لقد هَرِمنا.. إرحمونا
بقي (1)
- يا راجل يا عجوز..
مناخيرك قد الكوز.. وودانك ليها بوز.. زي ودان الأراجوز.
كان ذلك هو النشيد
اليومي الذي يغنّيه أطفال قرية "محلّة مرحوم" وهم يزفّون عم
"ضاحي" بمصاحبة القليل من الصافرات والكثير من قذف الطوب والحصى وما
تيسّر من حبّات البلح الجاف المتساقط من النخيل، وقد اعتاد الأطفال على إحياء ذلك
البروتوكول الرسمي الذي يسمّونه "زفّة" مع هذا الرجل المسن كلّما يروْنه
خارجاً من باب بيْته العتيق ليقضي شأناً من شؤونه في البندر دون أن يتدخّل أهاليهم
بالزجر أو النهر أو حتّى النصيحة ولكن هذه المرّة انبرى لهم الحاج
"عويس" البقّال قائلاً :
- بس ياض انت وهوَّ..
إمشوا بعيد ياللا.. فيه حد يعمل كده برضه.. الإزاز يتكسر.. وانت يا عم
"ضاحي" مش قلت لك مية مرّة ما تمشيش من قدّام المحل.. ح تنبسط يعني لمّا
تيجي طوبة ف الإزاز تدشدشه.. ده اللوح الأربعة مللي بالشيء الفلاني ده الوقت.
- معلهش يا بني غصب
عنّي.. ولاد الذينَ دول مدّبقنّي م الصبح.. وكل ما اشخط فيهم علشان يبعدوا يضحكوا
أكتر ويزوّدوها معايا.
- هع هع.. بصراحة
العيال ما غلطوش.. ما انت فعلاً مناخيرك قد الكوز.
- نعم يا
"عويس"؟.. بتقول حاجة يا ابني؟
- باقول لك : صباحك
زي اللوووز.. ها ها ها.
- الله يكرمك.. واللهِ
لولا الحوجة ما كنت خرجت م البيت.. بس اعمل إيه بقى.. ورايا كام مشوار اعملهم ف "طنطا"
وراجع على طول.. إدعي لي.
- روح يا شيخ إلهي
"عزرائيل" يفتكرك ويجينا خبرك.
- ها؟
- باقول : روح يا
شيخ إلهي ما نتحرم منّك.. ها ها هاي.
- طب ما تيجي
تسنّدني لغاية ما الاقي توك توك يوصّلني الموقف ينوبك ثواب.
- لا يا عم.. هوَّ
انا فاضي.. يعني ح اسيب المحل لوحده.. ربّا يسهّل لك بعيد عنّي.
- طيّب يا ابني.. كتّر
خيرك.. سلامُ عليكم.
وانصرف الشيخ
المتهدّم متوكئاً على عصاه الخشبيّة البالية وهو يتلفّت حوله ليتأكّد من عدم وجود
أطفال القرية الأبرياء الذين يبدو أنّهم ملّوا من مطاردته فأدبروا يبحثون عن لعبةٍ
غيره فحمد الله كثيراً وأسرع بالإشارة إلى "توك توك" يقوده شابٌ صغير
سأله بغلظة :
- على فين يا جدّو؟
- ع الموْقَف يا
حبيبي.
- ح تدفع تلاتة جنيه؟
- ليه يا بني ما انا
بادفع كل مرّة اتنين بس.
- البنزين غلي يا
حاج.. انت نايم على ودانك ولّا انت من أيّام الجنيه الجِبس.. ها؟.. ح تركب ولّا
اشوف غيرك ع الصبح.
- خلاص خلاص.. ح
ادفع وأمري إلى الله.. الساعة بقت سبعة.. لازم أحجز دور ف طابور البوسطة ف
"طنطا" علشان ألحق اروح التأمين أصرف الدوا.
- يا عم انت ح تحكي
لي تاريخ حياتك.. ما تركب وتخلّصني.
- حاضر يا ابني حاضر..
بالراحة عليَّ.
وطار الشاب بمركبته
الصغيرة مثيراً الكثير من الغبار وراءه ليسبق زملاءه الذين يتنافسون على الركّاب
فسابق الريح بين السيّارات الكبيرة دون أن يعطي أذناً صاغية لتوسّلات عم
"ضاحي" الذي تسارعت دقّات قلبه وغاض الدم في عروقه حتّي اصفرّ وجهه وصار
يتصبّب عرقاً بارداً من شدّة خوفه إلى أن وصل إلى موْقِف السيّارات وركب إحدى
السيّارات الذاهبة إلى "طنطا" وهو يردّد الشهادتيْن بين الفيْنة والأخرى.
وعندما أدركت
السيّارة مكان مكتب البريد طلب عم "ضاحي" من السائق التوقّف أمام المكتب
فرفض السائق متعلّلاً بأن عليه التوقّف في المحطّات الرسميّة فقط حسب تعليمات
المرور وشركة نقل الركّاب رغم أن نفس السائق كان قد توقّف منذ قليل أمام إحدي
عربات بيع شطائر الفول لمدّة ربع ساعة ليشتري إفطاره، واضطرّ "ضاحي" أن
ينزل في المحطّة الرسميّة التي تبعد عن مكتب البريد حوالي السبعمائة متر فسار
الهوينى حتى وصل إلى هناك بعد أن توقّف أثناء مشواره عدّة مرّات ليلتقط أنفاسه ويستجمع
قواه قبل معاودة السيْر مرّةً أخرى.
ووقف الرجل الهرِم
بين أقرانه من المسنّين في طابورٍ طويل امتدّ من أمام مكتب البريد حتّى أوّل
الشارع فجلس الرجل كغيْره على حافّة الرصيف وتجاذب أطراف الحديث مع جاره في الطابور
:
- سلامُ عليكم.
- وعليك السلام.
- أخوك
"ضاحي" من "محلّة مرحوم".
- وانا "عبد
اللطيف" من "كفر خزاعل".
- ياه.. وبتيجي
المشوار ده كل شهر.
- نعمل إيه.. حُكم
القوي.
- ده انا على كده
رحمة.
- يا سيدي كلّه
محصّل بعضه.. أنا متعوّد آجي من بلدنا أصلّي الفجر ف الجامع اللي جنب البوسطة
علشان احجز دور بدري.
- وبتقبض كام على
كده يا أخ "عبد اللطيف"؟
- باقبض ربعميّة وستّين
جنيه بعد الخمسة ف الميّة الزيادة بتاعة الشهر اللي فات.. أصلي الحمد لله طالع
معاش وانا ف الدرجة الرابعة.. زي ما تقول كده كنت واخد وضعي شويّتين.
- انت كنت شغّال فين؟