الجهل نورون (3)
وفي الموْعد المعلوم ذهب الوزير مع سكرتيره
بمفردهما دون حراسة وكان الوزير يرتدي مِعطفاً طويلاً وكوفيّة يغطّي بها معظم وجهه
لئلا يتعرّف عليه أحد، وجلسا ينتظران الشيخ بُرْهةً من الوقت حتَّى سُمِح للوزير
فقط بالدخول فدخل الوزير وَحده مضطرباً جزوعاً وهو لا يصدّق ما يفعله، ونفذ الوزير
إلى قاعةٍ فسيحة نصف معتمة يجلس في آخرها رجلٌ شابٌ ذو لحية طويلة لم تظهر ملامحه
جليّة تحت ضوء الشموع وكان هذا الرجل هو الشيخ "عارف" الذي هو في الأصل
"مصباح"، وكان منهمكاً في قراءة التعاويذ غير المفهومة وأصابعه تتواتر
في طي حبّات مسبحةٍ زرقاء كبيرة يقبض عليها بيده اليمنى في حين كانت يده اليسرى
مواظبةً على القذْف بيْن الفيْنة والأخرى ببعضٍ من مسحوق البخور داخل مبخرة كبيرة
يتصاعد منها الدخّان بكثافة راسماً في الهواء أشكالاً مختلفة تتغيّر كلما ارتفعت
مما أضفي على المكان جوّاً من الغموض والالتباس، وأشار الشيخ للوزير في هدوء أن
اجلس فجثم الوزير رابضاً في مكانه وهو يعقد ما بيْن حاجبيْه ليخفي ما يدور في
خلجات نفسه من أفكار، وإذا بالشيخ يقول :
- أنا عارف إنك جاي ومش مقتنع بىَّ.. وكمان
بتكرهني.. ويمكن ح تكرهني أكتر لو عرفت إن انا اللي ورا الملف اللي اختفى.
وحدّث الوزير نفسه بسرعة :
- فاكر إنه ح يفاجئني بإنه يعرف حكاية
الملف.. أكيد عرفها من "مخلص" لمّا جا له يحدد الميعاد.. حيلة قديمة مش
ح تنطلي علىَّ.. إلعب غيرها يا سيّدنا.. أنا صاحي لك قوي.. وطبعاً لمّا ح اقول له
عرفت منين ح يشتغلني ويقول لي من صاحبه شمهورش ملك الجان الاحمر.. بس إيه حكاية
إنه هوّ اللي ورا الملف دي؟.. أكيد حيلة من حيلهم اللي ما بتنتهيش.. عموماً خلّيني
معاه لحد باب الدار ابن الكدّابة ده.
ووجّه الوزير حديثه هذه المرّة للشيخ
"عارف" وسأله بصوْتٍ واضح في برود وكأنه يعرف الإجابة مسبّقاً:
- وعرفت منين حكاية الملف بقى يا سيدي؟
- من سكرتيرك لمّا جا لي النهار ده بعد
الضهر.
وتفاجأ الوزير من صراحة الشيخ فلم يتصنّع علم
الغيب كما توقّع ولكنه لم يدم التفكير طويلاً فقد استكمل الشيخ كلامه :
- إنما ما سألتنيش: إزّاي انا ورا الملف اللي
اختفى.. أنا ح اقول لك.. أنا جا لي واحد اسمه اللِوا "شوقي" وطلب مني
اخفي الملف اللي بَعَتهولك علشان تقدّمه بنفسك للريّس.. وده طبعاً علشان يحرجك مع
الريّس ويخلّص عليك خالص.. حاكم هوّ مشتاق يقعد ع الكرسي بتاعك.. بيني وبينك أنا
بارفض اعمل أعمال سفليّة أأذي بيها حَد.. بس لقيتها فرصة تخلّيني اجيبك لحد عندي علشان
تآمن بالجِن وبقدرتي على إني اقدر اسخّرهم لخدمتي.. فرُحت مسلّط واحد من الجان
علشان يخطف الملف من فوق مكتبك وف عِز الضهر.
فسأله الوزير وهو غير مصدّق لما يسمعه :
- يعني الملف معاك؟
فأجابه "مصباح" :
- طبعاً لأ.. الملف مع "أبانوخ"..
وده إسم الجنّي اللي مش ح يرجّع الملف إلا لمّا تلبّي كل طلباته الأوّل.
