الجزء الثالث عشر
وهكذا استمر الشاب
يصغى الى قلبه - بينما كان يشق طريقه وسط الصحراء - وتوصَّل إلى أن يعرف حيله
وخدعه ومناوراته، وانتهى الى أن يقبله على عِلّاته، وعندها كَفَّ عن أن يخاف وكَفَّ
عن الرغبة في أن يعود أدراجه لأن قلبه قال له ذات ليْلةٍ إنه سعيد، وأسرَّ إليه
قائلاً:
- إذا شكوْتُ أحياناً من الخوْف فما ذلك
إلّا لأنني قلب إنسان .. وقد خُلِقَت قلوب الناس على هذه الشاكلة .. فهي تخشى
تحقيق أروع أحلامها لأنها تظن أنها غير جديرةٍ بتحقيقها أو لأنها لا تستطيع بلوغها
.. ونحن - القلوب - نموت خـوْفـاً من فكرة أن يضيع حبُّنا إلى الأبد أو أن تتسرَّب
لحظاتٌ كان يُمكِن أن تُصبِح رائعة أو أن تخفى علينا كنوزٌ كان يُمكِن اكتشافها
ولكنها تظل مطـمـورةً في الرمال .. وعندمـا يـحـدُث شيءٌ من ذلك فإننا نتعذَّب
عذاباً رهيباً حتى النهاية.
قال الشاب للخيميائي
في ليْلة راحا يُراقِبان فيها سماءً غاب منها القمر:
- قلبي يخشى أن يتعذَّب.
- قُل له إن الخوْف من العذاب أسوأ من
العذاب نفسه .. وأنه ما من قلبٍ تعذَّب وهو يسعى وراء أحلامه لأن كل لحظةٍ من البحث
هي اقترابٌ من الله ومن الأبديّة.
فقال الشاب لقلبه:
- إن كل لحظةٍ من البحث هي لحظة لقاء ..
فعندما كنتُ أبحث عن الكَنز كانت كل الأيّام بديعةً لأني كنت أعرف أن كل ساعةٍ تُشكِّل
جُزءاً من حُلم العثور عليه .. وبينما أبحث عن كنزي اكتشفتُ في الطريق أشياءً لم
أكُن أحلم قط بأن أُصادفها لو لم تكن لديَّ الشجاعة لأُجرِّب أشياءً استحال على
الرعاة فعلها.
عصر ذلك اليوم؛ وإثر
ذلك الحديث؛ ظلَّ قلبه في حالةٍ من السلام والطمأنينة، ونام في تلك الليْلة نوْماً
هادئاً، وعندما استيْقظ بدأ قلبه يروى له أشياءً عن روح العالَم، فقال له إن كل
إنسانٍ سعيدٍ هو إنسانٌ يسكُن الله قلبه، وأنه يُمكِن للإنسان أن يجد السعادة في
ذرّة رملٍ بسيطةٍ من رمال الصحراء كما قال الخيميائي، لأن ذرّة الرمل هي لحظةٌ من
الخلق قـضى الكوْن مـلايين وملايين من السنين لصُنعها، وقال له قلبه:
- لكل إنسانٍ على سطح الأرض كَنزٌ
ينتظره .. ونحن - القلوب - نادراً ما نتكلَّم عن ذلك لأن الناس كفّوا عن الرغبة في
العثور على هذه الكنوز .. نحن ما عُدنا نتكلَّم إلّا للأطفال الصغار ثم نترك
الحياة بعد ذلك تقود كل إنسانٍ صوْب مصيره .. ومن سوء الحظ أن قِلّةً من الرجال تتّبع
الطريق الذي هُيّأ لها وهو طريق الأسطورة الذاتيّة والسعادة .. أغلبهم يرون العالم
محفوفاً بالخطر ولهذا السبب ذاته فإن العالم يُصبِح في الواقع شيئاً خطيراً بالفعل
.. ومن ثَـمَّ نبدأ - نحن القلوب – في التكلُّم بصوْتٍ يخفت شيئاً فشيئاً ولكننا
لا نصمت أبداً ثم نتمنّى ألّا يكون كلامنا مسموعاً .. فنحن لا نريد للناس أن يتعذَّبوا
لأنهم لم يسلكوا الطريق الذي أرشدناهم إليه.
