صورة واحد حانوتي(1)
الأربعاء:
ذهبتُ إلى المطار
لاستقبال أخي "عبد المُحيي" عميد عائلة "خشبة" العائد من
"السعوديّة" بعد رحلة عملٍ دامت – والدوام لوجه الله – سِتّةً وعشرين
عاماً من الشقاء والغُربة.
ما شاء الله ما
عرفتوش أوِّل ما شُفته، صحيح أنه كِبِر وعجِّز شويّتين بس احلوْ وابيّض وبانِت
عليه مظاهر النِعمة والثراء، ولِـمَ لا وقد عمِل حانوتيّاً – وهي المهنة
التاريخيّة للعائلة التي ورثناها أبّاً عن جِدٍّ عن جِد – هناك لكافّة أُسر أُمراء
وشيوخ المملكة تِمّاً، وكان مكتبه الرئيسي في "حفر الباطن" له فرعٌ بكل
مدينة.
وبعد أن أوصلتُه إلى
فيللته الجديدة بكومباوند "دار الحق" بمنطقة "التجمُّع
الخامس" الراقية تركتُه يستريح راحةً صُغرى مع أُسرته ويريّح جِتّته على السرير
فترةً كافيةً قبل أن أعود إليه في الغد لنجلس سويّاً جلسةً طويلةً لأنه واحشني
جداً خصوصاً وأنه أخي الأكبر اللي باحبّه وباموت فيه.
الخميس:
وصلتُ فيللا أخي
حاملاً معي إكليلاً من الورد وعُلبةً كبيرةً فاخرةً من القُرَص السادة والمحشوَّة
بالعجوة، وما إن فتح لي حتى أخذني في أحضانه الدافئة واصطحبني لنجلس سويّاً في
الشادر الذي يُقيمه في الجنينة ليستقبل فيه ضيوفه الأعِزّاء في المناسبات، ودار
بيننا حوارٌ حميمٌ اشتقنا إليه كثيراً:
-
شرَّفت بيت اخوك يا "عبد المُميت" يا خويا.
-
والله زمان يا "عبد المُحيي" يا حبيبي.
-
قول لي الأوِّل بقى قهوتك إيه؟ .. سادة برضه زي زمان؟
-
كويّس إنك لِسّه فاكِر.
-
هوَّ احنا بنشرب غيرها ف العيلة.
-
على رأيك.
-
طب ح اقول للمدام تعمِل لنا فنجانين م البُن اليمني المخصوص بتاعي.
-
تسلم لي يا رب .. وحياتك تبقى تقول لها تحُط علبة القُرص ف تلّاجة حفظ
الأكل عشان الدنيا حر وريحتها مُمكِن تطلع .. وتِبقى تدفن الورد اللي جايبهولك ف
تُربة الجنينة.
-
واللهِ يا أخي انت مكلِّف نفسك .. ما كانش فيه داعي للتعب ده.
-
ما يجيش من بعد خيرك يا خويا .. هوَّ انا انسى فضلك عليَّ من بعد وفاة
المرحوم أبونا.
-
هييييييه دُنيا فانية .. الفاتحة على روحه.
وبعد أن قرأنا سورة
"الفاتحة" على روح أبي وروح أمي وروح أمواتنا جميعاً استأذن أخي ليوصّي
على القهوة، ورجع بعد دقائق فبادرته بالسؤال:
-
كيف أحوالك يا "عبد المُحيي" .. وكُنت عامل إيه ف الغُربة يا
حبيبي.
-
واللهِ ف نِعمة .. غيرش بس الجوْ هناك وِلعة يا "عبد المُميت" ..
تقولش نار الله الموقَدة .. جهنَّم والعياذ بالله.
-
معلهش .. ما فيش حلاوة من غير نار .. راخر تلاقيك كُنت بتاخد الشيء
الفُلاني ف كل دفنة .. ربنا يزيدك يا خويا.
-
الحمد لله .. ربنا كرمني هناك آخر كرم .. واللهِ كان نِفسي تِبقى معايا ..