وقال الوزير وهو يتهكّم في شك :
- وطبعاً "أبانوخ" ده عاوز فلوس..
ياترى بالجنيه المصري ولّا بالدولار الأمريكي؟
فصرخ الشيخ بصوت عال في وجه الوزير الذي دبَّ
في قلبه الرُعب :
- مش عايز تريقة وقِلّة أدب.. أنا ممكن اسخطك
قَرد وانت ف مكانك.. إحنا ما بناخدش إلّا الحلاوة اللي انت عاوز تدفعها بعد ما
طلبك ينقضي.. إنت تيجي قبل الفجر ومعاك تلات ضفادع وديك أحمر وربع كيلو بخور جاوى
مطحون وشنطة اوراق فاضية من الجلد البُنّي وتيجي لابس اسود ف اسود من غير ملابس
داخليّة.. إتفضّل انصرف ف أمان ومش عايز كلمة زيادة.
وأطلق الشيخ صيحةً عاليةً : "حَيْ"
وكأنه يطرد بها الوزير من حَضْرَته، وخرج الوزير يتعثّر في خطواته وسرد تفاصيل ما
حدث على سكرتيره "مخلص" الذي وعده بأن يُحْضِر الطلبات التي أمره بها
"أبانوخ" على أن يعودا في الفجر.
وقضى الوزير ليلته ساهراً ساهداً وقد جافاه
الكَرَى فقد كان يفكّر فيما حدث عند الشيخ "عارف"، وتلقّفته الأفكار ما
بين الإيمان بالشيخ والكُفر به، ودار بداخله صراعٌ نفسيٌ عنيف بيْن الإقدام على
المُضي قُدُماً فيما بدأ ليستعيد الملف الضائع وبين الإحجام عن مهانة الخنوع لدجّالٍ
كذّابٍ أَشِر.
وما انفكّت الأفكار والصراعات تتقاذفه عبر
أمواج الليْل حتَّى أسلمته إلى الفجر منهكاً مرهقاً فقام وخلع ملابسه الداخلية
وارتدى قميصاً وبنطالاً وسترةً سُوداً، وانطلق خارجاً من منزله حيث وجد
"مخلص" ينتظره في سيّارته فركب معه آمراً الحراس بألا يبرحوا مكانهم
وألا يرافقوه لأنه سيذهب في زيارةٍ خاصة مع سكرتيره الذي طمأنه بأنه أحضر ما طلب
"أبانوخ"، فراجع الوزير على الطلبات ففتح الكيس فأبصر ديكاً أحمر ينزوي
داخل الكيس في رعب وعلبةً بلاستيكيّةً شفّافة بها ثلاثة ضفادع وبرطماناً زجاجياً
به بخور جاوى مطحون، وفتح حقيبة الأوراق ذات الجلد البُنّي فوجدها فارغةً خاوية.
وبعد فترةٍ وجيزة كان الوزير يكرّر مشهد
دخوله إلى قاعة الشيخ الذي أمره بالجلوس قائلاً :
- أقعد ع الكرسى الاحمر الكبير اللي جنب
الباب.. وحط شنطة الأوراق جنب الكرسي ع الأرض.. وخلّي الكيس اللي فيه باقي الطلبات
على حِجْرَك.
وانصاع الوزير للأمر تماماً ولكنه وضع
الحقيبة خلف ظهره فوق الكرسي، واستمر الشيْخ في تلاوة تعاويذه الغريبة وأخذ يعزّم
:
- أنه من "سليمان".. وأنه بسم الله
الرحمن الرحيـم.. أن لا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين.. طائعين لله رب العالمين..
هرّاش هرّاش.. مرّاش مرّاش.. شهلموش شهلموش.. هيولاش هيولاش.. أبانوخ أبانوخ..
أعزّم عليكم بنور وجه الله الذي أضاء به كل الظلمات.. وبالشفع والوتر العظيم..
والكلمات التامة.. والعزائم المحرقات.. والشهاب الثاقب.. والعذاب الواصب..
شيملهوشا شلوشا أنديوشا رياخ زياخ مشلموشا.. عزّمت على من حضرني وسمع كلامي ألا
جئتم وعجّلتم في أسرع وقت.. إجلب الملف الضائع يا "أبانوخ".. وأنيبوا
إلى ربّكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تُنصَرون.. بأهيا شرهيا
أدوناي أصباؤت آل شداي.. أياش أياش.. بياش بياش.. شيلموش شيلموش.. الوحا الوحا..
