محاولة يائسة لفهم الإبداع الذي حاز أكثر من 20 مليون مشاهدة
في شهر
بادئ ذي بدء: أنا مجرّد مشاهد ومستمع عادي
جداً ولست ناقداً فنيّاً ولذلك فلن أعيش في عباءة "حلمي بكر" وأهاجم
هؤلاء الشباب أو أحكم عليهم .. بل لن أبوح برأيي المتواضع فيهم احتراماً لهم
وتقديراً للقارئ وتركاً للمساحة الكافية له كي يشكّل رأيه بحريّة (دون أي
تأثير سلبي أو إيجابي من العبد لله) وابتعاداً عن تقليد آبائنا الذين كانوا
ينتقدوننا إبّان سماعنا لمبدعي جيلنا: سيد حجاب وجمال بخيت وعبد الرحيم منصور
ومدحت العدل وعنتر هلال وعمار الشريعي وصلاح الشرنوبي ورياض الهمشري وأحمد منيب
ويحيى خليل وحميد الشاعري وإيمان البحر درويش ومحمد منير وعلي الحجار وأنغام
وسميرة سعيد وحنان ماضي وفرق الأصدقاء والمصريين والمزداوية وغيرهم.
وللحق فأنا أحاول أن أرصد بعض الظواهر
(البعيدة عن التقييم الفني للكلمات واللحن والأصوات) التي لاحظتها في أغاني اليوم
وإبداعات الجيل الحالي في محاولة صادقة لكهلٍ في سنّي لفهم ما قد يستعصى على فهمي
المستغلَق وتفكيري الجامد رغم إيماني العميق بتطوّر الأجيال وجهودي الحثيثة لأكون
مرناً ومتفهّماً قدر المستطاع.
ويمكنني إيجاز تلك الظواهر والمظاهر التي
لمحتها في الأغنيتيْن المرفقتيْن (كمثال توضيحي فقط دون الخوْض في الإبداعات
الأخرى الشبيهة) في النقاط التالية:
· الأسماء الفنيّة التي يحملها هؤلاء المبدعون في منتهى الغرابة
وأظن أنهم يختارونها هكذا ليحاولوا التميّز والتفرّد تأسيساً على مبدأ "كلما
كان الإسم لاسع ومجنون كلما لزق في مخ وذاكرة المتلقي" .. مثل: كوكاينا –
الأخوان دوبل زوكش (زوكش ويانج زوكش) - عنبة – كوولبكس – أبو الأنوار – نوجارا –
زوكا - قشطة - زيروك - شيتوس - أوشا - موشا - ميشو - ليمبي - كامباس - كابّو -
ريشة - مادا - مانشستر - كعبورة - مارسيللو - نَكَش - شاكي - ديمو - ديبو - ميزي.
· المظهر الشخصي للمطربين والموديلات يغلب عليها الشعر الكثيف
المجعّد والضفائر والزعارير (جمع زعرورة) مع ما تيسّر من بونيهات وبندانات وأطواق
ولفافات وأساتك شعر وتوَك (جمع توكة) ومشابك بِنَس (جمع بِنسة) وبوكلات (جمع
بوكلة) .. وتجدهم ذوي لحى ثقيلة أو خفيفة .. وأظافرهم طويلة .. ويتشابهون جميعاً
في عدم الاهتمام بالمظهر الجيّد بل في الحرص على الظهور بمظهر غير نظيف وكأن شعر
رؤوسهم لم يُصفّف (لم يتم تسريحه) بالمشط منذ سنين وشعر ذقونهم فلت من موسى
الحلاقة منذ شهور وأجسادهم ككل لم تخضع لدُش الاستحمام منذ أسابيع.
· الملابس التي يرتديها المطربون وباقي فريق العمل أمام الكاميرا
تتفاوت بين الملابس الكاجوال والجينز وبين الملابس الرياضيّة (ترينينج سوت وتي
شيرت وبانتاكور وشورت وطاقية وعرّاقة معصم) وبين الملابس المهلهلة المقطوعة
المتسخة المبقّعة (فانلات كات وحمّالات وبوكسرات ملوّنة تظهر من تحت البنطلونات
الساقطة) .. بخلاف كميّات كبيرة من الإكسسوارات كالسلاسل الغليظة والغوايش أو
الإنسيالات المعدنيّة والجلديّة والخواتم الكبيرة وبعض الحِلقان (جمع حلق) ..
ويشتركون جميعاُ في لبس الأحذية الرياضيّة (الكوتشي أو السنيكر أو البووت).
