(28) داخل جبل النار
استأنفنا الرحيل قبل
أن يطلع فجر اليوْم التالي، فاجتزنا مدينة "خور" والخندق المُحيط بها،
ثم انطلقنا في السهل الواقع وراءه، وللمرَّة الأولى مُذ غادرنا المدينة تكلَّمت "عائشة"
فقالت:
- يقولون أن "خـور" مسكونةٌ
بالأرواح والشياطين .. ولا أحسبهم أخطأوا فيما قالوا لأنني رأيت أمس في نوْمي
أحلاماً مُروِّعة .. ولست أدرى بماذا تُنذِرني هذه الكوابيس الغريبة .. لذلك فقد عزمت على ألّا أزور هذه المدينة
المشئومة مرَّةً أُخرى لأنها نذير سوء.
وكفَّتْ "عائشة"
عن الكلام، ثم أمرتْ فأعدَّ الخـدم الطعام، وبعد أن تناولناه استأنفنا السيْر
بسرعةٍ حتى إذا ما وافت الساعة الثانية كنا قد بلغنا سفح السـور الصخري الذي يحد
البحيْرة الواسعة.
كان السور شديد
الانحدار في تلك البُقعة، ويمتد إلى مسافة ألفيْ قدم، فتوقَّفنا عن السيْر، وهبطت "عائشة"
من هوْدجها وقالت:
- سنترك هؤلاء الرجال هُنا .. ونتمِّم
رحلتنا سيْراً على الأقدام.
وتحوَّلتْ إلى "بلالٍ"
وأمرته بانتظارنا حتى نعود، ثم طلبتْ إليَّ أن آمر "جوب" أن يتبعنا بعد أن
يحمل لوْحاً من الخشب طوله ستة عشر قدماً كان مشـدوداً إلى هوْدجها.
وقد حمل "جوب"
اللوْح ومصباحاً، بينما حملتُ أنا المصباح الآخر فوق ظهري وزجاجةً من الزيْت، وأما
"ليو" فحمل المؤن وكيساً من الجلد به ماء، وأخيراً قالت "عائشة":
- هل أنتم على استعداد؟
فلمّا أجبناها بالإيجاب
شرعت ترتقي أكمةً عاليةً ونحن في أثرها، حتى إذا صِرنا على مسافة خمسين قدماً من قِـمَّة
الأكمة انعطفنا إلى اليسار وسِرنا نحو سبعين خطوة، ولم نلبث أن وصلنا إلى طريقٍ ضيّقٍ
أخذ يزداد اتساعاً وانحداراً إلى أسفل كلّما تقدَّمنا فيه، وقد انتهى هذا الطريق
فجأةً إلى كهفٍ طبيعيٍ نفذتْ إليه "عائشة"، ثم أمرتنا أن نوقِد المصباحيْن
ففعلنا، وعندئذٍ تناولتْ هي أحدهما وحملتُ أنا الآخر.
وتقدَّمتنا "عائشـة"
داخل الكهف وهي تسير بحذرٍ لخطورة الطريق، إذ كان أملس في بعض أجزائه، كثير الحُـفَر
في البعض الآخر، بحيث لو كبَّ (تعثَّر) فيها الإنسان لتهشَّمت أعضاؤه.
وأخيراً؛ وصلنا إلى
نهاية الكهف فتوقَّفنا في سيْرنا، وعندئذٍ هبَّت ريحٌ شديدةٌ أطفأت المصباحيْن، ونادتنا
"عائشة" - وكانت تتقدَّمنا بمسافةٍ قصيرة - فزحفنا إليها، ولشد ما دُهِشنا
وأخذنا الإعجاب إذ وقعت أبصارنا على منظرٍ فريد، رأيْنا هوَّةً سحيقةً وسط صخرةٍ
سوْداءٍ يبدو أنها تفتَّتت في إحدى ثوْرات الطبيعة، وكانت هذه الهوَّة محاطةً
بمنحدرات، وبرغم أننا لم نتمكَّن من رؤية نهايتها المُقابِلة فقد أدركنا - من شِدَّة
الظلام - أنها ليست عريضةً إلى حَدٍّ كبير، بيْد أنني لم أستطع تحديد عمقها، فقد
كنا نبعد عن قِـمّة الأكمة بنحو ألفيْ قدم على الأقل، وكان يمتد من فوَّهة الكهف
الذي سرنا فيه نتوءٌ صخريٌ كبيرٌ يمتد فوق الهوَّة إلى مسافة خمسين ياردةٍ تقريباً،
وكان هذا النتوء مُدبَّباً في النهاية ويتَّصل بالأكمة عند القاعدة فقط.
قالت "عائشة":
- يجب أن نمشي فوق هذا النتوء .. فاحذروا
أن يصيبكم الدوار فتسقطوا في الهوَّة.
وشرعتْ تسير فوق
النتوء دون أن تترك لنا مُتَّسَعا من الوقت كيلا يتسرَّب الخوْف إلى قلوبنا، فتبعناها
دون تفكيرٍ أو تدبير، وكنتُ أسير خلفها مباشرةً يليني "جوب" وهو يحمل
اللوْح الخشبي ثم يليه "ليو" لكن ما أن تقـدَّمتُ بِضـع خطواتٍ حتى شعرتُ
باضطرابٍ غامضٍ وتملَّكني الخوْف من ضغط الهواء، وكذلك لاعتقادي أن أی انزلاقٍ يُفضي
إلى سقوط الإنسان في هذه الهوَّة السحيقة، وحينئذٍ انبطحتُ على وجهي وزحفتُ على يديَّ
وقدميَّ خشـية الزلل فاقتدی بي زمیلاي، وأمّا "عائشة" فسارت في طريقها
وهي تتمايل بجسمها ضد الريح دون أن تفقد توازنها.
اجتزنا نحواً من
عشرين خطوةً على هذه الحال، وكنا كلّما تقدَّمنا في زحفنا فوق هذه القنطرة المُروِّعة
ازدادت ضيقاً، لكن حدث أن هبَّت ريحٌ عاتيةٌ جعلت "عائشة" تتمايل بشدَّةٍ
حتى خُيِّل إليَّ أنها تكاد تفقد توازنها وتهوى إلى الحضيض، بيْد أنها استطاعت أن
تحتفظ بتوازنها وتنجو من السقوط، ولكنها خسرت إزارها الأسود الذي حملته الريح معها
وألقته في جرف الهوَّة المُظلِمة، وأمّا أنا فتشبَّثتُ بالصخرة، وقلَّبت الطرف حوْلى
في خوْف فرأيْتُ المنظر مُروِّعاً والموْقف أروع، فقد كنا مُعلَّقين بين السماء
والأرض، تحتنا هوَّةٌ لا قرار لها، وفوقنا فضاءٌ لا نهاية له، بينما كانت الريح
تعصِف بشِدَّة وتدفع أمامها سُحُباً من الغبار أعمى عيوننا.