تحقيق (3)
من الحكمة أن يكمل علاجه عند طبيب الأسنان،
ها هو الطريق مرّةً أخرى وها هي العمارة، تُرى أما زال "حسنين جوده" يشْغل
العمارة؟، وجد البوّاب فوق الأريكة وراء الباب مباشرةً، إنه صعيدي فيما يبدو، ولف
سيجارةً ومضى إلى الداخل فقام الرجل وتبعه، دخل المصعد وراءه فقال باقتضاب:
-
الدكتور "نصر"
طبيب الأسنان.
وهو يغادر المصعد في الدور الثالث حانت منه
نظرةً إلى الأرض فرأى حذاء البوّاب فارتعدت مفاصله: حذاءً أبيض ذو سطحٍ بُنّي، مضى
إلى العيادة بذهنٍ مشتّت، أيكون البوّاب هو القاتل؟، ولكنه يذكر تماماً أنه رأى
الحذاء تحت طرفيْ بنطلونٍ لا جلباب، أم يكون البصر قد خدعه؟!، وغرق في ذهوله حتى دُعي
إلى حجرة الكشف، جلس وهو يتساءل:
-
هل ينتهى التنظيف في
هذه الجلسة؟
فقال الطبيب:
-
أراك نافد الصبر.
فسأله :
-
ما أخبار الجريمة ؟
-
آه .. تلك المرأة!
.. كنت أعرفها جيداً فقد حضرت مع زوجها عند ترکیب ضرسيْن له!
-
حقا ؟!
وندم على ثرثرته أما الطبيب فقال:
-
عم "خليل"
التمرجي .. أعتقد أنه رأى القاتل.
-
حقّاً ؟
-
إنه يسكن في حجرةٍ
فوق السطح وكان يمر أمام شقّة القتيلة عندما رأى رجلاً يغادرها.
-
أرآه جيداً؟
-
لا أدري.
-
كان يجب أن يدلي
بشهادته.
-
وقد فعل.
مَن الذي رآه التمرجي؟، ولأي درجةٍ تمكّن من
رؤيته؟، هل ساوره شكٌ من ناحيته؟!
*****
وكان يغادر باب الوزارة عندما شعر بشخصٍ
يلاحقه فالتفت وراءه فرأى عم "سليمان" الفرّاش، نظر إليه متسائلاً فقال
الرجل:
-
"عمرو"
بك .. الحق أني لم أشهد في التحقيق بكل ما أعرف.
فرمقه في دهشةٍ فقال الرجل:
كتمت شهادةً لو سمعها المحقّق لأتعب الأبرياء
بلا موجب.
-
ماذا تعني؟
فقال الرجل وهو يبالغ في الأدب:
-
رأيت حضرتك يوماً
وأنت تقبّل المرحومة في المصعد.
فهتف:
-
ماذا تقول ؟
-
رأيتك وأنت تقبّلها.
خذلته أعضاؤه في الواقع ولكنّه تماسك بقوّةٍ
فوْق طاقة البشر، وقال:
-
أنت أعمى بلا شك.
كتمتها خشية أن تدفع بك إلى موْطن الشبهات، فهتف:
-
أنت أعمى؟
فتراجع الرجل قائلاً:
-
لا مؤاخذة يا بك ..
ما قصدت سوءاً قط.
فتراجع بدوره قائلاً:
-
إنك على أي حال
تستحق الشُكر.
فقال الرجل وهو يمضي:
-
الشُكر لله .
إنه يتمزّق إرباً، لا أمان ولا سلام ولا قدرة
على تحمل مزيدٍ من العذاب
*****
قال "عمرو":
-
لا خبر عن الجريمة
في الجرائد؟
فقال موظّفٌ:
-
أكبر الأحداث يشغل
الصحف أيّاماً ثم يختفى كأن لم يكن.
وقال آخرٌ:
-
في رأيي أن النيابة
هي التي منعت النشر.
