مكتب خدعة المواطنين (3)
- مش بايّنه خير يا
اسطى.. انت عارف "فهمي سليم" المحامي؟
- آه.. الأبوكاتو
اللي كان بيشتغل ظابط بوليس واستقال.. طبعاً عارفه.. ده من سِنّي وكان جاري ف نفس
البيت زمان.. ما له؟
- بيسوق العوج وبدأ
يخبّط ف الحلل وشكله كده مش ناوي يجيبها البر.
- ليه؟.. مش انا قلت
لك سيبه فاتح مكتبه من غير ما يدفع الشهريّة وما تضايقهوش.
- ما هو ده اللي
طمّعه فينا يا حاج وما بقاش حد مالي عينه.
- يا عم فوّت له.. مش
ناقصين وجع دماغ.. إنت ناسي إن حبايبه ف الداخليّة كتار؟
- يعني نسيبه يقعد
يوماتي ف القهوة ويملا دماغ الناس بكلام فاضي ويحرّضهم ما يدفعوش الشهريّة ويشتم
فيك وفينا ويقول علينا بلطجيّة؟
- ابن الكلب.. طول
عمره بيحقد عليّ.. ولمّا كان هوَّ طالب مفعوص كنت انا معايا عربيّة وبامسك قرش
أكتر ميت مرّة من اللي عند أهله كلّهم.. طب خلّيه يعدّي عليّ بكره.
- ما انا قلت له ما
يكتّرش ف الكلام وييجي يقابلك علشان تدّي له كلمتين يفوّقوه قال لي : أنا باروحش
لحد واللي عايزني ييجي لي لحد عندي.
- بقى كده.. دبّور وزن
على خراب عشّه.. وحياة أمّه لانا معلّمه الأدب.. علشان يعرف مين هوَّ "حماده
الفارس".. قرّب عليّ اقول لك تعمل إيه.
وقام
"عوض" والتف حول المكتب ليصير بجانب الحاج ثمّ انحنى وأصاخ السمع لما
همس به الحاج في أذنه فبدرت منه ابتسامةٌ خبيثة أعقبتها ضحكةٌ عالية ثم تعليق :
- حلاوتك يا معلّمي..
أيوه كده خلّيه يحط وشّه ف الأرض ونِكسر عينه وما يستجراش يرفعها فينا بعد كده.. عُلِم
ويُنَفَّذ يا حاج.
وبعد حوالي إسبوع
دخل "فهمي سليم" المحامي إلى مكتب الحاج "حماده الفارس" وهو
يتردّد في مشيته البطيئة يكاد يتعثّر بين الخطوة والأخرى ووقف أمام السكرتيرة وهو
مطأطئ الرأس طالباً منها مقابلة الحاج، وبعد أن اتّصلت به وأبلغته بأن الأستاذ
"فهمي" يطلب المثول بين يديْه أمرها الحاج بأن تبقيه في قاعة انتظار
الزوّار حتّي يفرغ تماماً ممّا لديه من أعمال، وانتظر المحامي جالساً يتململ على
حافة الكرسي قرابة الساعة والنصف إلى أن سُمِح له بالدخول أخيراً، وعندما دلف من
"حماده الفارس" مد يده مصافحاً الحاج الذي لم يبرح مقعده ونظر شذراً
للمحامي بطرف عيْنيْه دون أن يرفع يده وقال وهو يشعل سيجاره الكوبي الفاخر :
- اقعد يا
"فهمي".
- معلهش يا حاج.. جيت
لحضرتك من غير ميعاد.
- مش مهم.. أأمر؟
- ما يأمرش عليك
ظالم.. آآآآآ.. أصل انا سيادتك ف مشكلة وجاي لحضرتك علشان تحلها لي.
- بصفتي إيه؟
- بصفتك عميد
المنطقة وكبيرها.
- لا يا شيخ.. ده
الوقتِ بقيت عميد ولوا.. مش كنت داير تقول عليَّ بلطجي؟
- معلهش.. سامحني.. كنت
غلطان ف حقّك.
- يعني تشتمني ف
شارع وتصالحني ف عطفة!
- أنا آسف.. يا بخت
مين قدر وعفا.. إبن الأصول دايماً يسامح.. علشان خاطر الحاج الكبير اللي وشّه
بيبُك تقوى وورع.
