المجالس الطبيّة المتخصّصة للعلاج على "قفا" الدولة
تلقيت اليوم بكل الحزن نبأ وفاة إحدى مريضاتي
وكانت تدعى "سماح" .. ولم يكن الحزن بسبب الوفاة في حد ذاتها فكلنا
معرّضون لها في أي لحظة بالإضافة إلى أننا كأطباء لا نتوقّف كثيراً أمامها
باعتبارها حدث متكرر نقابله كثيراً حتى ألفناه .. ولكن حزني كان عميقاً لأن هذه
المريضة الفقيرة شابة في الثلاثينيات وتركت ورائها زوجاً (أصيب بالاكتئاب ثم بالعدوانيّة ضد المجتمع بسبب
عجزه عن إنقاذ زوجته وتوفير تكاليف العلاج لها) وثلاثة أطفال (أحدهم رضيع) بعد رحلة علاجٍ قصيرة لم تدُم طويلاً وانتهت بوفاتها قبل أن تقوم بعمل قسطرة بالقلب لتأخّر
إجراءات العلاج على نفقة الدولة وقبل أن يكتمل المبلغ الذي كان يجمعه أولاد الحلال
لإنقاذها.
وفي هذه اللحظة ترحّمت عليها أولاً ثم لعنت
ذلك الذي يسمّى "بالعلاج على نفقة الدولة" فهو نظامٌ فاسدٌ لا يستفيد منه
إلا نسبةٌ بسيطةٌ ممَّن يستحقونه من الفقراء .. أما النسبة الغالبة فتذهب لمَن لا
يستحق من رؤوس الحكم والقيادات السياسية والفنانين واللاعبين والأغنياء من
المشاهير والنخبة وعلية القوم.
بادئ ذي بدء يجب أن نعرف أن هذا النظام
كصندوق التكافل الذي تؤخذ ميزانيته من أموال الشعب المصري كله (أغنياء وفقراء)
لتخصيصه للفقراء المطحونين فقط .. ولكننا نرى ونسمع عن ذلك المسؤول المليونير الذي
يسافر للخارج للعلاج (هو أو ذووه) من أتفه الأمراض أو لإجراء تحاليل للإطمئنان على
حالته الصحية فقط .. أو هذا اللاعب الفاحش الثراء الذي يرصد له نظام العلاج على
نفقة الدولة الملايين بحجّة تكريمه لأنه شرّف مصر ببطولاته العديدة .. أو تلك
الفنانة التي تجوب أوروبا وأمريكا وتقيم إقامة دائمة بالخارج حتى تعود سليمة
معافاة من مرضها الذي طال .. وغير ذلك من الأمثلة التي لا نشعر بها لأنها تمّت في
الخفاء دون أن ندري.
لماذا لم تتلقَ "سماح" (التي تركت
زوجها غارقاً في ديون مرضها) نفس العلاج الذي صرفته الدولة على المرحوم "سيّد
زيان" الذي ترك لأولاده قطعة أرض مساحتها 16 فداناً بالإسكندرية بها فيلا
وثلاجة لحفظ اللحوم بالإضافة إلى مزرعة مقامة على مساحة 21 فداناً بالإسماعيلية
وشقة تمليك بمنطقة ميامي بالإسكندرية وبعض الوحدات السكنيّة بالعقار رقم 202 شارع
البحر الأعظم بالجيزة والمعروف باسم «عمارة سيد زيان» حيث كان يقيم في الطابق
الأول بالكامل بما يتضمنه من مكاتب مؤجرة كانت تدر عليه ربحاً ضخماً بخلاف الطابق الثاني
عشر بالكامل وشقتين بالدور الثاني بعد الأرضي مؤجرين لإحدى الشركات ومحلات
بالدورين الأرضي والأول وسيارة «مرسيدس» ووديعة قيمتها 100 ألف دولار أمريكي ..
اللهمَّ لا حسد وبارك لورثته في ميراثهم.
لماذا لم تنفق الدولة مليماً على علاج
"سماح" رغم أنها أنفقت على علاج "سعاد حسني" على مدار أربع
سنوات في لندن فوق المليون ونصف جنية استرليني (أي ما يعادل 12 مليون جنية مصري
آنذاك) في نفس الوقت الذي كان نصيب الفرد من العلاج في مصر في ميزانية وزارة الصحة
لا يزيد عن 100 جنية وقتها .. أي أن "سعاد حسني" قد حصلت على ما يعادل
حق 120 ألف مواطن مصري في العلاج.
بالطبع كلنا مصريون ومن حقنا جميعاً الحصول
على رعاية صحية حكومية إن كنا نعيش في دولة غنيّة كأمريكا وكندا ولكن لأننا في بلدٍ
فقير فيجب علينا ترتيب الأولويّات من حيث قدرة المريض الماليّة وشِدّة المرض ونوعه ..
والأرجح أن يكون المستفيد الأوّل من هذا النظام هو الفقير المصاب بمرضٍ عضال في
مراحله المتقدمة.
ليس هذا هجوماً على الحكومة الحالية .. فهذا
الوضع قائم قبلها منذ عشرات السنين (والدليل هو هذا الفيديو المرفق والذي تم
تسجيله منذ عشر سنوات) ولن ينتهي بعدها إلا بإرساء العدالة الاجتماعية ومحاربة
الفساد الضارب بجذوره في المجتمع المصري بسبب غياب القدوة والضمير وكذلك بسبب عدم
التصدي بكل حزم للمنتفعين زوراً.
اللهمَّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا واغفر لنا وسامحنا .. وسامحينا يا "سماح".