الفصل الأوّل | سفاح كرموز (1)
انتصف نهار الأحد الموافق 6 من يوليو عام
1924 بمركز "أبوتيج" بمديريّة "أسيوط" حين دخل الطفل
"سعد" ذو الخمسة أعوام إلى داره باكياً حيث تلقّفته أمّه في أحضانها
وأخذت تربّت على رأسه وظهره فزاده ذلك نشيجاً وعويلاً وقال متهنّفاً وهو يدفن رأسه
في صدر أمّه الدافئ :
- شُفتي يا امّه .. الواد "مينا"
أخد مني المسدّس وضربني.
- ليه؟ .. عملت له إيه يا ضنايا؟
- ما عملتلوش حاجة .. حتى اسأليه أهو جاي
ورايَّ اهُه.
وولج أخوه "مينا" فعاجلته أمّه
بالسؤال وهي تعنّفه :
- تعالَ يا سُخام انت .. زعّلت خوك ليه يا
واكل ناسك؟
- ما زعّلتوش يا امّاي .. هوَّ اللي رمى
المسدّس ف وشّي واتقمص.
- ليه؟
- كل ده علشان لمّا اخد المسدّس بتاعي قلت له
أوعى تضيّعه زي ما ضيّعت بتاعك.
- ما تسيبه يضيّعه زي هو ما عايز .. مش قلت
لك ما تزعّلش خوك الصغير يا زُفت انت.
- ما انا كده ما عنديش مسدّس.
- وإيه يعني .. إنت كبرت ع اللعب خلاص .. بقى
عندك فوق العشر سنين وشنبك بدأ يخُط ف وشّك أها .. لسّاك عايز تلعب! .. قبر يلمّك
.. لافيه المسدّس قوام.
- أها .. بس ايش معنى هوّ اللي يلعب وانا لا؟
.. مش كفاية طلّعتيني م المدرسة وهوَّ لا.
- أنا طلّعتك م العلام علشان تشتغل ف ورشة
بوك الله يبشبش الطوبة اللي تحت دماغه .. لازم تتعلّم صنعة الغزل والنسيج لغاية ما
تمسك الورشة بدل ما احنا مأجّرينها للأغراب إكده واكلين خيرها .. وبعدين انت
الكَبير يا "مينا" .. انت اللي تشيل الهّم .. وتحِن على خوك الصغير اللي
ما وعاش على بوه الله يرحمه .. قلت لك الحديت ده بدل المرّة تنين وتلاتة وألف.
- حاضر يا امّاي .. حاضر.
- آخر مرّة تزعّل خوك .. فاهم؟ .. غور من
قدّامي .. غور.
واستدار "مينا" بغضب وهو يتمتم
مبرطماً فشيّعته الأم بنظرها حتى غادر الدار فرجعت تنظر "لسعد" بعطفٍ
وتدليلٍ زائد وقالت وهي تقبّله :
- ها .. لسّاتك زعلان يا "سعّوده"؟
- لا يا امّه .. خلاص .. ربّنا يخلّيكي ليَّ.
- ويخلّيك يا ضنايا .. طول ما انا عايشة على
وِش الدنيا ما فيش مخلوق يقدر يهوّب ناحيتك .. إنت بس تؤمر يا حبيبي.
- طب انا جعان يا امّه.
- أنا خلّصت الوكل حالاً .. ح اغرف لك طبق
ويكة باللحمة الضاني.
- لأ ما باحبّش الويكة .. مش عايزها.
- بلاش يا خوي .. ح احط لك شوربة ولحمة ورُز.
- لأ .. أنا عايز فراخ.
- ده الوقيت يا "سعد"؟ .. طب
خلّيها بُكرة.
- خلاص .. مش واكل.
- طيّب طيّب .. روح نقّي لك الفرخة اللي
تعجبك م العشّة واعكشها لي علشان اعملها لك على طول .. إنت تؤمر يا جميل.
- ماشي .. بس انا اللي ادبحها بالسكين.
- لا يا حبيبي .. أخاف عليك تجرح يدَّك ..
وبعدين انت لسّه صغير مش ح تِعرِف.
- لأه .. أنا كبرت أهو .. أنا بقيت راجل ..
جرّبيني .. أنا نِفسي انا اللي ادبح بقى.
- خلّيك المرّة الجايّة .. ربنا يهديك يا
ابني .. إسمع الكلام.
- لا يا اختي .. إنتي بتضحكي عليّ .. مش انتي
قلتي ما حدّش ح يزعّلك .. طب إن شا الله اموت لو ما دبحتش الفرخة.
- يا اختاي .. لأ .. بعد الشر عنّك يا ضنايا
.. حاضر .. ح نشوف جدعنتك ف الدبح.
وأسرع الولد فذهب للعُشّة وأمسك بدجاجةٍ
سمينة ثمّ حملها من عنقها بمنتهى القسوة والغِلظة ولم يعِر اهتماماً لرفرفتها
وصياحها وجرجرها على الأرض حتى وصل لأمّه فوجدها قد أحضرت سكّيناً حامياً ووقفت
أمام برميلٍ صغير فأخذت منه الدجاجة وأمسكتها جيّداً وناولته السكين وأشارت له
بمكان الذبح على الرقبة فأعمل فيها النصل حتى فصل رأسها عن جسمها فانبثق منها الدم
ولطّخ يديْه وملابسه دون أن يتأثّر بالمنظر أو تطرف له عيْن، ثمّ ألقت الأم
بالدجاجة في البرميل وتركتها تتقافز وهي تنازع الموت و"سعد" يراقب ذلك
كلّه في استمتاعٍ ونشوة فقد أثبت لأمّه أنه كبر بما يكفي، وأخذت أمّه تشجّعه وتشد
من أزره لتجمّد قلبه فترسّخ عنده ذلك الشعور المثير الذي ارتبط عنده بمعنى الرجولة
والشجاعة فالرجل الشجاع حقّاً هو من لديه الرغبة في القتل والقدرة على الذبح، وصار
يطلب من أمّه أن تطهو له الدجاج كثيراً؛ ليس لأنه يحب مذاقها أو تفتح شهيّته بل
ليجد الفرصة لإشباع شهوته في نحرها وللتلذّذ برؤيتها وهي تسلم الروح بعد صراعٍ
قصير، وتسبّب ذلك في تحجّر قلبه وقسوة طباعه فترعرع على العُنف والشراسة.