- لماذا لا تقول القلوب للناس إنهم يجب
أن يسعوا وراء أحلامهم؟
- لأن القلب هو الذي يتعذَّب أكثر في
هذه الحالة .. والقلوب لا تُحِب أن تتعذَّب.
ومنذ ذلك اليوْم ظل
الشاب يصغى إلى قلبه، طلب إليه ألّا يهـجـره أبداً، وطلب إليه أن يتشبَّث بصدره
عندما يبتعد عن أحلامه، وأن يعطيه إشارة الإنذار، وأقسم إنه سيأخُذ حذره في كل مرّةٍ
يستمع فيها إلى تلك الإشارة.
وتكلَّم
"سنتياجو" في تلك الليلة عن كل هذه الموضوعات مع الخيميائي الذي فهم أن
قلب الشاب قد رجع إلى روح العالَم، وسأله الشاب:
- ما الذي يجب أن أفعله الآن؟
- أكمِل السيْر في اتجاه الأهرام وواصل
الانتباه إلى العلامات .. قلبك يستطيع الآن أن يدلَّك على الكَنز.
- ذلك إذن هو الشيء الذي لم أكن أعرفه
حتى الآن؟
- لا .. إن ما ينقُصك معرفته حتى الآن
هو ما يلي: قبل أن يتحقَّق حُلمٌ ما فإن روح العالم ترغب في أن تمتحن كل ما تم تعلُّمه
على مدى الطريق .. وهي لا تتصرَّف بهذه الطريقة لأنها تُريد أن تمكُر بنا بل حتى
نتمكَّن من أن نستوْعب أيضاً - في وقت حُلمنا نفسه - الدروس التي نتعلَّمها ونحن
في سبيلنا إلى تحقيق الحُلم .. وتلك هي اللحظة التي يتخلّى فيها معظم الناس عن
أحلامهم .. وذلك ما نسميه نحن بلُغة الصحراء: الموْت عطشاً عندما يلوح فيه نخيل
الواحة في الأُفُق" .. إن أي مسعى يبدأ دائماً بحظ المبتدئ وينتهي دائماً
باختبار الغالب.
وتذكَّر الشاب مثلاً
قديماً من بلده يقول: إن أحلك اللحظات هي تلك التي تسبق بالضبط شروق الشمس.
*****
ظهرت أوّل علامةٍ ملموسةٍ
على الخطر في اليوْم التالي، فقد اقترب ثلاثةٌ من المُقاتِلين وسألوا المسافريْن
وهم يقتربون عمّا يفعلانه في هذا المكان، فقال الخيميائي:
- جئت أصطاد مع صقرى.
فقال أحد المُحاربين:
- لا بُد أن نُفتِّشكما لنتأكَّد أنكما
لا تحملان سلاحاً.
ترجَّل الخيميائي من
على حصانه بهدوءٍ تام وحذا الشاب حذوه، وسأل مقاتلٌ منهم حين فتَّش جراب الشاب:
- لماذا تحمل كل هذه الأموال؟!
- لكي أذهب إلى "مصر".
وعثر الرجل الذي كان
يُفتِّش الخيميائي على قارورةٍ صغيرةٍ من الكريستال مُمتلِئةٍ بسائلٍ ما وعلى بيْضةٍ
زُجاجيّةٍ صفراء اللون يزيد حجمها قليلاً عن حجم بيْضة الدجاجة، فسأله:
- ماهذا؟
فردَّ الخيميائي
العربي:
- حجر الفلاسفة وإكسير الحياة .. هما
العمل الكبير والإنجاز العظيم للخيميائيّين .. مَن يشرب من هذا السائل لا يمرض
أبداً .. وشذرةٌ صغيرةٌ من هذا الحجر تُحيل أي معدنٍ كان إلى ذهب.
انفجر الرجال
الثلاثة في ضحكٍ مُجلجِلٍ وشاركهم الخيميائي الضحك، وجدوا ردّه فُكاهيّاً للغاية،
وتركوهما يرحلان دون مزيدٍ من المُضايقة مع كل ما كان بحوْزتهما، وبعد أن ابتعدوا
بمسافةٍ قليلةٍ سأل الشاب صاحبه:
- هل أنت مجنون؟! .. لماذا أجبتهم هكذا؟!