والتفت الحاج
"حماده" خلفه عالياً حيث عُلِّقت علي الحائط صورة والده المرحوم الحاج
"سرحان الأعور" - الذي ظهر في الصورة متجهّماً بعيْنٍ واحدة بعد أن فقد
الأخرى جرّاء مشاجرةٍ حامية الوطيس أثناء قضائه لفترة سجنه الأولى بتهمة الاتجار
في المخدرات - ثم هبط بنظره قليلاً حيث استقرّ تحت الصورة بروازٌ ذهبي الإطار
كُتِبت بداخله عبارةٌ قرآنيّة بالخط الكوفي المزخرف كانت قد ذُكِرت في سورة
"الكهف" : "وكان أبوهما صالحاً"، وتنهّد الحاج
"حماده" وهو يغمض عيْنيْه في وداعةٍ وكأن سيرة والده المرحوم قد نزلت
برداً وسلاماً على أعصابه الثائرة وقال بهدوء :
- حلّفتني بالغالي..
ماشي ح اعدّيها لك المرّة دي.. بس قبل ما اعمل لك أيتها حاجة لازم تلف ع القهاوي
اللي ف الحتّة وتقول للناس إنك كنت غلطان وإنّي سيدك وتاج راسك وضوفري برقبتك.
- حاضر.. أمرك.. بس
أبوس إيدك ترجّع لي ابني.
- وانا ما لي وما لابنك؟..
يكونش قصدك إن انا خطفته؟
- لأ مش قصدي.. أنا
بس عارف إنّك ح تساعدني وتلاقي لي الولد.. دي أمّه ح تموّت نفسها عليه.
- طب ما تروح
للبوليس خلّيه ينفعك.
- رحت.. وما حدّش
قدر يعمل لي حاجة.. دوّروا عليه ف كل المستشفيات وبلّغوا عنّه كل الاقسام بس ما
حدّش قدر يعْتَر له على طريق جُرّة.. قلت ما فيش حد غير سيادتك ممكن يبقى عنده
فكرة الولد فين.
- طبعاً عندي فكرة..
أومّال فاكرني نايم على وداني.
- بجد!.. يعني انت
عارف هوَّ فين ده الوقت؟
- أنا عارف بموضوع
ابنك ده من ساعة ما اتخطف.. وسألت واطقّست لغاية ما عرفت هوَّ فين؟
- فين؟.. ها؟.. طب
هوَّ بخير؟
- ما تخافش.. أنا
أمرت الناس اللي خاطفينه ما يؤذوهوش.. بس همّ طالبين ربع مليون جنيه فدية علشان
يرجعوهولك.
- كام؟.. ربع مليون؟..
بس انا ما معاييش المبلغ ده كلّه.
- خلاص خلّيه معاهم..
بس انا ما اضمنش ح يعملوا فيه إيه.. أصل الربع مليون ده علشان خاطري انا بس إكمنّي
قلت لهم إن أبو الواد يبقى ابن جهتي ومتربّي معايا زمان.. فاكر؟
- أيوه.. بس.. بس انا
ح اجيب منين ربع مليون؟
- لعلمك ده يساوي
أكتر من كده.. الناس دول بيتعاملوا مع الجماعة بتوع زرع الأعضاء.. يعني ممكن
يبيعوا كبدته لوحدها وكلاويه لوحدها وعينيه وغيره وغيره.. ساعتها ح يعدي النص
مليون كمان.
- لأ لأ.. خلاص.. أنا
ح ابيع الشقّة والمكتب والعربيّة واجيب الفلوس.. بس الحكاية دي ح تاخد وقت.
- قدّامك تلات أيّام
تصرّف نفسك فيهم.. وانا ح اعمل بأصلي برضه واخلّيهم يستنّوا.. ولو عايز مُشتري للحاجات
بتاعتك دي العبد لله موجود وف الخدمة.. علشان تعرف بس أخلاقي من أخلاقك.
- أنا من النهار ده خدّامك.. ربّنا يخلّيك لنا وتفضل ضهرنا اللي بنتسند عليه.. وربّنا يجعلك دايماً ف خدمة الناس.