أمر من الشرف ما فيش (2)
وتطرّقت بتفكيرها أيضاً لاستغلال صاحبة المنزل
التي كانت تطلب منها غسيل ثياب أسرتها إسبوعيّاً نظير سكوتها عن تأخير أجرة الشقة
شهريّاً، وذلك البقّال الذي كان يأمرها بإعطاء أولاده الصغار دروساً في الحساب
مقابل أن يؤجّل الحساب الذي يتراكم عليها جرّاء ما تستهلكه هي وأسرتها من موادٍ
تموينيّة، ولم تنسَ أيضاً تخلّي أعمامها وأخوالها عن مساعدتهم بزَعْم أن لهم
أبناءً أوْلى بالرعاية وأحْوَج للمال وتأسيساً على المثل الأناني القائل
"اللي يعوزه البيت يحرم ع الجامع" وتجاهلوا حتَّى أن يتصدّقوا عليهم
ببعض ما يفيض عنهم خوفاً من أن تصبح هذه الصدقة نوعاً من أنواع الالتزام أو الحق
المكتسب، حتَّى صاحبة طفولتها وصباها "حياة" تريد أن تستغلّ جسدها
وشرفها في جني مزيدٍ من الأموال بدلاً من أن تساعدها على العيْش بكرامة وتعينها
على غدر الزمان بها.
[[[[[ واستعرضت "شريفة" شريط
الأحداث في ذلك اليوم الذي قابلت فيه "حياة" التي انقطعت أخبارها منذ أن
غادرت الحارة مع والديْها في أوائل التسعينيّات، فقد كانت "شريفة" في
يوم الأحد هذا قد استأذنت - بعد لأْيٍ وجهدٍ جهيد - من صاحب العمل في أن تتأخّر عن
موعد عملها لساعتيْن حتَّى يتسنّى لها صرف المعاش الشهري لوالدها من البنك؛ فرغم
ضآلة المعاش الذي لا يتعدّى المائتيْ جنيه إلا إنها تعوِّل عليه كثيراً في سد
خانةٍ من خانات الصرف العديدة ألا وهي إيجار المنزل ومصاريف مواصلات اخوتها
الثلاثة من وإلى مدارسهم، ويوْمها كانت تغالب الزحام وسط أمثالها المهمّشين صارفي
المعاشات وكان موظّف الأمن بالبنك يزجرهم صائحاً :
- تعالوا على جنب كده.. خلّيكوا واقفين قدّام
شبّاك المعاشات.. ما تسدّوش السكّة ع اللي رايح واللي جاي.. مش كل شويّة ح ازعّق
فيكم.. ما تقرفوناش ع الصبح.. خُشّي يا وليّه يا تخينة كده شويّة.. خلّي الهانم
تعدّي.. اتفضّلي يا "حياة" هانم.. البيه المدير مستنّيكي.. وانا أوّل ما
أستاذ "أنيس" يخلّص عَد الخمسين ألف جنيه ح اجيب لسيادتِك قسيمة الإيداع
لحد عندك قبل ما تخلّصي قهوتِك.. أوْعى يا راجل انت.
ونظرت "شريفة" "لحياة"
هانم فإذا بها هي نفسها "حياة" صاحبتها العزيزة التي لم ترَها منذ حوالي
العشرة أعوام فارتمت عليها تقبّلها وتحضنها وهي تقول :
- "حياة"!.. معقولة!.. عاش من
شافِك يا بِت.. كده يا وحشة ما تسأليش عليَّ المُدّة دي كلّها؟
- "شَرشَر".. يخرب بيتِك.. واحشاني
يا حبيبتي واللهِ.. طب كنتي إسألي انتي.
- أسأل إزّاي يا اختي.. هوَّ انتي كنتي سبتي
لي عنوانِك وانا ما سألتِش.
- يا سلام.. ما انتي كنتي جيتي لي في أي حتّة
باشتغل فيها.
