تحقيق (2)
احتلّت الحادثة
مكانها في صفحة الحوادث، قرأ بعنايةٍ وانتباهٍ کامل، بدأت بملاحظةٍ عابرة من البوّاب
لباب شقّة المقاول "حسنين جوده" الذي لم يكن مغلقاً كعادته وانتهت
باکتشاف جثّة زوْجة المقاول الموظّفة، اتصل بشرطة النجدة، تبيّن أن المرأة خُنِقَت
بيْنما كان زوجها في رحلةٍ تجاريةٍ بـ"الإسكندريّة"، لم تُكْتَشَف سرقة،
عُثر على زجاجة كونياك وعلبة شيكولاته، وطبعاً التحقيق ماضٍ في طريقه إلى الكشف عن
أسرار الجريمة والقبض على القاتل، ووجد الموظّفين واجمين والجوْ مشحوناً بأخبار
الجريمة وتأويلاتها، ثمّة حسرةٍ ورثاء، وتساؤل عن بواعث الجريمة، وعن معنى وجود
الكونياك والشيكولاته في غياب الزوج، وقال أحدهم:
- كل شيءٍ مفهوم ولكن لِمَ قتلها؟
أجل لِمَ قتلها؟،
وقعت الواقعة في مجال نفسه وهو لا يفقه لها معنی، ليس الواقع كما يتصوّرون وسوف
يندفعون جميعاً کالسکاری في طريق الضلال ليرتكبوا جريمةً أخرى، وقد جاءهم صاحب
الحذاء بقدميْه لكنهم يتساءلون عن صاحب الخمر والشيكولاته، هو وحده يتشوّق لمعرفته
وکشف سِرّه المغلق فلعلّه يعثر عليه في الجنازة، بل يجب أن يعثر عليه في الجنازة
كما يقضي به المنطق، وذهب ممتلئاً بالتصميم بقدر ما هو ممتلئٌ بالشجن، وتفحّص بعينٍ
ثاقبةٍ أهل الفقيدة من المستقبِلين، رأى الزوْج الذي يوشك أن يصرعه المرض، ورأى
آخرين، ولكنه لم يعثر لضاّلته الماكرة على أثر، وسار وراء النعش وهو يختلس إليه
النظر بقلبٍ منقبض، وكاد – إلى حين – ينسى مخاوفه تحت موجة الحزن التي غمرته، وتذكّر
قصة حبه القصيرة العميقة التي مضت في عناءٍ ولم تخلّف إلّا التعاسة والرعب.
*****
مَن هو صاحب الحذاء الأبيض؟، هل رآه البوّاب
ليلة الجريمة وهل يعرفه؟، أمّا هو فقد رآه البوّاب، ولمّا سأله عن مقصده أخبره أنه
ذاهبٌ إلى طبيب الأسنان بالدور الثالث، وإلى العيادة ذهب فعلاً للكشف والتنظيف
تنفيذا لتدبیرٍ حکیم اتفق عليه مع الفقيدة، فمِن تلك الناحية لا خوْف عليه.
وقال موظّفٌ بالإدارة بعد أن فرغ من قراءة
الجريدة:
-
الأمور تتّضح ..
فالزوج مریضٌ جداً .. وله مطلّقةٌ أنجب منها شابّاً وشابّةً جامعييْن، والعلاقة
بينه وبين أسرته الأولى سيئةٌ جداً.
فقال ثانٍ:
-
وإذن فَيَهِمُّ
أسرته الأصليّة التخلّص من الزوْجة الجديدة قبل أن تستولى على أموال أبيهم.
وتساءل ثالثٌ:
-
هل من علاقةٍ بين
ابن المقاول وبين الخمر والشيكولاتة؟
فقال الأول:
-
لن يفوت المحقق شيءٌ
من ذلك.
فقال رابعٌ:
-
سيصلون إليه عن طريق
الزجاجة والعلبة.
فقال "عمرو" وهو يداري حنقه:
-
توجد آلاف الزجاجات
وآلاف العلب!
-
ولكن العلبة تدل على
الدكّان والدكّان تدل على الشاري، وقد يعثرون على لفافة الزجاجة فيُعرَف المخزن أو
المحل.
-
ثم يُعرَض الشاب أو
المتّهم على عمّال المحل والمخزن.
جميع الأدلة متوفّرة إذا تركّزت الشبهات في
الزجاجة والعلبة، فکّر في ذلك طويلاً وقلبه يغوص في أعماقٍ من الكآبة، وعاد الموظّف
الأوّل يقول:
-
الأمر واضح، ابن
المقاول أنشأ علاقةً مع المرحومة ثم قتلها.
لعل ذلك كذلك، أو لعل القاتل هو صاحب الحذاء
الأبيض، أو لعل ابن المقاول هو صاحب الحذاء الأبيض، إن صَحَّ احتمالٌ من تلك
الاحتمالات فقد نجا هو من كل سوءٍ كما ينبغي له، أمّا إذا أصر المحقّق على تتّبع
أثر صاحب الخمر والشيكولاته فلن يعجز عن الوصول إلى مصدرها، وهو "عمرو" معروفٌ بشخصه دون هويْته لدى
صاحب محل "الزهرة" كما هو معروفٌ عند فتاة حلواني "ألف ليلة"،
وغير بعيدٍ أن أوْصافه تتردّد في هذه اللحظة على الشفاه بين جدران حجرة التحقيق.
