كا.. كا.. كالابالا
اصْطَدَمَتْ السَيَّارَةُ
"المرْسيدِس" الفارِهَةُ بالسَيَّارَةِ "الفيات" المُتَواضِعَةِ
مِنَ الخَلْفِ مُحْدِثَةً صَوْتَ قَرْقِعَةٍ مُدَويَّةٍ أَعْقَبَتْ صَرْصَرَةَ فَرامِلٍ
عاليَة، ثُمَّ سادَ السُكُونُ لَحَظاتٍ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَهُ صُراخُ الكابْتِنِ
"كالابالا" - الذي تَرَجَّلَ عَنْ عَرَبَتِهِ "المَرْسيدِس"
القابِعَةِ في الخَلْفِ والتي تَهَشَّمَتْ مُقَدِمَتُها - موَجِّهاً سُبابَهُ لصاحِبِ
العَرَبَةِ الأَمامِيَّة:
- إنْتَ حمار؟.. فيه
حَدْ يُقَف كِدَه زَيْ الطروبْش؟
فنَزَلَ صاحِبُ العَرَبَةِ
الأَماميَّةِ في حُلَّةٍ أَنيقَةٍ وقالَ بِهُدُوء:
- لَوْ سَمَحْت اتْكَلِّم
باحْتِرام.. ما فيش داعي للأَلْفاظ الخارْجَة.
- إنْتَ حَ تعَلِّمْني
يَعْني إيه احْتِرام.. دَه انا اللي حَ اعَلِّمَك عَلامَة حَ تِفْتِكِرْني بيها
العُمْر كُلّه يا حَيوان.. دَه انا حَ اطَلَّع بوز أَهْلَك.
- يا أُسْتاذ انْتَ اللي
غَلْطان.. مَعْروف إنْ اللي وَرا لازِم يسيب حَوالي ارْبَعَة مِتْر بينُه وبين العَرَبيَّة
اللي قُدَّامُه.
- وانْتَ عايِزْني اجيب
مازورَة واقيس المَسافَة اللي قٌدَّامى طول ما انا سايِق يا روح امَّك؟.. مِشْ تُقَف
انْتَ واحْدَة واحْدَة ولّا تُرْبُط فَرَامِل فَجْأَة كِدَه زَيْ البِهيم؟
- لأَ بَقَى دَه انْتَ
لا تُطاق.. اعْمِل إيه إذا كان اللي قُدَّامي فَرْمِل مَرَّة واحْدَة.. وبَعْدين
آخِر مَرَّة اقول لَك احْتِرِم نَفْسَك؟
- طَبْ انا حَ اوَريك
الاحْتِرام عَلَى اصولُه يا ابنِ الـ.....
وتَطَوَّرَ الأَمْرُ
إلى ما لا يُحْمَدُ عُقْباه حَيْثُ انْهالَ "كالابالا" عَلَى غَريمِهِ
بالصَفْعاتِ واللَكْماتِ يتَخَلَّلُها ما تيَسَّرَ مِنَ الشَتائِمِ والبَذاءات في
حينَ تَكَوَّمَ وتَكَوَّرَ الرَجُلُ الآخَرُ عَلَى نَفْسِهِ كالقُنْفُذِ ليُحاوِلَ
عَبَثاً دَفْعَ الضَرَباتِ عَنِ الوصولِ لوَجْهِهِ وأَماكِنِ جَسَدِهِ الحَسَّاسَة،
وبَعْدَ أَنْ تَدَخَّلَ بَعْضُ أَوْلادِ الحَلالِ ليَحَولُوا دونَ فَتْكِ الكابْتِنِ
بفَريسَتِهِ صَمَّمَ الكابْتِنُ عَلَى الذِهابِ لِقِسْمِ الشُرْطَةِ لِتَرْبيةِ
الرَجُلِ مِنْ جَديدٍ وتَعْليمِهِ كَيْفيَّةَ مُعامَلَةِ عِلْيَةِ القَوْمِ مِنْ أَمْثالِه.