فسأله "عمرو":
-
لماذا؟
-
هكذا يتصرّفون إذا
اكتشفوا حقائق يجب إخفاؤها عن القاتل .
وشعر بنظراتٍ تلسع وجهه فالتفت بالغريزة ناحية
مكتبها فالتقت عيْناه بعيْنيْ عم "سليمان" وهو يحمل القهوة للرئيس، جن
بالقهر دقيقة ثم تساءل متى وكيف يشرع في ابتزاز أمواله؟!، ثلاثةٌ تمنّي أن يتخلّص
منهم: فتاة الحلواني وصاحب محل "الزهرة" وعم "سلیمان"، تمنّى
أن يتخلّص منهم ليتغلب على الأرق الذي احتل لياليه المضنية، وتتابعت المعجزات:
فصدمت سيارة نقل الفتاة الجميلة، وقُتِل صاحب محل "الزهرة" في معركةٍ
غادرةٍ مع أحد العمال، أمّا عم "سليمان" فقد مات فجأةً وهو يعمل في
المقصف.
ولم يكد يتذوق قطرةً من الراحة حتی دهمه صوت
الرئيس وهو يقول :
-
متى تبدأ العمل يا
سيد "عمرو"؟!
*****
وهبطت عليه فكرةٌ من السماء، أوْحت إليه بأن
البوّاب ليس بالمالك المناسب للحذاء الأبيض، الحذاء لا يناسبه لا من الناحية
الذوقيّة ولا من الناحية الاقتصاديّة، الأرجح أن يكون قد تلقّاه هديّة، فمن هو المَهدي
ومتى أهداه إليه؟، لعلّها فكرةٌ لا تقوم على واقعٍ ولكنها جديرةٌ بالاختبار، ومضى
لتوّه قاصداً عيادة الأسنان، وفي المصعد قال للبوّاب:
-
حذاؤك جميل.
نظر إليه الرجل نظرةً جامدة ولم يعلق فعاد
يسأله:
-
جاهزٌ أم تفصيل؟
أجاب الرجل:
-
ممكن تفصّل حذاءً
مثله عند "أمين" على ممر "الديلمي".
هي إجابةٌ وتخلّصٌ مِن الإجابة معاً قوّی سوء
الظن به، وكان ممر ا"لديلمي" قريباً، ودكّان الإسكافي في مطلعه على
اليمين، حيا الرجل وقال:
-
أريد تفصيل حذاءٍ
أبيض ذي سطحٍ بُنّي.
فأجلسه الرجل علی کرسيٍ من القش المجدول وراح
يسجّل مقاسات قدميْه، وفي أثناء ذلك قال له:
-
رأيت حذاءً مثله في
قدميْ بواب العمارة رقم ۱۱ بشارع ۲۹ يوليو فأعجبني، وهو الذي دلّني عليك.
فقال الرجل بهدوء:
-
ليس بين زبائني بوّاب!
فخفق قلب "عمرو" سروراً بسلامة
تفكيره وقال:
-
لعلّه أخذه هبةً من
أحد زبائنك.
-
يمكِن.
-
هل الطلب كثيرٌ على
هذا النوْع؟
-
من النادر أن يطلبه
أحد .. وطلبك هذا هو الثالث من نوْعه في العاميْن الأخيريْن.
فسأله باهتمامٍ متصاعد:
-
والآخران من أي
طبقة؟
-
أحدهما قارئٌ والآخر
.....
وتردَّد تردُّد مَن خانته الذاكرة فانحنی فوْق
دفترٍ مهترئ وفَرَّ صفحاته بسرعة و"عمرو" ينظر مِن فوْق كتفه، وقال
الإسكافي:
- "حسام فيظي" .. غالباً موظّف .. لا
يوجد في الدفتر إلّا العنوان، وغادر الدكّان وهو يحفظ العنوان عن ظهر قلب.