الفصل الأوّل | شيء من الخبث (3)
خرج "طهطاوي" مع "عدنان"
من الباب الخلفي لدوّار العموديّة وقد وجدا أن العسكر قد نصبوا خيمةً مزركشة في
الساحة الخلفيّة حتّى يجتمع بداخلها كبار الضبّاط، وعندما دخلا الخيمة ألفيا
جميعهم جالسين على أحّر من الجمر وقد بدت على قسمات وجوههم أمارات اللهفة والترقب
فعاجلهم "طهطاوي" بقوله :
- بصّوا يا رجّالة.. إحنا داخلين على عملية
كبيرة قوي.. صحصحوا لي كده بقى وطرطقوا ودانكم.. بقى احنا لازم نقف جنب العمدة ف
مصيبته دي.. وإن جيتوا للحق دي مصيبة وحطّت علينا كلّاتنا.. ولو راح العمدة ح تروح
معاه أيّام العز والبغددة اللي كنا متلغمطين فيها لشوشتنا.. يعني م الآخر كده لو
سي "عتريس" حصلت له أيّتها حاجة عفشة ح نتلط ويّاه.. لا ح يبقى فيه فلوس
تنطّر علينا ولا ح يبقى لنا وزن ف البلد ولا ح نقدر نقيم راسنا وسط الخلايق زي
الأوّل.. وبعدين مش بعيد أهل البلد الرمّة دول يتنطّطوا علينا ويقولوا لنا من أين
لكم هذا؟.. ويبصوا لنا ف الفلوس اللي داخلة لنا ويراجعوا علينا بنصرفها فين
وبنودّيها ف أي داهية....
"عليش" مقاطعاً:
- يعني يا فندي لمّا يبقى....
فنهره "طهطاوي" مزمجراً بلهجة
عالية حادة:
- لمّا انا باكون باتكلّم يا له تطب ساكت
خالص وما تقاطعنيش.. إنتم صدّقتوا نفسكم إن ليكم كلمة ف القعدة دي بصحيح؟.. هو انا
مجتمع معاكم علشان ناخد وندّي مع بعض ولّا إيه؟.. إنتم بس صورة قدام الناس علشان
يفتكروا إن قال إيه فيه شوري.. إنتم شوية طرابيش تسمعوا الكلام وتقولوا حاضر يا
فندي وتقوموا تنجرّوا تنفّذوا الأوامر وتقولوا اللي أنا عايزكم تقولوه.. فاهم يا
لوح منك له.
"الجويني" وهو يلكز
"عليش":
- حاضر يا فندي.. إحنا كلنا خدّامينك
وخدّامين سي "عتريس".
"طهطاوي":
- بس إنت راخر بلاش مسح جوخ وحياة والدك..
المهم.. إنتم ح تنتشروا مع عساكركم ف كل حتّة ف البلد.. وتبيّنوا للناس إنكم جايين
تحموهم م الغفر اللي بيضربوا عليهم نار كل شويّة.. وإنكم ح تأمّنوا البلد من
الحراميّة والبلطجيّة واللي عايزين يولّعوا ف البلد.. يعني حبّة عساكر بجمالهم ح
يقفوا قدّام النقطة.. وحبّة قدام الجمعيّة الزراعيّة.. وحبّة عند بنك التسليف..
وشويّة حوالين الوحدة الصحيّة والجبّانة وموقف الأوتومبيلات ودوّار العموديّة
الجديد والقديم كمان.. وشويّة عند الهاويس بالمرّة.. وماتنسوش طبعاً الجامع
والزاوية اللي حدى "الهلايلة" والكنيسة الصغيرة بتاعة
"الصلايبة".. وهلم جرّا.. طبعاً الناس ح ترحب بيكم علشان ح تحلّوا محل
الغفر اللي دوّروا الضرب وقتّلوا فيهم.. وبكده ح نكون كسبنا أوّل نقطة.
