جعلوني مواطناً (3)
وفي شركة المياه وبعد
عدّة زيارات ومساجلات ومجادلات مع كثيرٍ من الموظّفين توصّل "صالح"
للسبب الحقيقي وراء ارتفاع قيمة الفاتورة بعد أن أخبره آخر موظّف بقوْله :
- بص يا سيدي.. إنت
استهلكت بما قيمته عشرين جنيه خلال الشهرين اللي فاتوا.. بس إيجار العدّاد ف الشهر
تلاتين.. واللايحة بتقول إن الفاتورة تطلع بأيهما أكتر الاستهلاك أو الإيجار.. علشان
كده دفّعناك ستّين جنيه.. بس خلاص.
- يعني هيّ غلطتي
إني باوفّر ف استهلاك الميّه؟
- حد قال لك وفّر.. خلّيك
براحتك.. علشان تستفيد بالفلوس اللي بتدفعها.. بدل ما تروح ع الفاضي.
- وبعدين تعالى هنا إيجار
إيه اللي انا بادفعه للعدّاد.. مش انا دافع ألف وربعمية جنيه ثمن المقايسة والعدّاد..
يعني العدّاد ملكي.. أأجره من تاني ليه؟
- لأ ما هو احنا ما
عندناش عدّادات تمليك.. الفلوس اللي دفعتها دي حق ما سمحنا لك باستخدام العدّاد.. روح
ادفع بقى.. ما توجعش دماغنا.
- لا.. أنا الكلام
ده ما ينفعنيش.. أنا موظّف رسمي كبير.. مانيش دافع حاجة واللي عندكم اعملوه.. فين
المدير اللي هنا؟
- ف الدور الفوقاني.
- ماشي.. أنا ح
اورّيكم.
ودار
"صالح" حول نفسه دورةً كاملة واتّجه من فوْره إلى الخزينة ليدفع قيمة
الفاتورة كاملةً وهو صاغر الخد مطأطئ الرأس فلم ينسَ - وهو موظّفٌ عمومي - أن يد
الحكومة باطشة وأنها تستطيع أن تزيل العدّاد وتقطع المياه إن لم يدفع ما عليه
بالقرش والملّيم.
ولم يكن
"صالح" أحسن حالاً في شركة التليفونات عن سابقتيْها فلم يستطع معرفة
مصدر المكالمات الزيادة التي حاسبوه عليها في آخر فاتورة وانتهى الأمر عندما نهره
الموظّف المسؤول بقوْله :
- باقول لك إيه يا
جدع انت.. ما تقرفنيش.. غور ف داهية ادفع اللي عليك.. جتكم القرف.. مليتوا البلد.
- لا.. إنت بتتكلّم
معايا ازّاي بالأسلوب ده؟.. أنا الكلام ده ما ينفعنيش.. أنا موظّف رسمي كبير.. مانيش
دافع حاجة واللي عندكم اعملوه.. فين المدير اللي هنا؟
- تعالى له بكره
ياروح ماما.
- ماشي.. أنا ح
اورّيكم.
ودار
"صالح" حول نفسه دورةً كاملة واتّجه من فوْره إلى الخزينة ليدفع قيمة
الفاتورة كاملةً وهو صاغر الخد مطأطئ الرأس فلم ينسَ - وهو موظّفٌ عمومي - أن يد
الحكومة باطشة وأنها تستطيع أن تزيل العِدّة وتقطع الحرارة إن لم يدفع ما عليه
بالقرش والملّيم.
أمّا في شركة الغاز
الطبيعي فقد كانت المعاملة أكثر رُقيّاً وسُموّاً فقد أوضح له المختص سبب مبلغ
الفاتورة المبالغ فيه قائلاً :
- سيادتك يا فندم
المتر المكعّب من الغاز سعره زاد أربعين ف الميّة.. وممكن كمان يبقى فيه تسريب ف
مواسير الغاز أو ف نقطة الاستهلاك.. البوتاجاز أو السخّان مثلاً.
- طب ما تبعتوا حد
يكشف ويشوف إيه المشكلة.. أحسن يبقى فيه فعلاً تسريب ويحصل انفجار ونروح ف داهية.
- بعد الشر يا باشا..
أنا ح ابعت لك فنيين الصيانة بكرة الصبح على طول.. خد انت بس الوصل ده ادفع بيه
رسوم الكشف والصيانة ف الخزنة وانت بتدفع الفاتورة عقبال ما اطلّع لك أمر الشغل.
- إيه ده؟.. الرسوم
ميّة وخمسة جنيه؟
- أيوه يا فندم ولو
فيه إصلاحات أو قطع غيار ح تُسْتَخدَم ح يبقى فيه رسوم تانية بحد أدني ميتين وعشرة
جنيه.. إحنا ف خدمتك دايماً.. بس روح حضرتك ادفع قوام قبل ما الخزينة تقفل.
- لا.. أنا الكلام
ده ما ينفعنيش.. أنا موظّف رسمي كبير.. مانيش دافع حاجة واللي عندكم اعملوه.. فين
المدير اللي هنا؟
- سيادتك مدير الفرع
مش فاضي.. عنده اجتماع مع رئيس القطاع.. ممكن سيادتك تقابل الاسطى
"سباعي" مكانه.
- ماشي.. أنا ح
اورّيكم.