- لكي أُظهِر لك أحـد قوانين العالَم، وهو
قانونٌ بالغ البساطة: "عندما تكون أمام أعيُننا كنوزٌ عظيـمـةٌ فنحن لا نُلقي
لها بالاً" .. وهـل تعـرف السبب؟ .. لأن الناس لا يُؤمِنون بالكنوز.
تابعا مسيرتهما في
الصحراء، ومع تعاقُب الأيّام أصبح القلب - قلب الشاب - أكثر صمتاً، فلم تعُد تُشغِله
أمور الماضي أو المستقبل، قنع هو أيضاً بأن يتأمَّل الصحراء وبأن يتشرَّب مع صاحبه
الشاب روح العالم، أصبح الشاب وقلبـه صـديقـيْن حميميْن لا يسَع أحدهما أن يخون
الآخر، وعندما كان القلب يتكلَّم فإنما كان ذلك لكي يُثير حمية صاحبه الشاب ويُشجِّعه
حين يجد تلك الأيام الطويلة من الصمت مُملّةً بشكلٍ رهيب، وللمرّة الأولى بدأ
القلب يُحدِّثه عن مزاياه العظيمة: عن الشجاعة التي أوتيها حين هجر غنمـه وعـاش
أسطورته الذاتيـّة، وعن الحـمـاس الذي أثبـتـه في مـحل الكريستال وقـال له شيئاً
آخر أيضاً لم يلحظه الشاب من قبل أبداً: حـدَّثه عن الأخطار التي نجا منها والتي
لم ينتبه إليها أبداً، فذات مرّةٍ أخفى مُسدِّس أبيه المحشو بالرصاص الذي اختلسه وكاد
يُلحِق بنفسه الأذى، وذكَّـره بيـوْم مـرض فيه في عراء الريف وتقيّأ ما في جوْفه
ثم استغرق في النوْم وقتاً طويلاً بينما كان هناك على مسافةٍ قصيرةٍ اثنان من قُطّاع
الطُرُق اعتـزمـا سـرقـة خـرافه ثم قتله ولكن تأخُّره في النوم وعدم وصوله في
الوقت المُعتاد منه جعلهما ينصرفا في النهاية مُعتقديْن أنه غيَّر مساره المعهود،
وسأل الشاب الخيميائي:
- هل تُساعِد القلوب أصحابها دائماً؟
- تُساعِد فقط مَن يعيشون أسطورتهم
الذاتيّة .. لكنها كذلك تُساعِد كثيراً الأطفال والمخمورين وفاقدي الوعي والشيوخ.
- هل معنى ذلك إذن أنه لا وجود للخطر؟
- بل معناه فقط أن القلوب تفعل كل ما
بوسعها.
وذات ليْلةٍ مرّا قُرب
مُخيَّم عشيرةٍ مُشترِكةٍ في الحرب، كان هناك في كل مكانٍ أعرابٌ يرتدون ثياباً
بيضاء رائعةً وأسلحتهم جاهزةٌ للاستخدام، كان الرجـال يُدخِّنون النرجيلة
ويتجاذبون أطراف الحديث ولم يعيروا اهتماماً كبيراً لهذيْن المُسافريْن.
قال الشاب عندما
ابتعدا قليلاً:
- لا يوجد أدني خطر.
استشاط الخيميائي
غضباً وقال:
- ثِق بقلبك .. ولكن لا تنسَ أنك في
الصحراء .. عندما يشتبك الناس في قتالٍ فإن روح العالَم تسمع هي أيضاً الصرخات
والمعارك .. ما من شخصٍ واحدٍ بمنجى من كل ما يحدث تحت السماء.
وفكَّر الشاب في سِرّه:
- كل الأشياء شيءٌ واحدٌ فريد.
وكأنما أرادت
الصحراء أن تُثبِت أن الخيميائي العجوز على حق، فقد ظهر فجأةً فارسان خلف المسافريْن،
وقال أحدهما:
- لا يُمكِنكما المُضي أبعد من ذلك ..
فأنتما في منطقةٍ تدور فيها المعارك.
قال الخيميائی ناظراً
في عيون المحاربين مباشرة:
- لن أمضى إلى بعيد.
سكتا للحظاتٍ ثم
سمحا للمسافريْن بمواصلة الطريق، راقب الشاب المشهد كلّه في انبهارٍ وقال للخيميائي:
- لقد أخضعتهما بنظرتك.
- ذلك أن العين تُبدي قوّة الروح.
