جعلوني مواطناً (2)
وسارع
"صالح" إلى عمله بمصلحة الضرائب متعجّلاً حتي يلحق بإمضاء حضوره للعمل
في دفتر الحضور والانصراف قبل أن يتم إرساله إلى شؤون العاملين فيُكتب اسمه في
دفتر المتأخّرين، وأخيراً استوى "صالح" على مقعده الخشبي وراء مكتبه
الذي اختفى تحت تلالٍ من الملفّات والأوراق وقبل أن يأخذ نَفَسه عاجله الساعي بكوب
الشاي الأسود اليومي فتجرّعه سريعاً حتّي يتفرّغ لمقابلة المموّلين الذين سجّلوا
شكاوى لمعارضة التقدير الجزافي لمأموري الضرائب العاملين بالمصلحة التي يتبعها
"صالح" المخوّل له بالبت الأخير في مبلغ الضريبة السنوي لهؤلاء المموّلين
بعد مناقشتهم وكتابة تقريرٍ وافٍ عن كلٍ منهم.
ودخل المموّلون
تباعاً ليناقشهم "صالح" كلاً على حدةٍ فلم تخلُ الحال من بعضهم الذي عرض
تلميحاً أو تصريحاً مبلغاً من المال على سبيل الرشوة حتّى يضع "صالح"
التقرير في صالحه فلا يدفع الكثير حقاً عليه للدوّلة من الضرائب والمكوس التي
تُنفق على الخدمات التي تقدّمها الدولة لمواطنيها كالمدارس والمستشفيات والمرافق
المختلفة، وفي كل مرّةٍ رفض "صالح" رفضاً تامّاً قبوله للرشوة تحت أي
مسمّى بل كان يعطي من يعرض عليه الرشوة درساً في الأخلاق والوطنيّة وصفات المواطن
الصالح، وعندما أعلنت الساعة الحادية عشر عن نفسها تقدّم "صالح" بإذن
إلى رئيسه في العمل كي يسمح له بالانصراف مبكّراً ليلحق بدفع الفواتير المستحقّة
عليه قبل تطبيق الغرامة على التأخّر في دفعها ؛ فوافق الرئيس بعد أن وعده
"صالح" بإنهاء كافّة الملفّات المعلّقة قبل انصرام هذا الأسبوع.
وفي طريقه لشركة
الكهرباء استقل "صالح" إحدى الحافلات بعد أن دفع جنيهاً نظير التذكرة ولكنه
فوجئ بأن الحافلة تعود أدراجها قبل ثلاث مِحطّاتٍ من مكان نزوله فتوجّه للمحصّل
(الكمساري) ليستفهم منه عن السبب فردّ عليه قائلاً :
- أصلهم قفلوا
الشارع ده؟.. خلّوه اتجاه واحد علشان إجراءات الأمن.
- طب واحنا ذنبنا
إيه؟.. وأخدت جنيه ليه ما دام انا راكب نص السكّة بس؟
- يعني هوَّ انا
حطّيته ف جيبي!.. مش أخدت بيه تذكرة؟
- أيوه بس انا حقّي
أركب لغاية المكان اللي انا عايزه ما دام ف خط سير الأتوبيس.. ولّا يعني ح اركب
التذكرة وهيّ اللي ح توصّلني.
- يا عم انت ح
تشترينا بأم الجنيه الأعمى اللي دفعته.. المرّة الجايّة تبقى تركب تاكسي يا خويا.
ولم يستطع
"صالح" الجدال أكثر من ذلك بعد أن ابتعدت الحافلة أكثر فأكثر فقفز منها
متعجّلاً فوقع على أرض الشارع فانخلعت نظارته ووقعت داخل إحدى بالوعات الصرف
المفتوحة على مصراعيها والتي تصادف وجودها بالقرب من "صالح" الذي شكر
ربّه على أنّه نجّاه من الوقوع داخل البالوعة وجعل النظّارة قرباناً مكانه، وسار
"صالح" بدون نظّارته يتخبّط في المارّة حوله حتّى وصل إلى شركة الكهرباء
فشكى للموظّف المختص غلاء الفاتورة التي ارتفعت عن متوسّط استهلاكه الشهري بمقدار
مائة وخمسون جنيهاً على الأقل فأحاله هذا الموظّف إلى زميلٍ آخر الذي حوّله إلى
زميل ثالث الذي بحث عن ملفّه على شاشة الكمبيوتر ثمّ أفاده بقوْله :
- دول مش مية وخمسين
زيادة ف الفاتورة.. دول ميّة تلاتة وستّين جنيه.
