمام الأشقاء العرب الذين كانوا يعيّرونا
بإدماننا للفول والفلافل وصاروا يعيّروننا بمعاقرة البوظة (الشعير المُخمَّر)
والويسكي أيْضاً وكأن المشرحة ينقصها القتلى .. وإذا كان الثاني قد هذى بهذه
السخافة في سياق دفاعه عن نفسه ليثبت للناس أنه لا يشرب الويسكي وحده بل يفعل ما
يفعله عوام المصريين فإن الأوّل قد هذر بهذا الهراء في سياق دفاعه عن نيّة الرئيس
المصري لإصدار قرارٍ قريبٍ برفع الدعم عن رغيف العيش ليبرهن للناس على صحّة القرار
وصوابه وأهميته في منع تحويل الخبز المدعّم للبوظة الحرام التي يتجرّعها جموع
الشعب المسطول .. وقد كتبت منذ أيّام مقالاً وافياً عن ذلك الـ"بيكا"
فلا داعي للحديث عنه الآن ودعوني أتكلّم إذن عن هذا الـ"كريمة" مع حرصي
الزائد على الإمساك بتلابيب الأدب والالتزام بطوق الموضوعيّة قدر المستطاع
احتراماً لشيخوخة الرجل وتقديراً لعلمه وتوقيراً للأزهر الشريف.
غابت عن شيخنا
الجليل "أحمد كريمة" التساؤلات التالية:
· هل يجهل سيادته نسبة الفقراء المستفيدين
من رغيف العيش البلدي المدعّم في إطعام ذويهم إلى نسبة المستفيدين من هذا الرغيف
في صنع البوظة للمساطيل؟ .. كلنا نعرف أن الفقراء بالملايين وأن مساطيل البوظة
ربما يكونون بالآلاف وربما لم يرَ أحدٌ منّا تلك البوظة إلّا في أفلام الحرافيش
وفقرهم كما لم نرَ الويسكي إلا في أفلام الحناكيش وغُنجهم .. أنأخذ الملايين بذنب
الآلاف؟ .. أنمنع مثلاً تداول العقاقير لعلاج ملايين المرضى لعقاب بعض الآلاف من مدمنيها؟
· لماذا يسارع معاليه بإدلاء دلوه في
قرارات الرئيس بالتأييد دائماً ولم نسمعه أبداً ينتقد أحد تلك القرارات طوال
الثماني سنوات الماضية؟ .. هل لأن الرئيس معصومٌ من الأخطاء ومنزّهٌ عن العثرات وفي
غِنى عن النصائح ولا يحتاج من مشايخ الأزهر سوى الآراء المؤيّدة فقط؟ .. أم أن
هؤلاء المشايخ يحتفظون بانتقاداتهم لأنفسهم خوْفاً من غضب الرئيس أو خوفاً على مشاعره أو طمعاً في حظوته فلا يصرّحون في الإعلام إلّا بعبارات المصادقة والمناصرة فقط؟ .. للحق أنا أرى
أننا يجب علينا جميعاً تدعيمه ومساندته بأن نؤيّده ونناصره في قراراته الصائبة
وبأن ننتقده ونعارضه في قراراته التي جانبها الصواب بكل أدبٍ وحصافة .. فنحن
جميعاً في النهاية نبحر في نفس السفينة ويجب علينا توصيل آرائنا المختلفة (وليست
المؤيدة فقط) إليه وتحذيره إذا ما رأينا صخرةً تهدّد سفينة الوطن ليستطيع قيادتها
بأمان .. فمهما كانت إمكانيّات الرئيس (أي رئيسٍ أو قائد) الهائلة أو رؤيته الثاقبة
فلن يتمكّن من القيام بمهامه بمفرده .. وربما نرى ما لا يراه فنكون عيوناً وعوْناً
له لتكتمل لديه الصورة برمّتها.
· هل تُصنَع البوظة من رغيف الخبز المُدعَّم فقط ولا تُخمّر من الخبز الغير مدعّم؟ .. هل ستختفي البوظة من على وجه البسيطة بعد القرار التاريخي للرئيس برفع الدعم عن الرغيف؟ .. وهل سيُقلع مدمنو البوظة عن شرب أي شرابٍ مُسْكِرٍ آخر إذا اختفت تلك البوظة البالوظة ذات القوام اللظلوظة؟ .. هل فكّر الرئيس في قراره هادفاً فقط لمنع تخمير الخبز المدعّم وراجياً إقلاع المواطنين عن معصية ربّهم وناصراً لدين الله وحُكمه وطامعاً في ثوابه؟
· لماذا لم تظهر نيافتك طوال العقود
الماضية - وأنت مَن أنت في مجال الدعوة والإعلام - لتدعو الناس إلى الامتناع عن شُرب
البوظة الحرام الحرام الحرام وأنت تعلم أنها مشروب وطني شعبي يدمنه الناس (حسب كلامك المغلوط) في
الأرياف والحَضَر؟ .. لم نسمع منك يا موْلانا ولوْ كلمةً واحدةً عن حُكم الشريعة –
التي أنت أستاذ تدريسها – في صُنع البوظة وحملها وتقديمها وشربها .. لم نرَك يوماً
في التلفاز أو الراديو أو حتى البوتاجاز وأنت تفتي بحرمانيّة البوظة وتدعو ولي
الأمر لإغلاق محالها ومصانعها المنتشرة (كما تقول) في طول البلاد وعرضها .. فقط
رأينا البوظة تقفز الآن فجأة إلى ذاكرتك الحديديّة فتُرغِم لسانك على ذِكرها
والتحذير منها في خضم هتافك المؤيّد لرفع الدعم عن الغلابة.