ده انا كُنت باكسب لي كام ألف ريال ف كل مُتوفّي .. لأ وإيه .. البُكا على راس
الميّت .. يعني كُنت باخد حقّاتي قبل ما امد إيدي ف حاجة.
-
يا ريتني كُنت سمعت كلامك .. بس كُل شيء نصيب .. الحمد لله على أي حال.
-
عموماً إحنا فيها .. أنا مجهِّز لنا مشروع نتشارِك فيه ح يجيب دهب.
-
خير؟!
-
الأوِّل اذكر الله وصلِّ ع النبي.
-
لا إله إلا الله .. وصلّى الله على سيّدنا محمّد .. قول بقى.
-
طبعاً انت عارف إن احنا هنا ف "مصر" عندنا أزمة ف المدافن
والمقابر .. الدنيا بقت زحمة قوي لدرجة إن ف الأرياف بقت القبور تلات اربع تدوار
فوق بعض.
-
آه واللهِ يا "عبده" .. ده انا جات لي دفنة
ف "محلّة مرحوم" جنب "طنطا" من كام يوم .. وكان قبر الميّت ف
الدور التالِت .. عشان ادخَّل الجِتّة جبت سِلِّم وطلعت فوق لغاية شبّاك القبر
وفضلت متشعلق ف الهوا زي بهلوان السيرك لغاية ما اللي شايلين الميّت التخين
ناولوني جِتّته اللي زي الداهية بعد ما عملنا أكروبات علشان ندفنه وربّنا ستر ما وقِعش
من فوق على حَد.
-
أيوه ما انا عارف .. وعارف إن المدافن
القديمة بقت فوق بعضها ومش مكفيّة الناس اللي بيتِّكلوا ع الله ويروّحوا .. وعارف
كمان إن كل كام سنة المُحافظة بتصرّح بمكان جديد للدفن في منطقة
جديدة من غير ما تعلن عنه فالناس ما تاخُدش خبر .. قوم اللي ياخد تخصيص كل نِـمَر القبور
همَّ موظَّفين المُحافظة أو الحي أو قرايبهم خاصّةً إن المدافن دي بتبقى برُخص
التراب .. النِمرة بتبقى بحوالي ألفين لـخمس تلاف جنيه بَس حسب الموْقع .. وبعدين
مافيا القبور دي تقوم تسقّع المدافن لسنة أو أكتر .. وفي الآخر يبيعوا النِمرة
بأكتر من خمسين ألف وميت ألف جنيه .. وإذا كان عاجب.
-
ما هو اللي مش عاجبُه
ح يضطر يخلّي جتّة أبوه أو أُمّه تعفّن وريحتها تطلع أو يدفنها ف مقابر الصدقة أو يدوّر
على مَدفَن جماعي بتاع مسجد أو جمعيّة خيْريّة .. طبعاً الناس بتحاول تبيع اللي
وراها واللي قُدّامها علشان ما يبهدلوش قرايبهم ف نومتهم الأخيرة.
-
وده كمان غير الناس
الأغنيا اللي معاهُم فلوس وعايزين يشتروا مقابر شِرحة وبِرحة ومستواها راقي.
-
تمام .. يسلم
بُقَّك.
-
علشان كده انا فكّرت
إننا نعمل مدافن خاصّة شيك للناس الكُبارات دول .. نشتري حِتّة أرض رخيصة قُريّبة
برّه كردون المباني وتِبقى مساحتها كبيرة قوي زي الكومباوند اللي انا قاعد فيه ده
.. ونقسِّمها مدافن ونبيعها للمُقتدِرين ونكسب دهب.
-
يخرب عقلك يا
"عبده" .. ده انت دماغك سِم.
-
أومّال يا ابني ..
ده انا باخطَّط للمشروع ده من زمان .. واقول لك حاجة؟ .. أنا اتَّصلت بسمسار أراضي
وبصاحب شركة مقاولات وح ييجوا يقابلوني النهار ده ف الشادر هنا علشان نبدأ التنفيذ
ف أقرب وقت.
- على خيرة الله.