العجل العجل.. الساعة الساعة.
ووسط دهشة الوزير صاح الشيخ فيه آمراً :
- قوم اقف.. مد إيديك الاتنين بالكيس اللي
فيه الطلبات لقدّام.. وتعال هنا.. بس خطوة خطوة.. وف كل خطوة تقول.. الرضا والسماح
يا اهل السماح.
فرد عليه الوزير مذكّراً :
- طب والشنطة اسيبها ولّا اجيبها؟
فصاح فيه الشيخ موبّخاً :
- ما تعملش نفسك ذكي.. سيبها زي ما هيَّ.. ما
تعملش غير اللي أأمرك بيه لتتحرق مكانك وتبقى رماد في ثانية.
فأصاخ الوزير السمع وقد لانت شكيمته وأسلم
مقوده إلى الشيخ بالكامل، وسعى إليه كما أمره وهو يقول في كل خطوة :
- الرضا والسماح يا اهل السماح.. الرضا
والسماح يا اهل السماح.. الرضا والسماح يا اهل السماح.. الرضا والسماح يا اهل
السماح.. الرضا والسماح يا اهل السماح.. الرضا والسماح يا اهل السماح.. الرضا
والسماح يا اهل السماح.. الرضا والسماح يا اهل السماح.. الرضا والسماح يا اهل
السماح.
وحين وصل إلى حيث يجلس الشيخ أعطاه الكيس
فأخرج الشيخ الثلاث ضفادع وأطلق سراحهم على الأرض، ثم أخرج البخور الجاوى وألقى به
في المبخرة، ثم أخرج الديك وأحكم قبضته عليه بيد واحدة ثم وضع منقاره بين سبّابة
وإبهام ذات اليد وتناول بيده الأخرى سكيناً كان بجانبه وبحركة واحدة ذبح الديك
فنفر منه الدم غزيراً، ثم فجأةً ألقى الشيخ بالديك المذبوح في وجه الوزير الذي رفع
كلتا يديه في فزعٍ ليدفع بالديك بعيداً عنه، فوقع الديك على الأرض مفرفراً بأجنحته
حتَّى سكنت حركته تماماً بعد أن لطّخت دماؤه وجه الوزير وملابسه، وإمعاناً في
إذلاله وتأكيداً على خضوعه عاجله الشيخ بالأمر التالي دون مقاومة :
- ما تمسحش وشّك ولا هدومك.. سيب الدم كده
لغاية ما ينشف وبعدين أفركه.. وده الوقت هات الشنطة البُنّي.. ياللا قَوَام.
وأسرع الوزير إلى الكرسي فوجد الحقيبة على
الأرض فقد كانت ترتكن على ظهره عندما كان جالساً ويبدو أنها وقعت على الأرض عند
قيامه من فوق الكرسي؛ فالتقطها وسلّمها للشيخ الذي سأله :
- حطّيت حاجة في الشنطة ولّا فاضية؟
فرد الوزير بصوت مبحوح :
- مش حضرتك اللي طلبتها فاضية؟
ولم يجِبه الشيخ بل تناول الحقيبة في هدوء
وأخذ يلسعها بالسيخ الساخن الموضوع في المبخرة لتقليب الفحم حتَّى ترك عليها
علاماتٍ سوداء عشوائيّة، ثم أمره في حزم :
- ده الوقت ح تاخد الشنطة وتروّح.. وما
تفتحهاش إلا وانت قاعد لوحدك عريان ف الحمّام.. فاهم؟.. أي حاجة ح تعملها غير كده
ح تتحمّل انت مسئوليّتها.. مع السلامة.. حَيييييْ.
