الفصل الثامن (2) | نهاية العالم
وأمال
"باسم" رأسه إلى صدره وغرق في أفكاره وصراعاته من أجل النجاة وكيْفيّة
تخلّيه عن العند والمكابرة في سبيله نحو التوْبة فلم يفِق إلّا وزوْجته بجانبه وهي
تربّت على كتفه بيدها الحانية وتناديه بصوتها الرقيق:
- "باسم"..
يا "باسم".. إيه اللي موقّفك هنا؟
فرفع رأسه ونظر
نحوها وردّ عليها وهو تائه:
- هه؟
فكرّرت سؤالها بنفس
نبرة الصوْت الدافئ المفعم بالعطف:
- باقول لك إيه اللي
موّقفك هنا؟
فيمّم
"باسم" وجهه شطر السماء وشخص ببصره لأعلى بعيداً عن زوجته وكأنّه يحادث
الله ويناجيه متفادياً النظر إلى زوجته خجلاً من آثامه وهمس لزوجته بسؤالٍ مباشر
دون مواربة:
- تفتكري ربّنا ممكن
ربّنا يقبل توبتي؟
فأجابته مبشِرةً وهي
تبتسم فرحاً باستيقاظ ضميره ورجوعه إلى طريق الهدى:
- طبعاً.
فسألها مرةً أخرى وقد
عاود النظر إلى الأرض في ندم:
- إزّاي بس؟.. بعد
البلاوي اللي عملتها ف حياتي؟.. بالسهولة دي؟
فطمأنته وهي واثقة
بقوْلها:
- ربّنا- سبحانه وتعالى-
بيقول في حديث قدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيْرٌ منهم، وإن تقرّب إلي
بشبرٍ تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت إليه باعاً، وإن أتاني
يمشي أتيته هرولة".. وبيقول كمان: "أنا عند ظن عبدي بي إن ظنّ خيراً فله
وإن ظنّ شراً فله".. فلازم يا "باسم" تحسن الظن بالله.. أكيد ح
يسامحك لو كانت توبتك دي صادقة من قلبك وانت مخلص فيها وناوي فعلاً ما ترجعش
لذنوبك اللي اعترفت بيها وندمت عليها.
وعاجلها
"باسم" بسؤالٍ آخر:
- ونعمَ بالله.. بس
ينفع إنّي أتوب بعد ما عرفت إنّي ح اموت بعد تلات إيّام لمّا القيامة تقوم؟
فهدّأت
"أسماء" من روْعه بقولها:
- على حد علمي إن
ربّنا بيقبل التوبة إذا كانت لسّه الروح ما وصلتش للحلقوم وما حصلتش لسّه غرغرة
الموت.. وكمان قبل العلامة الكبرى ليوم القيامة بتاعة طلوع الشمس من الغرب مش من
الشرق.
وأضافت دون أن تنتظر
ردّاً من زوْجها:
- إتّكل على الله وتعالى
اغتسل واتوضّا وصلّي واقعد ادعي لربّنا واطلب منه المغفرة علشان يسامحك.. ده ربّنا
كبير.. ياللا.
واصطحبت
"أسماء" "باسم" حتّى غرفة نوْمهما وشرحت له بالتفصيل طريقة وقواعد
الاغتسال والوضوء وكيفيّة الصلاة الصحيحة وحفّظته سورة "الإخلاص" و"التشهّد"
الأخير اللازميْن للصلاة على أن يبدأ في حفظ قصار السوَر بعد ذلك فقد كان لا يحفظ
غير "فاتحة" الكتاب فقط، وتركته يذهب إلى الحمّام الكبير واتّجهت لإيقاظ
ولديْها و"نشوي" ليصلّوا الفجر هم أيْضاً ووجّهتهم للوضوء في الحمّام
الصغير، وكانت تفعل هذا وهي في جذلٍ واغتباط تكاد تطير من الفرحة فقد مَنَّ الله
على زوْجها بالهداية والإيمان.
وبعد أن أُذِّن
للفجر وتجهّز الجميع للصلاة في الردهة أمّ "باسم" أسرته وصلّى بهم
ركعتيْ الفجر وهو مرتبكٌ متلعثم ثمّ قام آخذاً سجّادته معه ودخل غرفة الصالون وأغلق
على نفسه بابها ليختلي وحده مع الله ويعلنه توْبته وعوْدته إلى طريق الرشاد، وما
إن فرش السجّادة على أرض الحجرة وجلس فوْقها واستقبل القِبلة حتّى اجتاحته
قشعريرةٌ سرت في كامل بدنه وانتابته نوبةٌ من البكاء والنشيج عندما أحسّ أنه بيْن
يديْ الله منفرداً في حضرته تعالى ليس بينه وبين الموْلى حجاب أو سِتْر، وظلّ
"باسم" في خلوته ساعات يناجي ربّه في خشوع راجياً منه أن يتغمّده بصفحه
وعفوه ويعينه على طاعته وحسن عبادته، ثمّ تناول المصحف من فوْق الطاولة وشرع في
تلاوة القرآن ببطء محاولاً أن يتحاشى الأخطاء قدر ما يستطيع وقد اغرورقت عيْناه
بدموعه الغزيرة التي بلّلت وجنتيْه وفاضت على شفتيْه فاختلطت برُضابه (لعاب ريقه) عسى
أن تغسل آثامه فيتطهّر قلبه من أوْزاره الكثيرة وتتخفّف روحه من أحمالها الثقيلة.