واستدرك يقول:
- آه كنت ح انسي اقول لكم.. ما تدوش العساكر
رصاص أو ذخيرة.. وخلّوا الطفشجيّة يشيلوا إبر ضرب النار من بنادقهم.. خلّوا
بنادقهم منظر بس.. تبان بنادق إنما هيّ ف الحقيقة شويّة شوم.. أحسن الشيطان يلعب ف
دماغهم ويتوالسوا مع أهل البلد ويقلبوا علينا ويخلّوها لنا روبة.. ما هي اللي تخاف
من العرسة ما تربّيش كتاكيت.
"عدنان" :
- ممكن أتكلّم يا فندي.
"طهطاوي" ممتعضاً:
- ها.
"عدنان" :
- أنا باقول - والرأي الأوّل والأخير ليك
طبعاً - إننا نخلّي شويّة عساكر وظبّاط تبعنا يسلّموا على أهل البلد ويحضنوهم
ويبوّسوا فيهم.. وف نفس الوقت يشتموا في سي "عتريس".. علشان الناس تنام
من ناحيتنا ويصدّقونا.. إيه رأي جنابك؟
"طهطاوي" :
- براوه ياد يا "عدنان".. والأدهى
والأمر كمان إننا نكتب ع الجمال والحصنة شويّة حاجات كده نسجّد بيها الناس يعني
اكتبوا مثلاً: "يسقط الطاغية عتريس.. إرحل يعني إمشي.. الشعب والهجّانة إيد
واحدة.. الدهاشنة أوّلاً.. عاشت الدهاشنة حرّة مستقلّة.. جواز عتريس من فؤادة
باطل".. وحاجات كده يعني.. ياللا على بركة الله.. أنا ح اروح لأهل البلد ف
الساحة القدّامانية أقول لهم كلمتين.. وانتم اعملوا اللي قلت لكم عليه.. تعالي
معايا ياد يا "عدنان".
"عدنان":
- أنا ف ديلك أهه يا آبا "طهطاوي".
وخرج "طهطاوي" و"عدنان"
من الخيمة؛ والتفا حول الدار حتّى وصلا إلى الساحة الأماميّة فوجدا أهل البلد في
حالة غليان بعد ما جري لهم على أيدي الخفر من ضربٍ وسحلٍ وقتل، وعندما شاهدوا
"طهطاوي" و"عدنان" توجّسوا منهما خيفة وتراجعوا إلى الخلف
قليلاً وظنّوا أن الهجّانة سوف تنكّل بهم بعد أن انسحب الخفر خاسئين.. ولكن –
ويالدهشتهم - ألفوهما قادميْن وهما هاشّان باشّان وقد ارتسمت على ملامحهما علامات
التواضع والرحمة.. فبادرهم "طهطاوي" بقوله :
- سلامُ عليكم يا اهل البلد.. يا رجّالة يا
اللي شرّفتونا قدام الخلايق كلّاتهم.
"عدنان":
- حقّة ده انتم خلّصتوا البلد من
"عتريس" بوز الإخص ده وزمنه الأغبر.
فنزلت هاتان العبارتان على قلوبهم برداً
وسلاماً؛ فردّوا السلام ولكن بنبرةٍ خفيضةٍ وتحفُّظ.
"طهطاوي":
- إحنا جينا يا رجّالة لما عرفنا اللي عمله
فيكم "عتريس" ورجّالته.. وماخلّصتناش العمايل السودة دي.. علشان كده
احنا هجمنا ع الدوّار وقبضنا على "عتريس" و"إسماعيل" وبقيّة
رجّالتهم وأمرنا عساكرنا إنها تنزل البلد تحمي الناس وتأمّن كل مكان ف
"الدهاشنة".. أحسن رجّالة "عتريس" كتير وما نضمنهمش.. دول
ممكن يحرقوا البلد من أوّلها لآخرها.
وما إن تفوّه "طهطاوي" بهذه
الكلمات حتّى رأى الناس العسكر يتوغّلون في أرجاء القرية وهم يلوّحون لأهل البلد
بعلامات النصر ويمتطون الجمال والخيول وقد كتبت عليها عبارات مؤيّدة لأهل البلد
ومناهضة للعمدة؛ فبدأوا يتقافزون من غمرة السرور وظلّوا يهتفون بكل حماسة للهجّانة
وأبطالها ويستقبلونهم بكل ترحاب.. وقد انطلت عليهم هذه الحيلة
الجهنميّة.