قال الشاب لنفسه:
- هذا صحيح.
فقد انتبه إلى رجلٍ
وسط مُخيَّم الجنود كان يُثبِّت عيْنيْه على الخيميائي وعليه هو نفسه، ومع أنه كان
بعيداً جدّاً - بحيث يتعذَّر تبيُّن ملامـحـه جيّداً - فقد راود الشاب يقينٌ مُطلَقٌ
بأن هذا الشخص يُراقبهما.
وأخيراً؛ وبينما كانا
يستعدّان لعبور سلسلةٍ جبليّةٍ تمتد بعرض الأُفُق كلّه قال الخيميائي إنهما باتا على
مسيرة يوميْن من الأهرام، قال الشاب:
- إن كان يجب أن نفترق قريباً فلتُعلِّمني
الخيمياء.
- أنت تعرف الآن ما ينبغي عليك معرفته
.. لم يبقَ سوى أن تدخُل في روح العالَم وأن تكتشف الكَنز الذي ادّخرتُه لكلٍّ مِنّا.
- ليس هذا ما أُريد معرفته .. أنا أتكلَّم
عن تحويل الرصاص إلى ذهب.
احترم الخيميائي صمت
الصحراء ولم يُجِب على الشاب إلّا في اللحظة التي توقَّفا فيها ليتناولا طعامهما فقال:
- كل شيءٍ في الكوْن يتطوَّر .. وأهل
العِلم يعـرفـون أن الذهب هو أكثر المعادن تطوُّراً .. لا تسألني عن السبب فإني
أجهله .. كل ما أعرفه هو أن التقاليد تُعلِّمنا كل ما هو حقٌ دائماً .. ولكن الناس
هم الذين أخطأوا في تفسير أقوال الحُكماء وأخذوها على غيْر محملها الصحيح .. وبدلاً
من أن يكون الذهب رمزاً للتطوُّر فقد أصبح شرارة الحروب.
- إن الأشياء تتكلَّم بعِدّة لغات .. وقد
رأيْتُ صياح الجمال لا يعدو أن يكون صياحاً .. ثم إذا به يغدو علامةً للخطر .. ثم عاد
أخيراً مُجرَّد صياح.
لكن الفتى
"سنتياجو" سكت ولم يُكمِل، فلا بُد أن الخيميائي يعرف هذا كلّه، ثم قال
الخيميائي:
- لقد عرفتُ خيميائيّين حقيقيّين
اعتكفوا في مختبراتهم وحاولوا أن يتطوَّروا مثل الذهب .. وقد اكتشفوا حجر الفلاسفة
.. وما هذا إلّا لأنهم فهموا أنه عندما يتطوَّر شيءٌ فإن كل ما حوْله يتطوَّر على
شاكلته .. ونجح آخـرون بالمُصادفة في الاهتداء إلى الحـجـر .. وهؤلاء كانت لديهم
الموْهبة .. وكانت أرواحهم أكثر إرهافاً من أرواح غيرهم من الناس .. لكن هؤلاء لا
يدخلون في الحساب لأنهم نادرون .. وهناك آخرون ظلّوا يبحثون عن الذهب فحسب .. وهؤلاء
لم يجدوا السِر أبداً .. فقد نسوا أن للرصاص وللنحاس وللحديد أساطيرهم الذاتيّة
أيضاً التي ينبغي أن ينجزوها .. ومَن يتدخَّل في الأساطير الذاتيّة للآخرين - بغيْر
حق - لن يكتشف قط أسطورته هو نفسه.
بدا وقع كلمات الخيميائي
كالنذير الملعون، بعد ذلك انحنى الرجل العجوز والتقط من رمل الصحراء قوْقعةً وهو
يقول:
- هُنا كان البحر فيما مضى.
- لاحظت ذلك من قبل.
طلب إليه الخيميائي
أن يُقرِّب القوْقعة من أذنه، وكان الشاب قد فعل ذلك عشرات المرات في طفولته وسمع
صخب البحر، قال الخيميائي:
- إن البـحـر يعيش دائماً داخل هذه القوْقعة
لأن تلك هي أسطورتها الذاتيّة .. وهو لن يُغادرها أبداً إلى أن تغمر الأمواج من
جديد هذه الصحراء.