· أماكن تصوير فيديو الكليبيْن تتنقّل بين الخرابات القذرة
والمصانع أو الوِرش المهجورة ومستودعات الخُردة ومخازن فضلات التصنيع والجراجات
الخاوية .. مع ملاحظة أن أغلب الجدران والحوائط مهدّمة والأبواب مهشّمة والنوافذ
مكسورة والأرضيّات غير نظيفة وبها الكثير من الحُـفَر وبِرك المياه والطين ..
وخلفيّة التصوير الخارجي ليلاً مظلمة للغاية وتحوي سحباً كثيفة للضباب والدُخان
الغائم في جوٍ شديد الغموض .. ومظهر المكان (اللوكيشن) العام يعاني من القذارة
التامّة والتلوّث الشامل والفوْضى العارمة والقُبح بكل معانيه حتى أن أحدهم يغنّي
فوق سيّارة قمامة قديمة.
· التصوير والإخراج يعتمد بالكامل على المشاهد السريعة جداً
وتقطيع الكادرات (زوايا التصوير) قبل أن تكتمل الصورة العامّة للمشهد فتجعلك تلهث
وراءها ممّا يسبّب الإجهاد الشديد للعيْن والعقل .. بالإضافة إلى تعمّد التقاط
الكاميرا للصورة في وضع غير مستوي ومهزوز ومرتعش فتشعر بالارتباك والتشويش وعدم
التركيز بالمرّة .. أمّا عن الرقص فحدِّث ولا حرج فهو حركات واهتزازات عشوائيّة
فظّة وخشنة بلا إنسيابيّة .. وهي أشبه بالتشنّجات والاختلاجات المرتعشة التي
تتراوح حدّتها بين دقّة الزار وبين رقص القردة فوق أشجار الغابة أو على الجبلاية
وبين هياج المجانين في عنبر العقلاء وبين تمايل الدراويش المبالغ فيه في
حلقات الذِكر .. مع وضع اليد على الأعضاء التناسليّة بين الفينة والأخرى.
· كلمات الأغنيتيْن لن أقيّمها شعريّاً فربما نختلف جميعاً في
الذوق العام والتذوّق الشِعري ولكني لاحظت أنها حادّة جداً وعنيفة ومستقاة من
الطبقات الدنيا للمجتمع وتصل لدرجة التنابذ والردح والشرشحة .. فالمغنّي يصف نفسه
بأفضل عبارات التفخيم والإشادة والفخر والكمال ويَصِم غيْره بأسوأ عبارات التحقير
والذم والوضاعة والنقصان .. ويبدو أنهم جميعاً ينتهجون نفس نهج "محمد رمضان"
في كل أغانيه تقريباً .. فيقول المطرب بالإصالة عن نفسه: أنا باحب الكُل – رامي
حمولي على الله – أنا هيرو – كله جنبي زيرو – دوري بطولة – أنا كبيركم – كله مني
خايف – العوْ جا – أنا جاي آكلكم – أنا أصلاً خطر ع البشر – أنا حارقكوا – أنا
لغيتكوا – أنا ماركة – عيني مرفوعة وراسي فوق – واقف وسط الكل أسد – عندي صواريخ –
باضرب بوازيك – باكتب التاريخ – إحنا الملوك إحنا الأسود – إحنا ناس دوغري وتمام –
ربّك إدّاني حِكمة – أنا ع المظبوط - أنا دايس وفايز كسبت كل الجوايز – لمّا جيت
الكل طار – أنا انفجار – بطولي وحدي أسوق تتار – أنا جامد أنا شيك – مش محتاج
النوم .. ويتكلّم المطرب عن غيره قائلاً: إحذر مني – مش ح توصل ليّا – لمّا
احضر ما تتنفّسش – خططك فاشلة – إنت شاب لولي – ما فيش مقارنة بينّا ياض – روحوا
ناموا – ح تختفوا – مش ح تبانوا – فوق يالا – ما ازاملش فرافيرو – انت حاجة واقعة
وحاجة طينة – يا عيال طريّة جبنة نستو – ما تجيش معايا اشتري نفسك – إنتوا عيال –
كورتك تيجي عارضة وكورتي تيجي جون – تنكشني تشوف جنان و تتلم الجيران – صعب اشوفك.
· لحن الأغنيتيْن لن أقيّمه موسيقيّاً أيْضاً فربما نختلف جميعاً
في الذوق العام والتذوّق الموسيقي ولكني لاحظت أنه ليس لحناً منتظماً بل هو لحنٌ
إنفعالي سريع من الصعب جداً أن تتوقّعه لأن الريتم يختلف من كوبليه لآخر ومن
المستحيل أن تتذكّره فيما بعد فلن يعْلَق في الذهن أو يعيش في الذاكرة أكثر من
ساعات معدودة بعدها يتبخّر عن آخره.
