"شيء من الخبث" | الفصل الرابع (1)
تجمّع أهل البلد في مسجد القرية، وظلّ عددهم
في ازديادٍ كلّما اقترب آذان الظهر، وفي ذهن كلٍّ منهم عددٌ من المطالب التي عزم على
أن يتوجّه بها إلى ضبّاط الهجّانة لينفّذوها كما وعدوهم، وتخيّل كل منهم نفسه
كجدّه الأكبر الفلاح الفصيح "خونانوب" الذي شكى الموظّف الفاسد
"تحوتي نخت" وحاكم الإقليم الأمير "رينزى" منذ أكثر من اثنيْن
وعشرين قرناً من الزمان إلى الفرعون العادل "نيبقورع" الذي أنصف الفلاح وأعاد
إليه حقّه، وأبصر كلٌّ منهم - بعيْن الخيال - نفسه وهو يجلس على رأس الاجتماع يصيح
بفصاحةٍ بأعلى صوته خاطِباً في الناس وهم ينصتون له في اهتمامٍ لما يقوله من رأيٍ سديد
ومطلبٍ حميد إلى أن ينتهي من خطابه فيصفّق له الضبّاط وأهل البلد على حدٍ سواء بين
عبارات الاستحسان والتأييد ودعواتٍ بالصحّة والعمر المديد.
ولكن قصور الرمال التي كانوا يشيّدونها في مخيّلتهم
لم تدم طويلاً فقد أفاقوا من أحلام يقظتهم على صوت الشيخ "إبراهيم" وهو يرفع
آذان الظهر، فنهضوا يصلّون ركعتي سنّة الظهر القَبْليّة في خشوع، وبعد النافلة
تضرّعوا لله أن يقيهم شر الفتن وأن يحقّق لهم أمانيهم لخير البلاد والعباد، ثم
أقيمت الصلاة فقاموا يصلّونها جماعةً بنشاط وتفاؤل، وبعد أن فرغوا من فرضهم شرعوا
في صلاة ركعتي السنّة البَعْديّة في تعجّلٍ حتّى يحجز كل منهم مقعداً أماميّاً في الاجتماع
المرقوب.
وتسرّب أهل البلد واحدٌ تِلو الآخر من المسجد
منسلّين إلى الحوض القبلي الكائن خلف المسجد؛ ففوجئوا بأن "خميس" صاحب محل
الفِراشة بالقرية قد نصب منصّةً خشبيةً عاليةً يتم الصعود فوْقها ببضع درجات ومفروشةً
بسجادةٍ حمراء عليها سبعة كراسي خشبية ومسقوفة بمظلة من قماش عَبَكٍ أبيض لتقي الجاثمين
على هذه الكراسي - دون غيرهم - من أشعة الشمس الحارقة، ولا يوجد شيءٌ غير ذلك في الحوض
القبلي على اتساعه.
اندهش أهل القرية من عدم وجود مقاعد لهم أو حتّى
مظلّة يقفون تحت فيئها فاستاءوا أيّما استياء، وسأل أحدهم "خميس" عن
السبب وراء عدم وضعه لكراسٍ يجلسون عليها أو لمظلّةٍ يستظلّون بها فأجابهم بأن
الضابط "عثمان" قد أمره بذلك حرصاً منه على عدم الصرف ببذخ على الاجتماع
درءاً لشبهة تبديد المال العام وأضاف بأن "عثمان" قد أعطاه من المال ما
يكفي لنصب المنصّة وملحقاتها وأيْضاً ما يكفي لعمل سبعة أكواب من الشاي فقط لا غير،
فهاج أهل البلد وماجوا في رفضٍ واعتراض فقد ظنّوا أنهم قد أصبحوا ذوي احترامٍ وتوْقير
وأن الثوْرة التي قاموا بها قد صنعت لهم وزناً وقيمة أمام حكّامهم، وصاح "حمداوي"
:
- مش قلت لكم دي قلّة قيمة م الأول؟
الشيخ "إبراهيم" :
- أصطبر يا "حمداوي".. ما تبقاش حِمَقي
كده.. يمكن مش واخدين بالهم.
"حمداوي":
- مش واخدين بالهم إزّاي يا شيخنا.. دول
قاصدين يبقوا همَّ فوق على المنصّة تحت الضلّة واحنا يوقّفونا تحت ف السمس زي قطيع
الخِرفان.. وانا بقى مش حولي.. أنا سايبها لكم مخضّرة.
"وديع" :
- بالسلامة يا اخويا والقلب داعي لك.. المركب
اللي تودّي.
"شحاته" :
- يا جدعان احنا جايين نتضّايفوا؟.. دي هيَّ ساعة
زمن وكل واحد فينا ح يروّح يقعد ف الضلّة ويشرب شاي في داره زي ما هوَّ عايز.
"وديع" :
- طبعاً ما انت لسّه جاي من دارك ومروّق.