ودار
"صالح" حول نفسه دورةً كاملة واتّجه من فوْره إلى الخزينة ليدفع قيمة
الفاتورة كاملةً وهو صاغر الخد مطأطئ الرأس فلم ينسَ - وهو موظّفٌ عمومي - أن يد
الحكومة باطشة وأنها تستطيع أن تزيل العدّاد وتقطع الغاز إن لم يدفع ما عليه
بالقرش والملّيم.
وخرج "صالح
المصري" من شركة الغاز وهو يغلي من شدّة الحنق والغضب فقد أدرك أن مؤسسات
الحكومة المختلفة تسرق المواطن الذي لا حول له ولا قوّة وأن العلاقة بينهما قائمة
على عقود إذعان طرفها الأضعف دائماً هو المواطن الذي يلتزم بجميع واجباته ولكن ليس
له أي حقوق حتّى في انتظام تقديم الخدمة التي تنقطع غالباً وأن من حق الدوْلة أن
تفعل بالمواطن ما تشاء دون مقاومةٍ منه وإلّا اعتبرته خارجاً على النظام والقانون،
وتذكّر "صالح" ما حدث لابن عمّه الذي سُرِقَت سيّارته العام الفائِت
فأبلغ الشرطة ولكنها فشلت أو تقاعست في العثور على السيّارة المسروقة فاضطر الرجل
لشراء سيّارةٍ جديدة وعندما ذهب لمصلحة المرور لترخيصها طالبوه بدفع ما عليه من
متأخّراتٍ للدوْلة والتي اتضح أنها عبارة عن ترخيص وتأمين وضرائب عام كامل عن
السيّارة المسروقة فدفع الرجل هذه المتأخّرات بعد أن هدّدوه بالسجن في حال رفضه ثم
اضطر أيضاً لدفع ضريبة ترفيهيّة إضافيّة باعتباره رجلاً موسراً يملك سيّارتيْن
معاً، وتساءل "صالح" في سريرته : لماذا تصر الدولة على أخذ جميع حقوقها
من ضرائب وتأمينات وتمغات ورسوم ولا تقوم هي بواجباتها نحو المواطن الذي يدفع كل
هذه الأموال دون أن ينال مقابلها ما يستحق من أمنٍ وأمانٍ وخدماتٍ في الشوارع والمدارس
والمستشفيات؟
ومكث
"صالح" مشغولاً يفكّر في هذا الأمر أيّاماً عدّة وخَلُص في النهاية أنّه
لابد له أن يحصل على حقّه ولو بالقوّة فتغيّر سلوكه القويم نحو الدوْلة وتبدّلت
تصرّفاته نحو مؤسساتها وصمّم على أن يستحوذ على أكبر قدر من المغانم وأن يجني أكثر
كميّةٍ من المكاسب من وراء تلك الدوْلة الغاشمة الظالمة.
ولم ينقضِ أسبوعٌ
حتّى كان "صالح" أستاذاً في مخالفة القانون ومعلّماً قديراً في تكسير
اللوائح وفنّاناً في الاستيلاء على حقوق الدوْلة وإهدار مواردها على قدر ما يستطيع
: فكان كلما استقل المواصلات العامة قام بتمزيق الكراسي بموسى كان يحملها دوّماً
معه، وكان يضع مغناطيساً أسفل عدّاد الكهرباء ليحدّ من دورانه فانخفضت قيمة فاتورة
الكهرباء، وأصدر تعليماته لزوجته وأبنائه بأن يتركوا صنابير المياه مفتوحةً عن
آخرها فتراتٍ طويلة حتّى يقلّل الفرق بيْن استهلاكه الفعلي وقيمة إيجار عدّاد
المياه، كما استطاع أن يسطو على سلك الخط التليفوني الواصل للمدرسة المجاورة
لمنزله فأوصل منه سلكاً لعُدَّة هاتفٍ اشتراها ليستخدم هذا الهاتف ذو الخط المسروق
في إجراء المكالمات الطويلة ليضمن أن تأتي فاتورة تليفونه بلا مكالماتٍ زائدة،
أمّا عدّاد الغاز الموجود داخل شقّته فكان يفك مساميره ويعيد أرقامه إلى الخلف
فصار يدفع مقابلاً ضئيلاً كل شهر، واعتبر أن ما يسرقه من أموالٍ عامة هو حقّ له وتعويضاً
عمّا سُرِق منه طوال الفترة الماضية.
ولأن العند يورِّث
الكُفر فقد ساءت أخلاق المواطن "صالح" الشخصيّة تجاه كل الأمور وبمرور الوقت
لم يصبح لصّاً لأموال الدوْلة فحسب بل أمسى لصاً لأموال المواطنين الآخرين فاستمرأ
أكل السُحت واعتاد على تبرير قبول الرشاوى واستحلّ العيش الحرام.
ولم تمر سوى ثلاثة أعوامٍ حتّى أُلقي القبض عليه بعد أن أرشد عنه أحد مموّلي الضرائب في قضيّة رشوةٍ مُحْكَمة حُكم عليه فيها بالعزل من الوظيفة والسجن مع الشغل خمسة أعوام ولم يشفع له أنه اتّهم الدوْلة بأنّها من دفعته دفعاً إلى مخالفة القانون بل أنّها كانت أوّل من أرضعته الإجرام وربّته على الجريمة.