السيرة الذاتيّة لسيّافٍ عربي
أيّها الناسُ:
لقد أصبحتُ سُلطاناً عليكمْ
فاكسِروا أصنامَكم بعدَ ضلالٍ واعبدوني
إنّني لا أتجلّى دائماً
فاجلِسوا فوقَ رصيفِ الصبرِ
حتّى تُبصروني
أُتركوا أطفالَكم من غيرِ خُبزٍ
واتركوا نِسوانَكم من غَيْرِ بعلٍ
.. واتبعوني
إحمدوا اللهَ على نعمتهِ
فلقد أرسَلني كَي أكتبَ التاريخَ
والتاريخُ لا يُكتَبُ دوني
إنّني "يوسُفُ" في الحُسْنِ
ولم يخلقِ الخالقُ شَعراً ذهبيّاً مِثلَ
شَعري
وجَبيناً نبويّاً كجبيني
وعيوني غابةٌ من شجرِ الزيْتونِ واللّوْزِ
فصَلّوا دائماً .. كي يحفظَ اللهُ عيوني
*****
أيّها الناسُ:
أنا مجنونُ "ليلى"
فابعَثوا زوجاتِكم يحمِلْنَ منّي
وابعثوا أزواجَكم كي يشكروني
شَرفٌ أن تأكُلوا حِنْطةَ جِسْمي
شَرفٌ أن تقطِفوا لَوْزي وتيني
شَرفٌ أن تُشبهوني
فأنا حادثةٌ ما حدثتْ
منذُ آلافِ القرونِ
*****
أيّها الناسُ:
أنا الأوّلُ، والأعدَلُ، والأجملُ
من بينِ جميعِ الحاكمينْ
وأنا بدرُ الدُجى، وبياضُ الياسَمينْ
وأنا مخترِعُ المِشنقةِ الأولى
وخيرُ المرسَلينْ
كلّما فكّرتُ أن أعتزلَ السُّلطةَ
ينهاني ضَميري
مَن تُرى يحكمُ بعدي هؤلاءِ الطيّبينْ؟
مَن سيَشفي بعديَ الأعرجَ والأبرصَ والأعمى؟
ومَن يُحيي عِظامَ الميّتينْ؟
مَن تُرى يُخرِجُ من مِعطفهِ ضوءَ القمرْ؟
مَن يا تُرى يرسلُ للناسِ المطرْ؟
مَن يا تُرى يجلدهم تسعينَ جلدةْ؟
مَن يا تُرى يصلبُهم فوقَ الشَجَرْ؟
مَن تُرى يرغمُهم أن يعيشوا كالبقرْ؟
ويموتوا كالبقرْ؟
كلّما فكّرتُ أن أتركَهم
فاضتْ دموعي كغَمامةْ
وتوكّلتُ على اللهِ
وقرّرتُ بأن أركبَ الشعبَ
من الآنَ .. إلى يومِ القيامةْ
*****
أيّها الناسُ:
أنا أملِكُكمْ
مثلما أملِكُ خَيْلي .. وعبيدي
وأنا أمشي عليْكم
مثلَما أمشي على سجّادِ قصري
فاسجُدوا لي في قيامي
واسجُدوا لي في قعودي
أوَ لمْ أعثُرْ عليكم ذاتَ يومٍ
.. بيْنَ أوراقِ جدودي؟
حاذِروا أن تقرأوا أيَّ كتابٍ
فأنا أقرأُ عنكمْ
حاذِروا أن تكتبوا أيَّ خِطابٍ
فأنا أكتبُ عنكمْ
حاذِروا أن تسمَعوا "فيروزَ"
بالسرِّ
فإنّي بنواياكمْ عليمْ
حاذِروا أن تُنشِدوا الشِعرَ أمامي
فهو شيطانٌ رجيمْ
حاذِروا أن تدخلوا القبرَ بلا أذني
فهذا عِندَنا إثمٌ عظيمْ
والزَموا الصمتَ إذا كلّمتُكمْ
فكلامي هوَ قرآنٌ كريمْ
*****
أيّها الناسُ:
أنا مَهديُّكم .. فانتظروني
ودَمي ينبضُ في قلبِ الدوالي
.. فاشربوني
أوقِفوا كلَّ الأناشيدِ التي يُنشِدُها
الأطفالُ
في حبِّ الوطنْ
فأنا صرتُ الوطنْ
إنّني الواحدُ والخالدُ
.. ما بيْنَ جميعِ
الكائناتِ
وأنا المخزونُ في ذاكرةَ التُفّاح
والنايِ وزُرقِ الأغنياتِ
إرفعوا فوقَ الميادينِ تصاويري
وغطّوني بغيْمِ الكلماتِ
واخطِبوا لي أصغرَ الزوجاتِ سِنّاً
فأنا لستُ أشيخْ
جَسدي ليسَ يشيخْ
وسجوني لا تشيخْ
وجهازُ القَمعِ في مملكتي ليسَ يشيخْ
*****
أيّها الناسُ:
أنا "الحجّاجُ" - إن أنزعْ قناعي -
