الفرق بين كائن العرص وفيروس كورونا (2)
وبعد الحملة الفرنسيّة أدرك "محمد علي" خطورة هذه المهنة على الجيش .. لأن الجنود اعتادوا على ارتيادها بكل طيش، فقام بغلق كل العرصات داخل "القاهرة" .. وإلى "إسنا" و"أسوان" تم ترحيل كل عاهرة، حتى جاء الخديوي "عباس" الأوّل .. وأعاد الكَرّةَ من الأوّل، فقرر فتح بيوت الغواني على نفس النظام القديم .. وانتشرت العرصات في "القاهرة" و"الأسكندرية" والأقاليم، ولعل أشهر العرصات في "القاهرة" التاريخيّة .. كانت شارع "محمد علي" و"كلوت بك" و"عماد الدين" و"باب الشعرية"، وكذلك "وِش البِركة" و"عطفة الجنينة" و"درب طياب" و"الحوض المرصود" و"الأزبكية" .. وأيْضاً في شارع "طيبة" و"النبي دانيال" و"كوم بكير" و"جبل ناعسة" و"اللبّان" في "الأسكندرية"، فقط تغيّر اسم "الكراخانة" إلى "ماخور" .. وإلى الله ترجع كل الأمور، ولكن العرص ظلَّ يؤدي واجبه .. بمنتهى الجديّة حتى يحلّل راتبه، فكان عين الحكومة الساهرة على العاهرات والقوّادين .. كما هو الحال لأي شرطي يؤدي عمله في السجن مع المساجين.
واستمر الوضع على ما هو عليه يا عزيزي .. إلى أن جاء الاحتلال الانجليزي، فصدرت لائحة "التفتيش على العاهرات" .. التي ألزمتهن باستخراج الترخيصات، فأصبحن يتعاملن مباشرةً مع نظارة (وزارة) الداخليّة .. ممّا قلّص من مهام العرص بصورةٍ جزئيّة، وفي نفس التوقيت ظهرت فئة البلطجيّة .. فانزوى العرص من الصدارة للخلفيّة، وفي أوائل القرن العشرين .. اجتمع البغايا والقوّادين، ونصّبوا "إبراهيم الغربي" ملكاً عليهم في حركة تمرّد .. وألبسوه تاجاً ذهبياً مرصعاً بالألماس والياقوت والزمرّد، وذلك في تجاهلٍ تام لدور العرص الموالي للسلطة .. فقد أراد أصحاب المهنة إبعاد مَن يرصد عليهم أي غلطة، وعن "الغربي" قال المؤرخون .. أنه كان عبداً نوبيّاً أسمر اللون، وقد كان مخنثاً يمتلك العديد من المقاهي .. وكان داهيةً من الدواهي، وقد حكم مملكة الدعارة بيدٍ من حديد .. حتى أنه خصّص بيتاً كسجنٍ فريد، يحوي العديد من الزنزانات .. فيسجن مَن تخطئ من العاهرات، بل كان يحكم أحياناً بالإعدام على ضحيّته بكل جبروت .. فيتم سجنها في زنزانةٍ تحت الأرض حتى من العطش والجوعِ تموت، ولم يكن يجرؤ أي عرصٍ على التدخّل في مملكة هذا الجبّار .. ممّا ضاعف في تهميش دور العرصات بعد ازدهار، وبعد موت "الغربي" ظل رجاله البلطجيّة .. هم مَن يديرون هذا الكار بالكليّة، وصار "البُرمجي" .. هو لقب البلطجي، الذي يرافق "المقطورة" ويبرم وراءها في كل مكان .. فبات بديلاً للـعرص الذي أصبح في خبر كان.