"شحاته" :
- داري إيه؟.. ده انا بقى لي ساعة هنا.
"وديع" :
- أومّال ما اتخايلتش بيك ف صلاة الضهر يعني..
إنت ما لحقتش الجماعة؟
"شحاته" :
- لا يا عم.. أنا صلّيت هنا برّه.. حد الله
بيني وبين الصلاة ف الجامع بتاعكم ده.
"العدوي" :
- أستغفر الله العظيم.. الجامع بتاعكم؟.. ده
الجامع ده بتاع ربّنا.
"شحاته" :
- وهوَّ ربّنا يرضيه إنكم تدفنوا فيه عبد من
عباده.. وتعملوه مزار؟
"علّام" :
- إنت قصدك على ضريح سيدي "الحلالى"؟..
يا راجل حرام عليك.. ده كان راجل مبروك وسرّه باتع.. وما كانش حد بيقصده ف أيّتها
حاجة إلّا ويحقّقها له.
"بغاشة" :
- ده انا ديك النهار ملّست على مقامه واترجّيته
إني أخلّف واد بعد زوربة البنات اللي الوليّه جابتهم لي.. ونَدَرت لو الواد اللي نفســي
فيه جا ح ادبـح له دكرين بــط واولّع له دستتين شمع.. وما فاتتش السنة إلّا والواد
كان ف حجـري.. والحمد لله وفّيت بنَدْري.
"سعد الكبير" مشيراً إلى "شحاته"
و"وديع" :
- يا عم "بغاشة" ده الجوز دول ح
يحرّموا علينا عيشتنا.. المغنى حرام والرقص حرام والصور حرام والتماثيل حرام.. ده حتّى
مولد سيدي "الحلالى" اللي بييجي لنا فيه أهالي البلاد اللي حوالينا برضه
حرام.. إكمّن ساعات بيبقى فيه غجر وغوازي وستّات كاشفة راسها وصدرها ورجّالة بتشرب
بوظة.. طب ما المولد برضه فيه مراجيح ولعبة النَشان والمدفع وناس محترمة وآدينا
بنسترزق من وراهم كلّهم.. كل حاجة عندهم حرام حرام.. أومّال إيه اللي حلال يا عم انت
وهوَّ؟
"شحاته" :
- الحلال بقى هوَّ إننا نهد المقام ده فوق
دماغك ونمنع الرزق الحرام اللي بييجي لنا م المولد النجس بتاعك ده.. واللي عايز
ييجي بلدنا ييجي باحترامه يا إمّا ما يعتّبهاش.
"وديع" :
- سيبه يا "شحاته".. دي السكّينة
سارقاه.. معلهش هانِت.. إن شاء الله البلد ح تتعدل قريّب على إيدينا.. ويبقى يورّينا
إزّاي ح يبقى يعمل شغل حلمبوحة بتاعه ده بعد كده.
الشيخ "إبراهيم" :
- الله يخيّبك منك له.. شوف العيال يا اخويا..
بقى احنا ف إيه وهُمَّ ف إيه؟.. ولا كأنّنا
واقفين ساعة ف عز السمس.. روح يا "حسين" يا ابني خد حمارتك ورهوان على دوّار
العمدة شوف البهوات الظبّاط دول عوّقوا لغاية ده الوقت ليه؟.. ما هو احنا كده نطلع
من هَم نقع ف هَم ازرط منه.
وبعد أن ظلَّ أهل القرية واقفين تحت لهيب
الشمس لمدة لا تقل عن ساعتين لمح أحدهم "حسين" وهو يلكز حماره بكعبيْه
ليحثّه على المسير بسرعة، وما إن وصل للجمع حتّى صاح فيه م بزهو وكأنه هدهد
"سليمان" جاءهم بنبأ يقين :
- أهم جايين ورايا بعد شويّة.
وبالفعل لم تنقضِ عشر دقائق حتّى وصل سبع
ضبّاط من الهجّانة على ظهر جمالهم التي كانت تصدر رغاءً وهديراً عالياً وكأنها
تتعمّد إثارة الفزع في نفوس أهل البلد، وبعد أن أناخوا الجمال سار الضبّاط الهوينى
إلى المنصّة دون أن يلقوا السلام أو يتكلّموا مع أحد ثم اعتلوا المنصّة وجلس كل
واحد منهم على كرسيه حسب تسلسلهم القيادي فقد كانوا - للأسف - يهتمّون اهتماماً
كبيراً بالشكليّات والظواهر بينما لا يعبأون باللُب والجوْهر، وبعد أن استووا على كراسيهم
وافاهم "خميس" بأكواب الشاي التي دارت بينهم فارتشفوها في تؤدّة غير
مكترثين بأهل البلد الذين كانوا يتصببون عرقاً وقد احمرّت أقفيتهم من الشمس المتأجّجة.