ثم امتطيا جواديْهما
من جديدٍ وانطلقا صوْب أهرام "مِصر"، وكانت الشمس تميل إلى المغيب عندما
أعطى قلب الشاب إشارة خطرٍ لصاحبه، كانا محاطيْن بكُثبانٍ عالية، ونظر الشاب إلى
الخيميائي ولكن بدا أن الخيميائي لم يلحظ شيئاً، وبعد خمس دقائقٍ لمحا أمامهما مُباشرةً
فارسيْن، وقبل أن يتاح له أن يقول للخيميائي أي شيءٍ كان الفارسان قد أصبحا عشرة،
ثم مائة، ثم غطّوا في النهاية الكُثبان بطول امتدادها، كانوا هم المُحاربين الذين
يرتدون الثياب الزرقاء وتُحيط بعمائمهم ثلاثة أشرطةٍ سوْداء، كانت وجـوهـهـم مُغطّاةً
بلُثُمٍ زرقاء أُخرى لا تُظهِر سـوى أعيُنهم، وحتى على ذلك البُعد كانت الأعيُن تُبدي
قوّة أرواحهم، كما كانت تُنذِر بالموت في نفس الوقت.
*****
اقتيد المُسافران
حتى مُعسكَرٍ حربيٍ قريب، ودفع جُنديٌ بالخيميائي وبالشاب إلى داخل خيْمةٍ تختلف
تماماً عن تلك التي رآها في الواحة، كان هناك قائدٌ حربيٌّ يُحيط به أركان حربه،
وقال أحد الرجال:
- ها هُما الجاسوسان.
فقال الخيميائي:
- لسنا سوى مُسافريْن.
- شوهدتما منذ ثلاثة أيّامٍ في معسكر
الأعداء .. وكنتما تتحدَّثان مع أحد المُحاربين.
قال الخيميائي:
- أنا رجلٌ أسيرٌ في الصحراء وأعرف
النجـوم لكنني لا أعرف أي شيءٍ عن الجيوش ولا عن تحـرُّكـات القـبـائـل .. كنتُ
فقط دليـلاً لصديقي هذا حتى هنا.
سأل الرئيس:
- ومَن يكون صديقك؟
قال الخيميائي:
- هو خيميائي .. يعرف قوى الطبيعة ويود
أن يعرض على القائد قُدراته الخارقة.
استمع الشاب في صمتٍ
وانتابه الخوْف، وسأله أحد الرجال:
- وماذا يفعل رجلٌ غريبٌ في أرضٍ غريبة؟!
تدخَّل الخيميائي
قبل أن تسنح للشـاب فُـرصـة النُطق بكلمةٍ واحدة قائلاً:
- أحضرتُ نقوداً لأُقدِّمها إلى عشيرتكم.
انتزع أحد الرجال
جراب الشاب وأعطى ما به من قطعٍ ذهبيّةٍ للرئيس الذي أخذها دون أن يقول شيئاً، وجد
فيها ما يكفي لشراء كَـمٍّ كبيرٍ من الأسلحة، وأخيراً سأله القائد العربي:
- من يكون الخيميائي؟!
- هو رجلٌ يعرف الطبيعة والعالم .. ولو
أراد لدمَّر هذا المُعسكَر مُستخدِماً قوّة الريح وحدها.
ضحك الرجال، فقد كانوا
مُعتادين على عُنف الحرب ويعرفون أن الريح لا يُمكِنها أن توجِّه ضربةً قاتلة، ومع
ذلك فقد شعر كل منهم بقلبه ينقبض في صدره، كانوا بدواً صحراويّين يخافون السحرة، فقال
القائد:
- أود أن أرى شيئاً من هذا القبيل.
فرد الخيميائي:
- يلزمنا ثلاثة أيّامٍ ثم سيُحوِّل نفسه
إلى ريحٍ لمُجرَّد أن يُظهِر لكم مدى قُدرته .. وما لم ينجح فسنُقدِّم لكم حياتنا
طواعيةً تمجيداً لشرف قبيلتكم.
- أنت لا تستطيع أن تُقدِّم لي ما أملكه
بالفعل.
قال الزعيم تلك
العبارة بنوْعٍ من الغطرسة، ولكنه وافق على أن يمنح المُسافريْن مُهلة الأيّام
الثلاثة، لم يستطع الشاب المرعوب أن يخطو خطوةً واحدة، وتعيَّن على الخيميائي أن يُمسِك
بذراعه ليُساعده على الخروج من الخيْمة وهو يقول له بصوْتٍ خفيض:
- لا تُظهِر لهم خوفك .. هؤلاء رجالٌ شُجعان
ويحتقرون الجُبناء.