· غناء أو أداء الأغنيتيْن لن أقيّمه فنيّاً كالعادة فربما نختلف
جميعاً في الذوق العام والإعجاب بصوت المغنّي أو النفور منه ولكني لاحظت أنه
غالباً ليس غناءً بل شخطاً ونطراً وزعيقاً بصوتٍ جهوري عالٍ .. ناهيك عن اللهجة
التي تُنطَق بها الكلمات والألفاظ فالمغنيّ يؤدّي بطريقة لم يعتَد عليها أواسط
المصريين وعوام الناس بل مأخوذة من مواطنٍ شديد الصياعة وحاد المزاج ومنحرف الطباع
وقليل الأخلاق (أو عديمها) وهي – للأسف – اللهجة التي تم اعتمادها بصفة رسميّة من
أغلب أطفال وشباب المناطق الشعبيّة والعشوائيّة.
· أخيراً وبعيداً عن فيديو الأغنيتيْن فقد عرفت (بعد بحثٍ
وتقصّي) أن معظم مَن يشاركون في صُنع مثل هاتيْن الأغنيتيْن هم – للأسى والأسف – لم
يُكملوا تعليمهم بسبب سوء أوضاع أُسرهم الماديّة وتردي المستوى الاجتماعي
والتعليمي لهم وهذا بالتأكيد ليس ذنبهم في الأساس .. ولكن ذلك كلّه أصبح من الماضي
فقد صاروا الآن من نجوم المجتمع وارتفع وضعهم الاجتماعي والمادي فوق المدرّسين
وأساتذة الجامعات والمحامين والمحاسبين والمهندسين والأطباء والموظفين وباقي
العيال السيس بتوع العِلم .. وقد شاهدت لكثيرٍ منهم فيديوهات مسجّلة للقاءات
أجروها في برامج الإعلام الرسمي والخاص وعندما يسأل المذيع أحداً منهم عن موضوع
التعليم يرد عليك بكلاشيه واحد يحفظونه كلهم عن ظهر قلب: "عِلم إيه يا باشا
وثكافة إيه بلا مؤاخظة .. يا شقيقي أنا داعك الدنيا زي ما دعكتني .. واتعلّمت اللي
ما اتعلّموش الداكتور والباشمهندز .. أنا صحيح ما معاييش حتى دبلون بس المفروض آخد
دوكطوراه ف الحياة .. وبعدين همَّ المتعلّمين طلعوا منها بإيه!؟ .. أنا باسافر
بلاد وبادخل فنادق ما يستجراش الدكتور يخطّيها .. ده انا باصرف ف يوم اللي بيكسبه
المتعلّم ف سنة .. وف نفس الوقت ربنا كارمني وفاتح بيوت ناس كتيرة من ورايا ده غير
الخير اللي باعمله .. يبقى لازمته إيه بقى العلام ووجع النافوخ".
أنا – عزيزي القارئ – لا أُنظِّر أو أتفلسف أو أتعالى بل بالفعل أرى أن أغلبهم شبابٌ مسكين كانوا ضحايا لمجتمعٍ غلبت فيه قيمة المادة على قيمة العِلم والعمل بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية أيضاً .. ولا يخفى على فطنة حضرتك يا عزيزي دور مؤسسات الدولة ودوائر الحكم (منذ عهدٍ بعيد) في إبعاد النماذج الدينيّة والعِلميّة والثقافيّة الناجحة في الوطن وتمكين هؤلاء "الضحايا السابقين/الجناة الحاليين" وتلميعهم وإعطائهم الفرصة والمجال ليصبحوا نجوم المجتمع وقدوته لإلهاء الشباب عن كل ما هو مفيد وغمسهم لآذانهم في مثل هذه السخافات (من وجهة نظري التي لا قيمة لها على الإطلاق) لتأمن الأنظمة الحاكمة خطورة وعيهم عليها وليبقى أولئك الشباب سهلي الانقياد وتحت السيطرة الكاملة بعد أن باتوا يحلمون بأن يصلوا أو حتى يلامسوا المكانة العالية والأمجاد العظيمة التي وصل إليها "حمّو بيكا" وشركاه ويتجنّبوا الوضع القاسي والمصير الأليم الذي وجده "جمال حمدان" ورفاقه .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.