- وانا ح اعرف منين مكان شغلِك؟.. وبعدين
هوَّ انتي شغّالة ف أكتر من حِتَّة ولّا إيه؟
- ليه ما بتقريش جرايد ومجلّات؟.. وما
بتشوفينيش ف القنوات الفضائيّة؟
- ليه كفى الله الشر.. طلعتي فيهم ليه؟.. إنتي
عارفة اننا بِعنا التليفزيون بعد المرحوم.. وكمان ما باشتريش جرايد ولا مجلّات..
ده انا يا دوب باشحن الموبايل علشان اطمّن على امّي واخواتي وانا ف الشغل.
- شر إيه يا هبلولّي انتي؟.. أنا باطلع
ارقص.. إنتي ما شفتيش كليب "تامر" الآخراني؟.. ده جَنّن الناس.
- يخرب عقلِك.. بتشتغلي رقّاصة يا
"حياة"..طب وابوكي وامِّك عملوا فيكي إيه؟
- مش باقول لِك هَبْلَة.. أبويَّ يا اختي
بيشتغل مدير أعمالي وهوَّ اللي بيتَفَق على شُغلي وبينظّم مواعيدي.. وامّي بقى
بتروح معايَّ ف كل حِتّة علشان تلبّسني وتحُط لي المكياج.. لبّيسة يعني.. وبعدين
دول مبسوطين قوي وطلّعتهم معايَّ ف الحِجّة اللي فاتِت.. ما هو برضه الواحد لازم
يعمل لآخرته.
- غريبة!.. ده انا كنت فاكراهم ح يتبرّوا
منِّك.
- ليه يا اختي؟.. هوَّ انا بس اللي بارقص
لوحدي ف البلد؟.. دول الرقّاصات ده الوقت أكتر من الآلاتيّة والطبّالين.. وبعدين
ابويَّ وامّي اتغيّروا زي كل حاجة ف البلد.. دول ح يفرحوا قوي لمّا يشوفوكي.. إنتي
لازم تتغدّي معايَّ النهار ده.
- معلهش خلّيها يوم تاني.. أنا لسّه ح اروح
الشُغل بعد ما اقبض المعاش.
- شُغل؟.. إنتي بتشتغلي؟.. ده انا قلت انتي
اتجوّزتي وقعدتي ف البيت.. إكمنّي شايفاكي - ما تؤاخذينيش يعني - متدّهولة كده
ودَبلانة.
- مين ده اللي ح يرضى يتجوّزني ويشيل هَمّي
وهَم امّي واخواتي؟
- مين ده إيه؟.. ده انتي قمر.. واحلى منّي
بكتير.. بس انتي اللي مش عارفة قيمة نفسِك ومش بتستغلّي جمالِك يا خايبة.
- يا ستّي.. أنا مش عايزة غير إن ربّنا
يسترها معايَّ ويقدّرني أوصّل اخواتي لبر الأمان.
- لا لا لا.. ده انتي عايزة اللي ينصحِك
ويفطّنِك على مصلحتك كويّس.. إسمعي.. تعالي معايَّ الأوّل اعرّفِك على مدير البنك
علشان يخلّي حَد م الموظّفين يصرف لِك المعاش من غير ما تقفي ف الطــابور الشنيع
ده.. وبعدين اوصّلِك لشُغـلِك بعربيتي "الهامر".. و ابقي ادّيني نمرة
موبايلِك وح ادّيكي نِمَري كلّها.. وبكره ح تيجي تتغدّي معايَّ بعد ما تطلعي م
الشغل.. مش عايزة أعذار.. أنا عنواني ما يتوِّهش.. تلاتاشر شارع الجواهر ف "جاردن
سيتي".