وانصرف الوزير واصطحب سكرتيره لمنزله وعندما
نزلا من السيّارة هُرِع إليه الحُرّاس وقد فزعوا من منظر الدم على وجه الوزير
وملابسه وهو يمسك حقيبةً محروقة، فأشار لهم بأنه على ما يرام واندفع مع سكرتيره
داخل المنزل، وترك الوزير "مخلص" في الردهة واختلى بنفسه داخل الحمّام
بعد أن سكّر بابه من الداخل وخلع جميع ملابسه ثم فتح الحقيبة فكاد أن يغشى عليه من
هوْل المفاجأة؛ فقد كان الملف الضائع داخل الحقيبة سالماً، فتقافز الوزير من
الفرحة الغامرة وطفرت الدموع من عينيه اغتباطاً بعودة مستقبله الذي كاد أن يضيع من
بين يديه، ولم يشعر بنفسه إلّا وقد برز خارجاً من الحمّام وهو يتصايح فرحاً وينادي
بصوتٍ عالٍ على سكرتيره المخلص ليبشّره بعوْدة الملف، ولكنه وجد "مخلص"
يبارك له وهو يشيح بنظره بعيداً ليتفادى رؤيته، وكانت اللحظة التي نظر فيها الوزير
إلى نفسه فأدرك أن الفرحة قد أنسته أن يرتدي ملابسه قبل أن يخرج من الحمًام هي نفس
اللحظة التي خرجت فيها زوْجته من حجرتها للردهة بعد أن استيقظت على صوت صياح زوجها
العالي ففوجئت بزوجها وهو واقفٌ عارياً تماماً مع سكرتيره، وبعد لحظات من الجمود
والذهول تدارك الوزير الموقف بأن جرى داخل غرفته وارتدى ملابسه بسرعة وخرج مرّةً
أخرى للسكرتير ومعه لفافةٌ صغيرةٌ بها خمسة وعشرون ألفاً من الجنيهات أوصاه أن يرجع
بها للشيخ "عارف" في التوْ واللحظة كمكافأةٍ فوريّة على معروفه حتَّى
يجد الوزير وقتاً مناسباً لزيارته ليشكره بنفسه.
وعاد "مخلص" للشيخ
"عارف" مرّةً أخرى وبعد أن أَذِن له بالدخول دار بيْنهما هذا الحديث :
- سلام عليكم يا سيّدنا.
- وعليكم السلام يا سي "مخلص".
- سيادة الوزير باعِت لك الأمانة دي.
- كام دول؟
- خمسة وعشرين ألف أهيف.
- بس!.. طب خلّيهم علشانك.. حطّهم فوق
الخمسين ألف اللي اخدتهم لمّا جبت لي الملف.. يبقى انت كده واصل لك خمسة وسبعين
ألف.. مش خسارة فيك.. تستاهلهم.
- ما نِتحرمش منك.. بس كده الموضوع يبقى واقف
عليك بخسارة.
- متهيّأ لك.. كفاية إني خلّيت الوزير بتاعك
بقى خاتم ف صباعي بعد ما كان عايز يودّيني ورا الشمس.. ومش بعيد يجيب لي زباين
كمان.. ده بقى غير إني ح الِم فلوس بالهبل من ورا الملف ده.
- إزاي؟
- إنت ناسي إني صوّرت كام نسخة م الملف..
والملف ده فيه أسرار ممكن تكسّبني دهب.. ده فيه بيان بأسماء المعارضين وبياناتهم
وكل معارض مكتوب فيه تقرير بكل أسراره بعد ما راقبوه كويّس ومكتوب فيه كمان إزاي ح
يخلصوا منه.. فيه منهم اللي ح يلبّسوه قضيّة تمويل أجنبي للحزب بتاعه.. وفيه اللي
ح يجرّسوه بفضيحة جنسيّة مع واحدة من أهل الفن.. وفيه اللي ح يدبّروا له حادثة
تقصف أجله.. وفيه.. وفيه.. شوف بقى المُعارِض من دول ح يدفع كام علشان ما حدّش
يعرف أسراره اللي انا عرفتها م الملف؟.. وشوف ح يدفع كام لمّا يآمن إني قاري الغيب
وعارف اللي ح يحصل له بالظبط؟.. وشوف ح يدّيني حلاوة قد إيه لمّا أنجّيه من مصيره
الاسود اللي راسمينهوله؟
- يا ابن اللاعيبة يا شيخنا.
- ها ها هاي.. ده غير إن التقرير ده فيه كمان
بيان بالتنظيمات والخلايا الإرهابيّة اللي ف البلد.. وأسماء أفرادها وأساليبها
ومصادر تمويلها ومخططاتها المستقبليّة وأهدافها.. وكمان توصيات أمن الدولة بالطرق
المناسبة لتصفية التنظيمات دي.. المعلومات دي لوحدها كنز ممكن يجيب لي مال قارون
وسُلطة فرعون.
- الله ينوّر عليك يا سيّدنا.. صحيح.. فوق كل
ذي علمٍ عليم (*).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بسم الله الرحمن
الرحيم: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ
لا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا۟ ٱلأَلْبَٰبِ (9)" صدق الله
العظيم ............................................... {سورة الزمر}