ووسط هتافات أهل البلد وزغاريد نسوتهم انطلق
"طهطاوي" يقول في لهجةٍ يغلب عليها التباهي:
- ربّنا يعلم احنا عملنا إيه مع
"عتريس" الندل ده علشان خاطركم.. تصدّقوا إنه كان عايزنا نضربكم
بالعصيان والكرابيج والسلاح والذي منه؟.. بس احنا ما رضيناش بكده بتاتاً البتة..
دي تنقطع إيدينا قبل ما نمدّها على ولاد بلدنا.. مش كده وبس.. لأ ده إحنا كمان
غصبنا عليه يسيب العموديّة.. وح نمسكها احنا مكانه.. ده طبعاً موقّتاً بس.. عقبال
ما المركز يعيّن عمدة جديد.. ولا نقول لكم.. إحنا ح نستني لحد ما إنتم - يا اهل
البلد يا أُصَلا - تنقّوا واحد من وسطيكم يمسك العموديّة.. يعني هيَّ مسافة خمس ست
أشهر لحد ما العمدة الجديد يمسك بالسلامة.
وهنا ظهر من وسط الجموع الشاب النابه
"حمداوي" (وهو أفندي متعلّم في البندر وحاصل على شهادة البكالوريا
بتفوق) وقال متحاذقاً في شكٍ وريبة وهو يغالب الزحام :
- بس يا فندي احنا مش ح نتّعتع من هنا ولا ح
يغمض لنا جفن إلا لما نمسك العمدة ورجّالته ونحاسبهم على كل البلاوي اللي عملوها
فينا.. دول خربوا البلد ونهبوها يا عالم.
"طهطاوي" وهو يحاول أن يكظم غيظه:
- وانت بقى الزعيم اللي قوّم الهوجة دي
كلّتها.
الشيخ "إبراهيم":
- لأه.. الهوجة دي ما لهاش ريّس.. إحنا كلّنا
قمنا قومة واحدة بعد ما فاض بينا الكيل.. علشان نخلّص "فؤادة" من
"عتريس" الظالم اللي اتجوزها بالباطل.
"طهطاوي":
- عموماً.. إحنا شيّعنا "عتريس"
للاسبيتاليا مع عساكر تبعنا.. إكمّن صدره قام عليه من كتر الدخان اللي دخل جوفه من
المشاعل بتاعتكم.. إطمّنوا.. أوّل ما ح يخّف لابد عن كل بد ح نعمل له قعدة رجّالة
علشان نشوف له صرفة هو وشيخ الغفر وشيخ البلد والأعيان وكل الغفر اللي صابوا
وقتلوا أهل البلد.. حتّى كمان ولاده "كمال" و"ولاء" ح ينوبهم
من الحب جانب.. ما هو احنا لا ممكن أبداً نسيب حد إتسبّب ف أيّتها أذيّة لأهل
البلد.. لازماً نحاسبهم والعدل ياخد مجراه.. وحق الشهيد "محمود" ابن
الشيخ "إبراهيم" وبقية الشهدا والمتصابين ضروري ح نجيبه من حبابي
عينيهم.. بس مراة "عتريس" القديمة اللي اسمها "سلوان" دي ح
تلزم دارها.. ما احنا ما بنحبسش حريم.. وانتم ولاد بلد وعارفين.. إنما
"فؤادة" ح تفضل معانا ف دوّار العموديّة معزّزة مكرّمة.. لغاية ما نشوف
ح نعمل إيه.. ما تنسوش إنها ده الوقت من غير راجل بعد ما عرفنا إن جوازها من
"عتريس" باطل.. ربّنا يبعدنا عن الحرمانيّة والذنوب.. وإن شاء الله ح
نجوّزها للعمدة الجديد أوّل ما تختاروه.