وتذكّرت "شريفة" كيف ذهبت في اليوم
التالي إلى منزل "حياة"، وكيف انبهرت بما رأته ابتداءً من المنطقة
الراقية التي يقع بها المنزل ومروراً بفخامة مدخل العمارة الرخامي وأثاث المنزل
الفاخر وانتهاءً بالديكورات البديعة للشقّة، وعَقَدت مقارنةً سريعة - رغماً عنها -
بيْن ما رأته حينها وبين ما تعيشه هي، وظلّت تقلّب ناظريْها فيما حوْلها إلى أن
جاءت "حياة" ورحّبت بها وهي تقول :
- أهلاً أهلاً.. ده احنا النهار ده زارنا
النبي.. منوّرانا يا "شريفة".. ها.. إيه رأيِك في الشقّة؟.. حلوة؟
- ما شاء الله.. جميلة جداً.. خمسة وخميسة.
- بقى بذمّتِك مش نفسِك يبقى عندِك شقّة
زيّها؟
- كل شيء قسمة ونصيب.. ما حَدّش بياخد اكتر م
اللي مقسوم له.
- قال يا غراب ارمي لي بلحة رَد الغراب وقال
: كل شيء نصيب، قال : طيّب نصيب ليه وكل شيء بين ايديك؟
- يعني إيه؟
- يعني ف أيدِك يبقي عندِك أحسن منها ألف مرّة..
بس احنا كده.. نفضل قاعدين حاطّين إيدينا على خدّنا ونمصمص ف شفايفنا ونستصعب
حالنا مع إننا لو سعينا وادَرْدَحنا نقدر نغيّر كل حاجة.
- يعني عايزاني اعمل إيه؟.. أرقص زيّك؟
- واللهِ ممكن ترقصي لوْ عايزة.. وممكن تعملي
حاجات تانية كمان.
- زي إيه بقى إن شاء الله؟
- بُصّي يا "شريفة" أنا مش ح الِف
وادور عليكي.. إنتي صاحبتي وعارفة قد إيه أنا عايزة مصلحتك.. بقى انا جنب الرقص
كنت باعمل حفلات هنا ف الشقّة.. وكنت باعزم فيها كُل حبايبي م الناس الهاي..
وكانوا بيشربوا وينبسطوا وياخدوا راحتهم ف الشقّة الواسعة دي.. اللي عايز يقعد ف
البلكونة يقعد.. واللي عايز يقعد مع صاحبته ف الصالة براحته.. واللي مزنوق ف
كلمتين وعايز يقولهم لحبيبته عنده بدل أوضة النوم خمسة.
وفغرت "شريفة" فاها من هوْل ما
تسمع ولكن هذا لم يثنِ "حياة" عن استكمال حديثها الآثِم دون حياء :
- م الآخر.. الناس دول بيعملوا اللي همَّ
عايزينه كده كده.. وإذا ما كانوش ح يعملوه ف شقّتي ح يعملوه ف مكان تاني.. يبقى
انا أوْلى من غيري.. ده انا باخد من كل واحد منهم ألف جنيه ف السهرة الواحدة..
يعني باقفّل لي بتاع تلاتين ألف جنيه ف كل حفلة غير الهدايا والذي منه.
- معقولة يا "حياة"!.. يوصل بيكي
الانحطاط للدرجة دي؟.. فاتحة شقّتِك للمسخرة وقلّة الأدب؟.. وعايزة مني إيه؟..
عايزاني أبقى واحدة من إيّاهم؟.. إخص عليكي.
- والنبي يا اختي ما تعمليش فيها
"خَضْرَة الشريفة".. إسمعيني لغاية الآخر وبعدين اعملي اللي انتي
عايزاه.. أنا وقتي ما بقاش يسمح لي أعمل الحفلات دي ده الوقت.. وكمان بعد الكليب
الآخراني جا لي كذا دور ف السينما ومش ح ابقى فاضية خالص.. وبعدين من أوّل الأسبوع
الجاي ح انقل ف الفيللا الجديدة بتاعتي ف "ستّة اكتوبر".. عايزاكي انتي
بقى تبقي ترتّبي الحفلات دي بدالي وتتابعي كل حاجة ف السهرات دي وليكي رُبْع
الإيراد.. ومش مطلوب منّك أكتر من إنك تجاري الجو وما تبقيش حَنْبَلية يا بنت
"النِمَكي".. يعني تضحكي لدَه شويّة.. وتقفي تهزّري مع دَه حَبّة..