وفي الثلاثينيّات والأربعينيّات تنامى الوازع الديني عند الناس .. وبدأ رجال الأزهر والجمعيّات الأهليّة التحرّك ضد الدعارة بكل حماس، حتى نجحت جهود "الجلاليْن" الحثيثة القويّة .. فالأوّل كان "سيّد جلال" نائب مجلس الأمة عن "باب الشعريّة"، الذي كان له نصيب الأسد في مصير البغاء .. الذي آل أخيراً عام 1951 إلى الإلغاء، والثاني هو "جلال باشا فهيم" وزير الشؤون الاجتماعيّة الدؤوب .. بعد أن وقع ضحيّةً لحيلة الأوّل الذي سبك عليه أشهر ملعوب، وبقرار إلغاء وتحريم الدعارة .. اندثر تماماً دور العرص في هذه التجارة، إلى أن تم إحياؤه من جديد .. وفُتحت صفحةٌ جديدة في عمره المديد، فظهر العرص في ثوبه العصري .. وتوغّل دوره في التاريخ المصري، فلم يعد حامياً للقوّادين والعاهرات .. بل أصبح مدافعاً عن المسؤولين والحكومات، وبعد أن كان يداري على الدعارة والفحشاء .. أصبح يبرّر لسياسات الحكّام حتى ولو كانت خرقاء، وتحوّل من ديّوثٍ لا يخجل ولا يغار على أهله برخصةٍ رسميّة .. إلى مطبلاتي حقير وراء أي راقصةٍ أو غازيّة.
وانتشر الآن كائن العرص في سائر بلادنا
العربيّة .. بل لو صدقت القوْل يا بني فهو موجودٌ في كل البلاد النامية، فهو لا
يترعرع إلّا في البيئات الجاهلة المتخلّفة .. ولا يرتع إلّا وسط الحكومات
الديكتاتوريّة المتعجرفة، فتراه بعد طفرته المهولة يعيث فساداً في الإعلام .. وفي
الوزارات والأحزاب والعمل العام، فصار من نخبة النخبة .. وتسبّب في أكبر نكبة.
ولعلّه يدور في خلدك الآن سؤالٌ جديد .. ما الذي دعاني لأقارن بين كائن العرص وفيروس "كوفيد"؟، بادئ ذي بدء فالإثنان يشكّلان خطراً على الإنسانيّة .. وضررهما واقع على كل البرية، الأوّل يصيب الشعوب .. والثاني يصيب الصدور والقلوب، كائن العرص تحوّل بعد طفرته من حامي للدعارة إلى محامي للمسؤولين .. وفيروس كورونا بدأ طفرةً في تكوينه فظهرت منه سلالةٌ ثانية لا تلين، الأوّل يظهر فقط في دول العالم الثالث .. وضرر الثاني في العالم كله عائث، العرص غير قابلٍ للعلاج أو التقويم .. والفيروس لا يقاومه إلّا التطعيم، الاثنان سريعيْ الانتشار .. كهشيمٍ أصابته نار، الاثنان حثيثيْ الانتقال .. ويتكيّفون مع أي حال، فترى الأوّل يغيّر مواقفه سريعاً ويتلوّن حسب العهود والعصور .. والثاني يعيش في الجهاز التنفسي ثم ينتقل لباقي الجسم دون تباطؤ أو قصور.
وأطرق "ابن أبي صادق" في حزنٍ شديد
.. واستكمل حديثه من جديد، فقال: إن لم نلتفت فوْراً إلى خطورة كائن العرص .. وإن
لم نقاومه كإنفلونزا الخنازير أو مرض "سارس"، فلسوف نندم كثيراً حين لا
ينفع الندم .. وتنتهي بلادنا إلى مصيرٍ في غاية الألم، وسامحني يا بني على تكرار
كلمة "عرص" اللعينة .. فأنا لا أقصد البذاءة أو أي معانٍ مشينة، بل أنا
أصف وظيفةً ومهمّة .. كانت تجري بدون سوءٍ على ألسنة العامّة، وأرصد حالةً
متواجدةً بالفعل في المجتمع .. وعلى ضررها وكُرهها الكل اجتمع.