· تقول قداستك أنه "آن الأوان لكي
يأكل المواطن رغيفاً صحيّاً" .. إذن فأنت ترى أن رغيف العيش المدعّم
بمواصفاته الحالية غير صحي ولا يناسب المواطن الذي يأكله منذ سنين وهو على هذه
الحالة المتردية من السوء .. فلماذا لم تهب من وقتها وتدعو الحكومة لمعاملة المواطن
معاملةً آدميّة يستحقها فتشدّد رقابتها على المخابز لإنتاج رغيف خبزٍ يمكن للمواطن
أكله دون أن يرمي أكثر من نصفه في القمامة أو للحيوانات أو دون أن يبيعه لمصانع
البوظة الحرام؟ .. ومَن يضمن للمواطن أن تتحسّن مواصفات الرغيف بعد رفع الدعم فيحصل
على رغيفٍ صحيٍ آدمي؟ .. أظن – وليس كل الظن إثم – أن الرغيف سيظل كما هو (ربما
يتحسّن في أوّل الأمر فقط) لإن الدوْلة إذا كانت قادرة على طرح رغيف صحي آدمي فلِمَ
تقاعست عن ذلك طوال الوقت؟
يشهد الله على أنني
لا أستفيد مطلقاً من نقدي لمؤيدي رفع الدعم عن رغيف الخبز فأنا أشتري لي ولأسرتي
الخبز غير المدعّم لأنني بالفعل لا أستحل أن أزاحم مَن يستحقون هذا الدعم على طعامهم
الرخيص المضمون .. فلماذا لا تُبقي الدوْلة على سعر الرغيف الحالي وتشدّد رقابتها على أماكن إنتاجه ليقتصر توزيعه فقط على مَن
هو أوْلى به.
وأخيراً أحب أن أذكّر الرئيس أن الرغيف بالفعل يساوي أكثر من ثمنه الحالي الذي يدفعه المواطن .. وأن له الحق كرئيس إن يسترد للدولة بعضاً ممّا تتحمّله من فرق .. فمَن يقول أن رغيفاً يساوي خمسون قرشاً يُباع بخمسة قروشٍ فقط؟ .. ولكني أود أن ألفت نظره أيْضاً أن المواطن كذلك يتحمّل فرقاً ليس بالبسيط عندما ينتفع بالخدمات الحكوميّة المختلفة التي لا تساوي ما يدفعه المواطن فيها .. فمَن يقول مثلاً إن الدوْلة تأخذ خمسين جنيهاً كرسوم استخراج شهادة الميلاد التي لا تساوي أكثر من خمسة جنيهات .. وقِس على ذلك الفروق التي يتحمّلها المواطن المصري في استخراج جميع الأوراق والمستندات والرخص والضرائب بأنواعها المختلفة والجمارك المتعدّدة والعوائد الحكوميّة والمستقطعات والدمغات والتوثيقات بالشهر العقاري واستخدام الطرق السريعة والغرامات المغلَّظة والتأمينات العديدة والاتصالات التليفونية الأرضيّة والمحمولة وغيرها وغيرها من خدمات يدفع المواطن فيها أضعاف أضعاف ما تستحقه بالفعل .. فإذا كان من العدل أن تسترد الدوْلة ما تتحمّله من فروقات السلع الأساسيّة برفع الدعم نهائياً عن المواطن فإن العدل والإنصاف أيْضاً يقتضيان عدم تحمّل المواطن لفروقات الخدمات الحكوميّة ويستلزمان التسعير العادل لهذه الخدمات دون مبالغة .. وصدّقني يا سيادة الرئيس أنه لو حدث ذلك (رفع الدعم عن المواطن مقابل تخفيض الرسوم المغالى فيها) فسوف يكون الرابح الأوّل هو المواطن الذي يتحمّل ما لا يتحمّله أي مواطنٍ آخر في العالم وستخسر الدوْلة موارد هائلة تأتي من ذلك المواطن المطحون الذي يُعيَّر دوْماً بالدعم الحكومي.
والله من وراء القصد.