وفي القِسْمِ جَلَسَ
الكابْتِنُ إلى مَكْتَبِ المَأْمورِ واضِعاً ساقاً فَوْقَ الأُخْرَى في حينَ وَقَفَ
الرَجُلُ الضَحِيَّةُ عَلَى مَسافَةٍ بَعيدَةٍ مِنَ المَكْتَبِ مُنْتَصِباً يَرْتَعِدُ
مِنْ هَوْلِ المَوْقِفِ وهوَ يَمْسَحُ بمِنْدِيلِهِ الدِماءَ التي انْبَثَقَتْ مِنَ
السَحَجاتِ والكَدَماتِ التي أُصيبَ بِها مِنْ شِدَّةِ الضَرْبِ وقَدْ تحَوَّلَتْ
حُلَّتُهُ الأَنيقَةِ إلى أَسْمالٍ باليَةٍ مُتَّسِخَة، وبَدَأَ المَأْمورُ في سُؤالِه:
- إسْمَك وسنَّك ومِهْنِتَك
وعِنْوَانَك؟
فَرَدَّ عَلَيْهِ الرَجُلُ
بصَوْتٍ مُرْتَعِشٍ مُخْتَنِقٍ وهوَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ البُكاءِ لَشَدَّ ما
نالَهُ مِنْ إهانَةٍ ومَهانَة:
- "عارِف عَبْد
العَليم أَديب".. تَلاتَة وارْبَعين سَنَة.. أُسْتاذ مُساعِد بكُلِيَّة الهَنْدَسَة..
تِسْعَة شارِع ابْن خَلْدون بالعَجوزَة.
- إيه اللي خَلاّك تِعْمِل
كِدَه يا باشْمُهَنْدِس؟.. إنْتَ مِشْ عارِف كابْتِن "كالابالا" دَه يبْقَى
مين؟.. دَه أَفْضالُه عَلَينا كُلِّنا.. دَه هوَّ اللي جاب كاس إفْريقيا "لمَصْر"..
دَه لُولاه كان زَمانَّا ماشْيين مِطاطيين روسْنا قُصاد العالَم.. دَه هوَّ
الـ.....
- يا فَنْدِم.. أَنا
ما عَمَلْتِش حَا.....
ولَمْ يُكْمِلْ
"عارِفٌ" جُمْلَتَهُ بسَبَبِ صَفْعَةٍ قَويَّةٍ عَلَى قَفاهُ تَلَقَّاها
مِنَ العَسْكَري الواقِفِ خَلْفَهُ لِيَمْنَعَهُ مِنَ التَكَلّمِ دونِ إذْن، أَمَّا
الكابْتِن فَقالَ وهوَ يَعْتَدِلُ في جَلْسَتِهِ ويَرْتَشِفُ بَعْضاً مِنْ عَصيرِ
اللَيْمونِ الذي طَلَبَهُ لَهُ المَأمورُ لِيُهَدِّئُ مِنْ غَضَبِه:
- يا باشا انا ما تهِمِنيش
الخَسايِر اللي فِ العَرَبيَّة.. أَنا مِنْ بُكْرَه ارْمي العَرَبيَّة بحالْها واشْتِري
أَحْسَن مِنْها أَلْف مَرَّة.. أَنا كُل اللي مضايِقْني إنُّه إزّاي يكَلِّمْني بقِلِّة
الأَدَب دي.. تصَدَّق يا باشا إنُّه قال لي: "احْتِرِم نَفْسَك".
فنَظَرَ المَأْمورُ
إلى "عارِفٍ" باشْمِئْناطٍ وقالَ لَهُ مُوَبِّخاً وهوَ يكادُ يَتَقَيَّأُ
مِنْ فَظاعَةِ هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْن:
- إخْصصص.. أومَّال بَقَى
يا أَخي لَوْ ما كُنْتِش مُتَعَلِّم وأُسْتاذ فِ الجامْعَة كانِت حَ تِبْقَى أَلْفاظَك
إيه؟.. صَحيح الأَدَب مِشْ بالعَلام الرَّكْ عَ الرِبايَة.. إنْتَ ابوك بيشْتَغَل
إيه يا بِتاعْ انْتَ؟
ونَظَرَ "عارِفُ"
بِطَرْفِ عَيْنِهِ عَلَى العَسْكَري الواقِفِ خَلْفَهُ وعِنْدَما رَآهُ يومِئُ بِرَأْسِهِ
- أَنْ أَجِبْ - قالَ وهوَ مُتَحَفِّز:
- أَنا والْدي الله
يرْحَمُه كان مُحامي واسْتُشْهِد لَمَّا كان ظابِط احْتياط فِ حَرْب أكتوبَر وكان
عَنْدي ساعِتْها أَرْبَع سِنين.
