الجريمة (1)
تلاشى الهدوء في رحاب التاريخ، تغيّرت أشياءٌ
كثيرة، برزت معالمٌ جديدة، ولكن بقي الحيْ الشرقي يزخر بالأزِقّة والحـواري
والبـيـوت البالية، يقابله الحيْ الغربي بفيلّاته الكلاسيكيّة وعمائره الأنيقة
الحديثة، هكذا وجدتُ الضاحية التي وُلِدْتُ فيها بعد غيْبةٍ دامت ربع قرن. بهرني
ميْدان المحطّة باتساعه ومبانيه الحديثة وتمثال الفلّاحة الناهضة، والشارع العريض
الطويل الغائص في أعماق الضاحية حتّى المسلّة القائمة في الحديقة الكبرى، كما
بهرتني المصانع الجديدة بضخامتها ومداخنها النفّاثة وضجيج آلاتها، ورغبةً مني في
الاختلاط بالناس وتوثيق علاقتي بهم قرّرتُ الإقامة في الضاحية فذهبتُ إلى مكتب
سمسارٍ للشُقق وجلستُ في الانتظار بيْن جمعٍ من الرجال والنساء، جلستُ بوجهٍ بسّامٍ
مشحوذ الهِمّة للاستجابة لأيْ بادرةٍ ودودةٍ ولكنهم كانوا منهمكين في الحديث:
-
ألم يُسْتَدَل على
شخصية صاحبة الجثّة؟
-
كلّا .. وُجِدَت
مدفونةً من سنينٍ ومحترقةً تماماً.
-
كم سنة؟
-
أربع أو خمس سنوات ..
هذا ما كُتِب في الخبر.
-
والقاتل؟
-
لم يُعْرَف بعد ..
والأرجح أنهم عصابة .. فالقتل والإحراق والدفن تحتاج إلى أكثر من مجرمٍ واحد.
وتداخلتُ في الحديث سائلاً:
-
ألم يُعْلَن في
الضاحية وَقْت ارتكاب الجريمة عن اختفاء امرأة؟
فساد صمتٌ انقطع به الحديث مَليّاً ثم قال
شخص:
-
لا يمكن تَذَكُّر
ذلك.
فقلت:
-
ولكنه لا يمكن أن
يغيب عن تفكير المحقّق.
لم تحُز ملحوظتي قبولاً فيما بدا لي، فأكَّدَتْ
غُربتي بدلاً من أن تفتح لي مدخلاً إلى علاقةٍ حميمة، وخِفْتُ أن أُكْثِر من
الأسئلة فيُساء بي الظَن وخاصةً لشدّة حساسيتي من ناحية المهمّة التي أحمل أمانتها،
وليقيني المُسْتَنِد إلى خبرة مهنتي بأن الأعين يجب أن تكون منتبهةً تماماً نحو أي
دخيلٍ قد يهدّد أمن الضاحية وسرّها العجيب.
وجاء دوْري للمثول أمام السمسار فوجدتُ في
حجرته نَفَراً من المتعاملين، ووجدتُ أن حديث الجريمة يطوف بهم رغم انهماكهم في
إنجاز أعمالهم، وحتى السمسار نفسه يشارك فيه:
-
لا حـديـث
للضـاحـيـة إلّا الجريمة .. يتردّد في السوق والمكاتب والمصانع والأكواخ والفيلّات.
-
ذلك طبيعي جداً.
-
وما الفائدة؟
فقال السمسار:
-
ثرثرة .. معالجةٌ
عقيمةٌ للخوف والعجز .. ثرثرةٌ لا جدوى منها .. ثرثرةٌ وأمانٍ فارغة.
-
ولِـمَ الخوْف بالله
كأنّما كل فردٍ من الضاحية يخشى نفس المصير؟
غـادرتُ المكتب بعـد أن أجّـرتُ حـجـرةً
مـفـروشـةً في مبنى بالحيْ الشرقي، وسط الجمهور الذي أعتمدُ عليه في استخلاص
الحقيقة المنشودة، وتذكّرتُ مقابلتي لرئيسي التي كُلِّفْتُ في ختامها بالمهمة، قال:
-
ستذهب إلى الضاحية
لجمع التحريات والمعلومات.
وقال أيْضاً:
-
من حُسْن الحظ أن
أحداً من رجال الأمن هناك لا يعرفك.
فسألتُ باهتمامٍ وأدب:
-
ولكن لِـمَ سوء الظن
یا سیدی؟
-
حَسَنٌ .. طُمِسَت
معالم جرائمٍ قبل ذلك وقُيّدَت ضد مجهول .. لم تكن بفظاعة جريمة اليوْم .. ولكن ليْس
ما يمنع من أن يكون مصيرها كمصير سابقاتها.
-
ورجال الأمن هناك:
ماذا يفعلون؟
-
أتريد رأيي؟ .. إنهم
متواطئون .. لعلّهـم يقـومـون بالدوْر الرئيس في طمس معالم الجريمة.
-
ولكن لماذا؟
-
ذلك ما أود أن
توافيني بأسبابه.
-
وأهل الضاحية ما
موقفهم؟
-
هذه هي المسألة.
-
أليْسَت القتيلة
منهم وكذلك القاتل؟
-
إنى أؤمن بذلك كل
الإيمان.
-
إذن لِـمَ لا تُكْتَشَف
الحقائق ويُقْبَض على المجرمين كما يحدث في كل مكان؟
-
هذه هي المسألة.
كذلك دار الحديث قبيْل تكليفي بالمهمّة، لم
تكن مهمّتي إجراء أي تحقيقٍ بصفةٍ سِريّةٍ لمعرفة شخصيّة القتيلة أو القبض على
القاتل، وما كان ذلك بوسعي، لأنه لا يقع في اختصاصي من ناحية، ولأنه أمسى متعذَّراً
ما دام قد مضى على تاريخ الجريمة حوالي الخمس السنوات، مهمّتی كَشْف السِر عن
الأسباب الخفيّة لطمس معالم الجرائم في الضاحية، عن المصلحة المشتركة التي تشد "الناس"
إلى ذلك: الفقراء والأغنياء ورجال الأمن.