"سفاح كرموز" | الفصل السادس (1)
وانصرمت الأسابيع وظلّت"قطقوطة"
حبيسة عنبرها بالمستشفى الأميري وقد استغرقت وقتاً ومجهوداً كبيراً في علاجها دون
أن تلوح أي بوادرٍ لإنقاذها من حالتها الخطرة ممّا دعى الأطباء إلى اليأس من
شفائها ما عدا طبيباً واحداً فقط يدعى "صموئيل إسكندر" الذي داوم على العناية
بها دون قنوط، وعلى الناحية الأخرى كان "سعد إسكندر" قد اطمأن لعدم نجاة
"قطقوطة" فبدأ في التحرّر من التزامه بعدم الخروج من الشونة وارتفعت
روحه المعنوية ولكنه استمر في تجميد نشاطه الدموي حتى إشعارٍ آخر، ومن مفارقات
القدر أن يعمل "ابن إسكندر" الأوّل (الطبيب) على إحياء "قطقوطة"
وأن يتمنّى "ابن إسكندر" الثاني (السفّاح) موتها العاجل.
وأثمرت جهود الطبيب
المتفاني عن تحسّن حالة "قطقوطة" فبدأت في الاستفاقة الكاملة وفارقتها
حالة الغيبوبة التي كانت تروح في غياهبها من وقتٍ لآخر، وبدأت تتكلّم وتعي ما
حولها في نادرةٍ أشبه بالمعجزة الأعجوبة ممّا دعى ممثّل النيابة لأن يبدأ في أخذ
أقوالها فروت ما حدث وأرشدت عن أن الجاني هو شقيق جارتها "فاطمة" فأمر
ممثّل النيابة باستدعاء "فاطمة" لسراي النيابة وعند سؤالها عن مكان
أخيها أفادت بعنوانه في "المنصورة" فقُبِض عليه وسيق إلى عرضٍ قانوني
بين عدّة مجرمين لتتعرّف عليه "قطقوطة" التي غادرت المستشفى فأكّدت
للمحقّق بأن الجاني ليس فيهم، وعندما أشار المحقّق إلى شقيق "فاطمة"
الحقيقي أقسمت "قطقوطة" أنه ليس نفس الشخص الذي شاهدته مرّتيْن من قبل
عندما كان يتردّد على "فاطمة"، كما أنكر شقيق "فاطمة" تردّده
عليها وأقر بأنه لم يشاهدها بعد زواجها منذ عدّة سنين لخلافاتٍ بينهما، وبمواجهة
"فاطمة" مرّة أخرى تلعثمت في البداية لكنها أصرّت على أقوالها خوْفاً من
الفضيحة فمارس عليها المحقّقون ضغوطاً رهيبة وهدّدوها بتوجيه الاتهامات لها بجلب
رجال إلى شقّتها لممارسة الدعارة بخلاف تهمة الزنا التي يمكن أن يوجهها لها زوجها
عند خروجه من السجن فانهارت واضطُرّت للاعتراف بكل شيء ولكنها أقسمت أنها لا تعلم
شيئاً عن جريمة قتل وسرقة الحاجّة "بَمبَة" ودلّت على مكان عشيقها فأمرت
النيابة بإلقاء القبض عليه حيث تمّ ذلك في شونته وهو مطمئن على عدم فضح أمره غير
مدركٍ بأن "قطقوطة" قد كُتب لها عمرٌ جديد وأن الله - عز وجل - قد زاد
في أجَلها حتى تكشفه وتخلّص أهل "كرموز" من شرّه.
وعرضته النيابة في
عرضٍ قانوني على "قطقوطة" فتعرّفت عليه على الفوْر وهي تبكي بعد أن
تذكّرت ما فعله معها، فأمرت النيابة العامّة بحبس "سعد" احتياطيّاً
أربعة أيّامٍ على ذمّة التحقيق، وبناءً على طلبه أوكل شريكه "حسبو" أحد
المحامين الباحثين عن الشهرة والمجد آنذاك وكان اسمه "ألبرت بدّار" الذي
تولّي الدفاع عنه وحضور التحقيق معه، وللحق فقد كان المحامي حاذقاً ممّا طمأن
"سعد" وجعله هادئاً رابط الجأش أثناء التحقيقات المتتالية فلم يستجِب
لألاعيب النيابة وحيلها في الإيقاع به وحَمْله على الاعتراف، وعندما وجد وكيل
النيابة العامّة أن التحقيقات قد تطول فوق الأربعة أيّام أحال أوراق القضيّة إلى
القاضي الجزئي الذي قضى بتمديد حبس المتّهم احتياطيّاً لمدّة خمسة وأربعين يوماً
أخرى دفعةً واحدة (وقد تمّ الآن تغيير هذه المادّة فأمكن تمديد الحبس الاحتياطي
خمسة عشر يوماً فقط يمكن تجديدها بحيث لا تزيد في مُجملها عن خمسة وأربعين يوماً)،
وقبل انقضاء هذه المدّة وعندما طالت التحقيقات دون الوصول إلى نتيجة ولتهدئة الرأي
العام أُرسِل ملف القضيّة ليُعرَض على المحامي العام للنيابة الكليّة حسب القانون
المصري فأمر بعرضه على ما يسمّى "بغرفة المشورة" والتي هي عبارة عن
محكمة جُنح مستأنفة تُعقَد في غُرفةٍ مغلقة وفي جلسةٍ غير علنيّة ويكون من
اختصاصها مد الحبس الاحتياطي للمتهم مدداً متعاقبة كل مرّة لاتزيد عن خمسة وأربعين
يوماً بحيث لا تتعدّى في مُجملها الثلاثة
أشهر وذلك بعد سماع أقوال المتهم أو دفاعه وأقوال النيابة العامّة وإن لزم الأمر
فتتم مناقشة الشهود، وفي غرفة المشورة وبعد أن أنهت النيابة العامّة مرافعتها جاء
الدور على الأستاذ "ألبرت بدّار" ليدافع عن موكّله فقال :
- سيادة القاضي
المحترم .. حضرات أعضاء هيئة غرفة المشورة الموقّرين .. حقيقةً لا أعرف سبباً
واحداً لإبقاء موكّلي قيد الحبس الاحتياطي طوال هذه المدّة التي تخلّف فيها عن كسب
عيْشه ومتابعة أعماله ممّا سبّب له الكثير من الأضرار الماديّة والمعنويّة التي
أحتفظ بحق موكّلي فيها بالرجوع بالتعويض عنها فيما بعد .. ولكن ما يعنيني الآن هو
رفع الظلم البيّن عنه بعد أن تهاونت النيابة في تفنيد دعواها وفشلت في إثبات
الجريمة على موكّلي بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة واكتفت فقط ببعض الشهادات
المطعون فيها والاستنتاجات التي لا ترقى إلى درجة اليقين وبعض الأدلة الواهية التي
يمكن لأي عاقلٍ أن يدحرها بسهولة .. سيدي القاضي اسمح لي أوّلاً أن نبدأ بسماع
شهادة المدعو "حسبو عبد النبي البنهاوي" شريك المتّهم.