وتقولي لدَه نكتة.. وترقصي مع دَه رقصة.. وانتي وشطارتِك بقى.. يعني ممكن تعملي
فلوس كتيرة من غير ما حَد يلْمِس شَعرة منِّك.. وممكن كمان تعملي فلوس زي الرُز لو
عايزة تكمّلي الموضوع للآخر وترافقي واحد م الـ.....
- بَس.. كفاية كده.. أنا الظاهر غلطت لمّا
جيت لِك هنا وسمعتِك لغاية الآخر.. كنت فاكراكي أحسن من كده.
- إستنّي بَس يا "شريفة".. أنا
عايزة مصلحتك.. تفتكري أنا مش عارفة اللي انتي فيه؟.. أنا مَرّيت بكل اللي انتي
مَرّيتي بيه.. كل حتّة اشتغلت فيها كانت الديابة عايزة تنهش ف لحمي.. وكنت ساعات
باقدّم تنازلات علشان امَشّي أموري.. وعرفت ف الآخر إن "لو سرقت اسرق جمل ولو
عشقت اعشق قمر".. يعني التنازلات اللي كنت باعملها علشان خمسة جنيه زيادة ف
المرتّب أو علشان فسحة حلوة أو أكلة جميلة ممكن أعمل أكتر منها حبّتين علشان اوصل
للي وصلت له ده الوقت.. صدّقيني الفلوس ح تخلّي كل الأبواب تتفتّح لِك والناس
كلّها تحترمِك.. بس كل شيء وله تَمَن يا "شريفة".. واحنا انكتب علينا
نضحّي علشان غيرنا.. ما تفكّريش ف نفسِك وبَس.. فكّري ف اللي متعلّقين ف رقبتك..
عموماً أنا عندي حفلة يوم الخميس الجاي الساعة عشرة بالليل.. شوفي نفسِك كده
واديكي عرفتي المكان.. وانتي أوْلى من واحدة غريبة ممكن اجيبها مكانِك.. مع
السلامة.
وتذكّرت "شريفة" كيف اعتمل في
داخلها صراعٌ رهيب بيْن الصواب والخطيئة، بيْن الفضيلة والرذيلة، بيْن الأخلاق
والخلاعة، بيْن السمو والوضاعة، ورغم أن الفارق شاسعٌ بيْن كل نقيضيْن إلّا أن
ضغوط الحياة وكلام "حياة" جعلا هذا الفارق يبدو بسيطاً مما صعّب اتخاذ
"شريفة" للقرار الصائب حيال عرض صاحبتها.
ولم تنسَ "شريفة" أن قرارها كان
التمسّك بالشرف والكرامة؛ لوْلا أن مرضت أمها واحتاج علاجها لصرف كلّ مرتّبها ولم
يكد يمضي من الشهر غير تسعة أيّام فقط؛ فأُسْقِط في يدها فمن أيْن لها أن تأتي
بباقي ثمن العلاج وكيف ستقضي باقي الشهر هي وأسرتها، وعندما توجّهت لعملها في
اليوم التالي وطلبت سلفةً من صاحب العمل رفض ونهرها بل وأعطاها أجرها المتبقّي عن
التسعـة أيّام وفصلها من العـمـل فقد يأس أن يطــول منها مأربه، و ساعتها قرّرت أن
ترفع الراية البيضاء وتستسلم بعد أن أعيتها المقاومة فتكسّرت كل دفاعاتها الحصينة
ولم تصمد أمام الهجوم الضاري للاحتياجات اليوْميّة والالتزامات الماليّة؛ فعقدت
العزم على أن تسير على نهج "حياة" فقد تعبت أيّما تعب، ولكن هل سترتاح
"شريفة" في مسلكها الجديد؟، وهل هذا الطريق بدايةٌ أخرى لرحلة شقاءٍ
متجدّدة؟ ]]]]]