فقالَ المَأْمورُ وهوَ
يَبْتَسِمُ ساخِراً:
- زَيْ ما تَوَقَّعْت
بالظَبْط.. ما لَقيتْش اللي يرَبّيك.. أَوْ بالأَصَح كِدَه تَرْبيَّة مَرَة.
فَرَدَّ "عارِفٌ"
في غَضَب:
- لَوْ سَمَحْـ....
ولَمْ يُكْمِلْ
"عارِفٌ" مَرَّةً أُخْرَى جُمْلَتَهُ بَعْدَ أَنْ لَكَزَهُ العَسْكَريُ
بِضَرْبَةٍ شَديدَةٍ في جَنْبِهِ جَعَلَتْهُ يَئِنُّ بِصَوْتٍ مَكْتومٍ في حينَ اسْتَكْمَلَ
المَأمورُ تَوْبيخَه:
- إيه؟.. حَ تقول لي
"احْتِرِم نَفْسَك" انا كَمان.. ما انْتَ سافِل وتقولْها.. عُموماً حِرْصاً
عَلَى مُسْتَقْبَلَك ورَغْم إنَّك ما تَسْتاهِلْش أَنا حَ اسْتَسْمَح كابْتِن
"كالابالا" يسامْحَك المَرَّة دي بَعْد ما تِعْتَذِر لُه وتِكْتِب تَعَهُّد
عَلَى نَفْسَك بدَفْع قيمِة التَلَفِيَّات اللي حَصَلِت فِ عَرَبيتُه.. وابْقَى فَتَّح
بَعْد كِدَه وانْتَ سايِق وشوف مين ماشي وَراك.. وابْقَى خَلّي بالَك مِنْ أَلْفاظَك
وخَلّيك مُهَذَّب شويَّة.. إتْفَضَّل غور.. إترمي بَرَّه.. واعْمِل حِسابَك حَ تبات
فِ الحَجْز الليلَة دي لِغاية ما نِسْتَعْلِم عَنَّك فِ ادارِة تَنْفيذ الأَحْكام بُكْرَه
الصُبْح.. يمْكِن هَرْبان مِنْ قَضيَّة ولّا حَاجَة.. جَتْكوا القَرَف مَليتوا البَلَد.
واسْتَكْمَلَ المَأْمورُ
حُديثَهُ الوِدِّي مَعَ الكابْتِنِ بكُلِّ مَوَدَّةٍ وتَواضُع، ولَمْ يَفُتْهُ أَنْ
يَلْتَقِطَ بَعْضَ الصُوَرِ بكاميرا هاتِفِهِ المَحْمول مَعَ الكابْتِن المَشْهورِ
الذي ظَهَرَ في بَعْضِ اللَقَطاتِ وهوَ مُتَأَفِّفٌ بسَبَبِ ضياعِ وَقْتِهِ الثَمين،
كَما وَقَّعَ الكابْتِن أَيْضاً بإمْضائِهِ الكَريمِ عَلَى سِجِلِّ كِبارِ زُوَّارِ
القِسْمِ وعَلَى بَعْضِ الأوتوجْرافاتِ الخاصَّةِ ببَعْضِ الضُبَّاطِ في حينَ وَقَّعَ
بِجانِبِ النِسْرِ الذي يُزَيِّنُ أَغْطيَةَ الرَأْسِ الخاصَّةَ بالضُبَّاطِ الآخَرينَ
الذينَ لَمْ تَتَوافَرْ مَعَهُم أُوتوجْرافاتٌ ذَلِكَ الوَقْت.
وخَرَجَ الكابْتِنُ مِنْ قِسْمِ الشُرْطَةِ فَوَجَدَ جَماهيراً غَفيرةً كانَت قَدْ عَلِمَتْ بوجودِهِ في القِسْمِ فانْتَظَرَتْهُ طويلاً حَتَّى خَرَجَ وهوَ مُظَفَّرٌ بالنَصْرِ عَلَى غَريمِهِ فَحَمَلَتْهُ عَلَى أَعْناقِها وهيَ تَهْتِفُ في حَماسٍ مُنْقَطِعِ النَظير: كا.. كا.. "كالابالا".. هات الجون وتَعالَى.