فقاطعه "شحاته" (وهو من شباب
القرية المتديّنين المتزمّتين والذين انضمّوا لأهل البلد متأخراً لأنهم كانوا يرون
- أوّل الأمر - أن الخروج على العمدة من المحرّمات التي تستوجب النبذ وعدم
المشاركة؛ رغم أنهم من أكثر الناس تضرراً من ظلم العمدة وكثيراً ما أودعهم حجز
النقطة وأعمل فيهم شتّي صنوف العذاب) في لهجة عاميّة معطّشاً فيها الجيم ومفخّماً
القاف :
- واحنا بقى إيش ضمّنّا إنكم ح تحافظوا على
"فؤادة" ومش ح تجوّزوها لحد منكم؟.. ما هي بقى لها سنين طويلة بتتنقّل
بين إيدين العسكر.. واحد ورا التاني ورا التالت ورا الرابع.. إلّا ما حد فيهم
رحمها وسابها تشّم نفسها شويّة.. كلهم قعدوا يمصّوا ف دمّها لحد ما دبلت يا ولداه
وما بقاش حد له نفس يتطلّع ف وشّها اللي كان زي البدر المنوّر.
"طهطاوي":
- يا جماعة احنا مش طمعانين ف العموديّة..
إحنا عايزين نحافظ ع البلد م الحريقة اللي ممكن تمسك فيها كلها.. وخيّوباً علينا
ما فيه جنس ظابط م الهجّانة لابس ميري ح يمسك العموديّة.. وبعدين يا خلق ما انتم
اللي ح تنقّوا العمدة الجديد بنفسكم.. مش قلت لكم كده.. عيب ده احنا كلامنا كلام
رجّالة مش حريم.
الشيخ "إبراهيم" بحسم:
- خلاص يا عالم بقى.. كل حي يروّح داره.. ما
بقى لهاش لازمة القعدة هنا.. الناس دي (مشيراً للهجّانة) ميّة ميّة.. دول ياما
دافعوا عننا وحمونا من حاجات كتير.. وكفاية إنهم ما رضوش يطاوعوا العمدة الظالم ف اللي
كان عايز يعمله فينا.. واديهم خلّصونا منه بالكليّة وح يعملوا قعدة علشان نحاسبه
هوَّ ورجّالته.. عايزين إيه أكتر من كده؟
"حمداوي":
- إحنا قلنا مش ح نتزحزح من هنا إلا امّا
يتحقق اللي اتفقنا عليه.. يعني العمدة القديم ودلاديله يتحاسبوا.. والعمدة الجديد
نختاره.. والبلد تفوق بقى.
الشيخ "إبراهيم":
- خلاص يا وله يخرب مطنّك.. ما بلاش تتنطّط
لنا كده زي فرقع لوز.. ما قلنا خلاص بقى روّحوا.. ما فيش سمعان كلام للكبار ولا
إيه؟.. ده اللي ما لهوش كبير بيشتري له كبير يا قليل الرباية.. وبعدين لو الهجّانة
ما عملت لكمش اللي انتم عايزينه أهي الساحة اللي قدّام الدوّار مش ح تطير.. إبقوا
ارجعوا اتلمّوا فيها واعملوا ما بدا لكم.. دِه دي.
وبالفعل بدأ أهل البلد في مغادرة الساحة فقد تعبوا في الأيام الماضية أيّما تعب.. وهم ليسوا بمعتادي الإجهاد والاجتهاد وبذل المجهود بعد طول استكانةٍ وخمولٍ وتواكل، ولم تنقضِ عدة دقائق إلا وقد خلت الســاحة وخوت تماماً تنعى شاغليها، وعاد "طهطاوي" و"عدنان" إلى الدوّار ليبشّرا من ينتظرهما بداخلها بنجاح مساعيهما.. وكانا يمشيان بكل زهوٍ وفخار وقد ارتسمت على وجهيْهما ابتسامةٌ خبيثةٌ ذات معني، ولِمَ لا وقد تكلّلا بالانتصار في أوّل جوْلة.