تعرفوني
وأنا "جنكيزُ خانٍ" جئتُكُمْ
.. بحرابي وكلابي
وسجوني
لا تضيقوا أيّها الناسُ ببَطشي
فأنا أقتلُ كي لا تقتلوني
وأنا أشنقُ كي لا تشنقوني
وأنا أدفنكم في ذلك القبرِ الجماعيِّ
لكيلا تدفنوني
*****
أيّها الناسُ:
اشتروا لي صحفاً تكتبُ عنّي
إنها معروضةٌ مثلَ البغايا في الشوارعْ
إشتروا لي
ورقاً أخضرَ مصقولاً كأعشابِ الربيعْ
ومِداداً .. ومطابعْ
كلُّ شيءٍ يُشتَرى في عصرِنا
حتّى الأصابعْ
إشتروا فاكهةَ الفِكرِ
وخَلّوها أمامي
واطبخوا لي شاعراً
واجعلوهُ بينَ أطباقِ طعامي
أنا أمّيٌّ
وعندي عقدةٌ مما يقولهُ الشُعراءْ
فاشتروا لي شُعراءً يتغزّلونَ بحُسني
واجعلوني نَجمَ كلِّ الأغلفةْ
فنجومُ الرقصِ والمسرحِ
ليسوا أبداً أجملَ منّي
إشتروا لي كلَّ ما لا يُشتَرى
في أرضِنا أو في السّماءْ
إشتروا لي
غابةً من عسلِ النحلِ
ورَطلاً من نساءْ
فأنا بالعملةِ الصعبةِ أشْري ما أُريدْ
أشتري ديوانَ "بشّارِ بنَ بُردٍ"
وشِفاهَ "المتنبّي"
وأناشيدَ "لَبيدْ"
فالملايينُ التي في بيتِ مالِ المسلمينْ
هيَ ميراثٌ قديمٌ لأبي
فخُذوا من ذَهبي
واكتبوا في أمّهاتِ الكتبِ
أن عَصري
عصرُ "هارون الرشيدْ"
*****
يا جماهيرَ بلادي:
يا جماهيرَ الشعوبِ العربيّةْ:
إنّني روحٌ نقيٌّ
جاءَ كي يغسلكمْ من غُبارِ الجاهليّةْ
سجّلوا صوتي على أشرطةٍ
إنَّ صوتي أخضرُ الإيقاعِ كالنافورةِ
الأندلسيّةْ
صَوِّروني .. باسماً مثلَ "الجوكاندا"
ووديعاً مثلَ وجهِ "المجدليّةْ"
صَوّروني
وأنا أقطعُ كالتفّاحِ أعناقَ الرعيّةْ
صَوّروني
وأنا أفترسُ الشِّعرَ بأسناني
وأمتصُّ دماءَ الأبجديّةْ
صَوّروني
بوقاري، وجلالي، وعصايَ العسكريّةْ
صَوّروني
وأنا أصطادُ وعلاً أو غزالاً
صَوّروني
عندما أحملُكم فوقَ أكتافي لدارِ الأبديّةْ
يا جماهيرَ بلادي ..
يا جماهيرَ الشعوبِ العربيّةْ
*****
أيّها الناسُ:
أنا المسؤولُ عن أحلامِكمْ إذْ تحلُمونْ
وأنا المسؤولُ عن كلِّ رغيفٍ تأكلونْ
وعن الشّعرِ الذي من خلفِ ظهري تقرأونْ
فجهازُ الأمنِ في قصري
يوافيني بأخبارِ العصافيرِ
وأخبارِ السنابلْ
ويوافيني بما يحدثُ في بطنِ الحواملْ
*****
أيّها الناسُ:
أنا سجّانُكم وأنا مسجونُكم .. فلتعذروني
إنّني المنفيُّ في داخلِ قصري
لا أرى شَمْساً .. ولا نَجْماً
ولا زهرةَ "دِفلى"
منذ أن جئتُ إلى السُّلطةِ طِفلا
ورجالُ السّيركِ يلتفّونَ حولي
واحدٌ ينفخُ ناياً
واحدٌ يضربُ طبلا
واحدٌ يمسحُ جوخاً
واحدٌ يسمحُ نَعلا
منذُ أن جئتُ إلى السّلطةِ طِفلا
لم يقلْ لي مستشارُ القصرِ: كَلّا
لم يقلْ لي وزرائي أبداً لفظةَ كَلّا
لم يقلْ لي سُفرائي أبداً في الوجهِ كَلّا
لم تقُل لي إحدى نسائي في سريرِ الحُب كَلّا
إنّهم قد علّموني أن أرى نفسي إلهاً
وأرى الشعبَ من الشرفةِ رَملا
فاعذروني .. إن تحوّلتُ لـ"هولاكو"
جديدٍ
أنا لم أقتلْ لوجهِ القتلِ يوماً
إنّما أقتلُكم .. كي أتسلّى
نزار قبّاني