فقد الشاب القُدرة
على النُطق ولم يستعِد صوْته إلّا بعد مُدّةٍ وهما يسيران وسط المعسكر، ولـمّـا كان
من غيْر المُفيد حبسهما اكتفى الأعراب بمصادرة حصانيْهما، وهكذا كشف العالَم مرّةً
أُخرى لُغاته التي لا يعدّها الحصر: فالصحراء التي كانت مسرحاً حُرّاً وبلا حدود
أضحت الآن سوراً منيعاً لا سبيل إلى تخطّيه، وقال الشاب:
- لقد أعطيْتَهم كل كَنزى .. كل ما نجحتُ
في كسبه خلال حياتي بأسرها.
- وفيم كان سيفيدك هذا لو أنك مت؟ .. لقد
أنقذ مالك حياتك لثلاثة أيّام .. ونادراً ما ينفع المال في تأجيل الموْت.
لكن الرعب كان
مستولياً على الشاب بحيث لم يترك له مجالاً للاستماع إلى أقوالٍ حكيمة، ولم يكُن
يعرف كيف سيُحوِّل نفسه إلى ريحٍ فهو ليس خيميائيّاً.
طلب الخيميائي من
أحد المُقاتلين شـاياً وصبَّ قليلاً منه في قبضتيْ الشاب فسرت موجةٌ من السكينة في
جسده بينما كان الخيميائي يقول كلماتٍ لم يستطِع أن يفهمها حيث قال بصوْتٍ هادئٍ
هدوءاً غريباً:
- لا تترك نفسك لليأس .. فهذا يحول بينك
وبين الحوار مع قلبك. –
- ولكني لا أستطيع أن أحوِّل نفسي إلى
ريح.
- مَن يعِش أسطورته الذاتيّة يعرف كل ما
يحتاج إلى معرفته .. لا يوجد غير شيءٍ واحدٍ يُمكِن أن يجعل الحلم مستحيلاً: هو خوْف
الفشل.
- أنا لا أخاف الفشل .. كل ما في الأمر
هو أني لا أعرف كيف أتحـوَّل إلى ريح.
- إذن فيجب أن تتعلَّم .. حياتك تتوقَّف
على ذلك.
- وإذا لم أستطِع؟
- ستموت .. لأنك عِشت أسطورتك الذاتيّة
.. وهذا أفضل من أن تموت مثل ملايين من البشر لم يعـرفـوا حتى بوجـود الأسطورة
الذاتيّة .. ولكن لا تقلق فالموْت عموماً يجعل الإنسان أكثر حرصاً على الحياة.
انقضى اليوْم الأوّل،
ودارت رحى معركةٍ كبيرةٍ في الجوار، وجيء بعديدٍ من الجرحى إلى المعسكر، وفكَّر
الشاب:
- لا شيء يتغيَّر بسبب الموت .. فقد استُبدِل
بالمحاربين الذين ماتوا غيرهم .. والحياة تستمر.
وقال أحد المحاربين
أمام جُثمان واحدٍ من رفاقه في المعركة:
- كان يُمكِن أن تموت فيما بعد ياصديقي
.. كان يُمكِن أن تموت بعد أن يحل السلام .. ولكنك كنت ستموت على أي حال في آخر
الأمر.
وقبيْل الليْل ذهب
الشاب يبحث عن الخيميائي الذي أحضر الصقر معه إلى الصحراء، وكرَّر قوْله من جديد:
- لا أعرف كيف أحوِّل نفسي إلى ريح.
- تذكَّر ما قُلتُه لك: إن العالَم ليس
سوى الجُزء المرئي من خلق الله .. والخيمياء ما هي إلّا أن تنقل كمال الروح إلى
عالم المادّة.
- ماذا تفعل الآن؟
- أُطعِم صقرى.
- إذا لم أنجح في أن أُحوِّل نفسي إلى
ريحٍ فسنموت معاً .. فما الجدوى من أن تُطعِم الصقر؟
- أنت الذي ستموت .. أمّا أنا فأعرف كيف
أُحوِّل نفسي إلى ريح.