- بارك الله فيك.. بتوع
إيه دول بقى؟
- دول استحقاقات
عليك.. بس مش باين بتوع إيه.. يمكن بتوع الفرق بين العدّاد الفعال والغير فعّال.
- ها!؟
- زي فرق استخدام
الأسانسير.
- ما فيش أسانسير
أصلاً.
- يمكن عندكم
انتركوم مركزي بيستهلك كهربا؟
- برضه ما فيش.
- لازم بقى تروح
المركز الرئيسي علشان تعرف.. الفرع هنا مش ح يفيدك.
وبعد لأيٍ وجهدٍ
جهيد وصل "صالح" إلى المركز الرئيس فقابل عدّة موظّفين حتّى وصل إلى
السادس الذي أجاب عليه وهو يعقد حاجبيْه يكاد أن يتقيّأ من الرد على هؤلاء
المواطنين الجاهلين مثيري الاشمئزاز :
- يا سيّد شركة
الكهربا مش ح تسرقك.. روح ادفع وانت ساكت.
- يعني يا أستاذ مش
من حقّي أعرف الفلوس اللي باكعّها دي نظير إيه؟.. مش كفاية الكهربا اللي بتقطع
مرّة واتنين كل يوم.
- متقيّد عندي إنها
استحقاقات عن السنة اللي فاتت نتيجة الفرق في معامل القُدْرَة.
- نعم؟
- معامل القدرة دي
تقدر تقول إنّها نسبة الفاقد ف الكهربا اللي بتوصلك.
- والفاقد ده بيروح
فين؟
- بيروح ف العدّاد والأسلاك
والتوصيلات.
- يعني أنا مش
باستفيد من الفاقد ده.
- يا رب صبّرنا.. لأ
طبعاً.. باقول لك فاقد.. يبقي ح تستفيد منه إزّاي؟
- وادفع ليه تمن
حاجة مش باستفيد منها؟
- أومّال عايز
الشركة اللي تدفع.. إيه انتم عايزين تاكلوا البلد؟
- يا راجل خلّيك
حقّاني شويّة.. كلامك ده مش منطقي.
- أنا ح ابسّطها لك..
لو الراجل بتاع اللبن جا لك البيت وحط لك ف اللبّانة بتاعتك كيلو لبن وبعدين وانت
رايح تشيله ف التلّاجة انكب منّه ربع كيلو.. ح تحاسب اللبّان على كام؟.. كيلو ولّا
كيلو إلّا ربع؟.. ها.. اعترض بقى.
- دي غير دي.. الربع
كيلو لبن أنا اللي وقّعته مش هوّ.. يبقى اتحمّل غلطتي.. إنما الفاقد بتاع الكهربا
مش بسببي.. أنا ذنبي إيه؟.. وبعدين عرفتوا منين إن الفاقد يساوي مية تلاتة وستّين جنيه
بالظبط؟.. هوَّ فيه عدّاد للفاقد؟
- لأ يا ناصح.. إحنا
بنحدّد قيمة الفاقد بالظبط بعد ما ناخد متوسّط الاستهلاك الشهري على مدار سنة
كاملة وبعدين بنضربه ف معامل القدرة ونقسمه على كميّة الطاقة الكليّة والناتج
بناخد الجذر التكعيبي بتاعه ونضيف له 2 ط نق تربيع.. ها.. هبطت.. ارتحت؟.. روح
ادفع بقى خلّينا نشوف غيرك.. مش ناقصين عطلة.
- لا.. أنا الكلام
ده ما ينفعنيش.. أنا موظّف رسمي كبير.. مانيش دافع حاجة واللي عندكم اعملوه.. فين
المدير اللي هنا؟
- ف آخر الطرقة يا
خويا.
- ماشي.. أنا ح
اورّيكم.
ودار
"صالح" حول نفسه دورةً كاملة واتّجه من فوْره إلى الخزينة ليدفع قيمة
الفاتورة كاملةً وهو صاغر الخد مطأطئ الرأس فلم ينسَ - وهو موظّفٌ عمومي - أن يد
الحكومة باطشة وأنها تستطيع أن تزيل العدّاد وتقطع الكهرباء إن لم يدفع ما عليه
بالقرش والملّيم.