*****
ونُشِرَت صور "لُطفيّة" و"حسنين"
زوْجها و"محمد" ابنه لأوّل مرّةٍ في الجريدة، وتبيّن لـ"عمرو"
أن ابن المقاول شخصٌ آخر غيْر الشاب صاحب الحذاء الأبيض، وتابع تعليقات الموظّفين
بالإدارة باهتمامٍ وتركيز:
-
تقول الجريدة إن
الشرطة عثرت على خيوط يمكن أن تؤدي إلى القاتل.
-
لعلّها تقصد الشاب
ابن المقاول؟
-
أو الزجاجة والعلبة؟
-
سر الجريمة كامنٌ في
الزجاجة.
ورفع الرئيس رأسه عن رسالةٍ كان يقرؤها
بإمعانٍ ثم قال:
-
يا جماعة: نحن
مطلوبون جميعاً لسماع أقوالنا.
*****
شهد كل موظفٍ بما يعلمه ولم يكن ذا بال، مثل
تاريخ التحاق "لُطفيّة" بالعمل منذ عشرة أعوام، وزواجها منذ عامين، وشهد
لها الرئيس بحسن السير والسلوك والمعاملة، وبأنها كانت موظفةٌ ممتازة، ولكن الفرّاش
عم "سليمان" أدلى بواقعةِ مهمّة فقال إنه رآها مرّةً بصُحبة شابٍ قبيْل
زواجها وهو نفس الشاب الذي جاء الإدارة صباح الجريمة سائلاً عنها، وأكد الجميع
واقعة الزيارة الصباحيّة وأعطوا أوْصافاً تقريبيّة للشخص، واهتم المحقّق بالواقعة
بطبيعة الحال، ولما دُعي "عمرو" لأخذ أقواله عن الشخص المجهول وصفه بدقّةٍ
ملحوظة: طوله وحجمه ولونه وملابسه حتى الحذاء، فقال له المحقّق:
-
يبدو أنك تفحّصته
بعناية!
فتضايق "عمرو" من الملاحظة ولكنه
قال بثبات:
-
كان يقف أمامي
مباشرةً.
وكان "عمرو" يشعر طيلة الوقت بضيقٍ
وتوتّر فزادته الملاحظة ضيقاً وتوتراً، وضاعف من همه ما ذاع في حجرة المحقّق من
أنه ثبت أن ابن المقاول كان في رحلةٍ جماعيّةٍ ليلة الجريمة، وأن الشبهات تبدّدت –
بالتالى – مِن حوْله.
*****
تقمّص دماغ المحقّق فطارد نفسه بنفسه، مَن
الشاب الذي رآه عم "سليمان" مع الفقيدة ولِمَ زار مكتبها صباح ارتكاب
الجريمة؟، محتمَل أن يكون صاحب الخمر والشيكولاتة أو يكون شخصاً آخر لا علاقة له
بالجريمة، السر قابعٌ وراء الزجاجة والعلبة، فلنتخيّل القصة من بدايتها عندما بدأت
بغرام، انتهز العاشقان فرصة سفر الزوْج فتواعدا في بيْت الزوْجية، وفي الموْعد
المضروب تسلّل الشاب إلى العمارة، ولأنها عمارةٌ ضخمةٌ بها أكثر من عيادةٍ طبيّة
فالتسلّل إليها يسير، وها هو يجالسها كما يفعل العشّاق، كيْف ومتى سيْطرت فكرة
القتل؟، إنها لا تُخلَق بغتةً وبلا مقدِّمات، ربما جاء بها جاهزةً معه وغير بعيدٍ
أن تنشأ عقب خلافٍ طارئٍ أو أثر ميلٍ من المرأة نحو إنهاء العلاقة، لعلّه شابٌّ غرٌ
ومحبٌّ حتى الجنون وقع في هوى امرأةٍ طموحٍ لا حَد لطموحها فتزوّجت من المقاول
وأبقت على علاقة الشاب بها لتستحوذ على المال والجاه والحب فكرهها بقدر ما أحبها
ولما قالت له بدلال وهي تلاطفه "اخنقني" طوّق عنقها بقبضتيْه وشد بكل
عنف فلم يتركها إلا جثّةً هامدة، ارتكب جريمته ثم هرب ولكنه نسي وراءه الزجاجة
والعلبة، سيظل مهدَّداً بأن تراه فتاة حلوانی "دمشق" أو صاحب محل "الزهرة"
أو يساق إليهما في ظرفٍ ما
فيتعرّفان عليه، ويتضح أنه زميلٌ للفقيدة في إدارةٍ واحدة فتقوى الشبهة وتتوطّد،
وإذا اعترف بأنه صاحب الزجاجة والعلبة وبأنه كان عشيق المرأة فأي قوّةٍ يمكن أن
تدفع عنه التهمة أو تنقذه من حبل المشنقة مهما أنكر وأصر على الإنكار ؟!