شجرة الدم (1)
استيقظت "ناريمان" هانم ظهراً
كعادتها كل يوم على صوْت طرقاتٍ خفيفة على باب حجرة نوْمها فصاحت على الطارِق أن
أدخل فولجت خادمتها النوبيّة "مرجانة" إلى قلب الحجرة وصبّحت على
سيّدتها وهي تبتسم واتّجهت من فوْرها إلى النوافذ لتفتح ستائرها المسدلة فدخل ضياء
الشمس وغمر بنوره أركان الغرفة ليشتّت الظلام ممّا جعل الهانم تشيح بوجهها بعيداً
عن مصدر الضوء وسألت الخادمة وهي تزرّ عيْنيْها وتتثاءب في كسل وتتمطّى في بطء
وتعتدل في جلستها على الفراش :
- سيدِك "شوكت" صحي يا
"مرجانة"؟
- "شوكت" باشا صحي من بدري يا هانم
وفطر وراح مع "محسن" افندي ع الدايرة.
- ولا حسّيت بحاجة.. الظاهر إنّي تقِّلت ف
الشُرْب ف حفلة امبارح.. أصلها حفلة راس السنة.. ومش أي سنة دي سنة 1919 يعني أوّل
سنة بعد الحرب العالميّة اللي خلصت من شهرين.
- الله لا يعودها أيّام يا ستّي.
- صحيح.. غارات وبهدلة وقلّة رزق.. كويّس إن
الباشا نقلنا العزبة هنا ف "دمنهور" بعيد عن وجع الدماغ.. ح يقعد ف
"اسكندريّة" ليه بعد ما الانجليز قفلوا بورصة القطن ف "مينا
البصل".. أهو حط كل فلوسه ف العزبة هنا وقال يقعد هنا يشرف على زراعة القطن
ويتابع أعمال الدايرة بنفسه.. الحمد لله بقى لنا كام شهر ف راحة بال.
- تلاقيه دفع كتير يا هانم؟
- معلوم.. دفع تلاتاشر ألف جنيه للراجل
التركي.. تمن الميتين وخمستاشر فدّان بما فيهم القصر ده والطاحونة والبهايم
والمحصول وبقية العزبة.. أصل الحرب خلّت الأسعار مولّعة ده الفدّان وصل عشرين جنيه
النهار ده.
- ربّنا يرحمنا برحمته يا هانم.. ده احنا
بقينا ف آخر زمن.. أمّال الأسعار ح تبقى عاملة إيه لمّا سيدي الصغيّر يكبر إن شاء
الله؟
- بالمناسبة هوّ لسّه نايم؟
- سيدي "كريم" صحي من آدانات ربّنا
وراح يلعب تحت شجرة الرمّان زي عوايده.
- الولد ده ما بقاش عاجبني اليومين دول.. من
ساعة ما يصحى لغاية ما ينام وهوّ قاعد عند الشجرة دي.. دي الدادة بتاعته بتقول لي
إنّه ساعات بياخد أكله وياكله هناك.. وساعات بينام ساعة العصاري تحت الشجرة..
والأدهى من كده كمان إنّه ساعات بيكلّم نفسه أو بيتخيّل إنّه بيتكلّم مع ناس
تانيين ما حدّش شايفهم.
- يا ستّي ما تاخديش ف بالِك.. ده عيّل صغيّر
وكمان وحداني.
- وهوّ بمزاجي يا "مرجانة".. ده
انا الوِد ودِّي أملا القصر ده كلّه عيال.. ده كتّر خير الباشا إنّه ما اتجوّزش
عليّ لغاية ده الوقت.
- وهوّ سعادته ح يلاقي ضوفرِك فين.. وبعدين
ما تؤاخذنيش يا هانِم.. تلاقي العيب منّه.. ده أكبر منِّك ييجي تلاتين سنة.. يعني
لو اتجوّز تاني مش ح يخلّف برضه.
- كل شئ بإيد ربّنا.
- ربّنا يهدّي سرّكم ويخلف عليكم وتخاووا
سيدي "كريم".
- طب ياللا حضّري لي الفطار وحصّليني بيه ع
الجنينة.
- حاضر يا سِت الكل.
وقامت "ناريمان" واغتسلت وبدّلت
ملابسها وتجهّزت لتخرج إلى حديقة القصر فوجدت "مرجانة" قد وضعت طعام
الإفطار فجلست لتتناول فطورها بعد أن أرسلت في طلب ابنها "كريم" ذو
الستّة أعوام والذي جاء بعد برهةٍ يجري مرحاً بصحبة مربيته فقبّل أمّه سريعاً
وتركها ليعود مرّةً أخرى إلى شجرة الرمّان، وبعد أن انتهت "ناريمان" من
فطورها وقبل أن تدخل إلى القصر لتتابع شئون منزلها وتشرف على الخدم أقبلت عليْها
مربية "كريم" واستأذنتها بأدب في مفاتحتها في أمرٍ هام ؛ فأفاضت المربية
القوْل بشأن قضاء "كريم" لأوْقاتٍ طويلة بجوار شجرة الرمّان وحوْلها
وبثّت قلقها لسيّدتها حيال تصرّفاته الغريبة التي لاحظت أنّها زادت عن الفترة
السابقة فقد أصبح الصبي كثير الحوار مع أشخاصٍ غير مرئيّين وعند سؤاله عمّا يفعل
يقول أنّه يتكلّم مع رجالٍ كبار ويلعب معهم ويحادثونه هم بالمقابل دون أن تُسْمَع
لهم أصوات بل يستطيع أن يصف ملامحهم وملابسهم فذاك طويلٌ ذو شنبٍ يرتدي جلباباً من
الصوف الرمادي وهذا سمينٌ أصلع لا يرتدي سوى سروالٍ بال وذلك رجلٌ أسود ذو صوْتٍ
خشن يلبس جلباباً أبيض عليْه آثار دماءٍ وهكذا، واضطربت الأم عندما أكدت لها
المربية الخبيرة أنّ الأمر يتعدّى كـوْنه لعباً وتخيّلاتٍ بلهاء لصبيٍ صغير بل يصل
الأمر إلى حد التهيؤات والهلوسة، وخافت "ناريمان" أن يكون ابنها قد
أصابه مسٌ من الجنون أو الخبل العقلي فقرّرت أن تتابعه بنفسها، ولم تتوانَ
"ناريمان" عمّا قرّرته فذهبت في الحال إلى شجرة الرمّان الكبيرة حيث
يجلس ابنها وعاجلته بقوْلها:
- عامل إيه يا "كريم"؟
- كويّس يا نينة.. بالعب مع "عويس"
و"جابر" بس.. أصل الباقيين مخاصمهم.
- باقيين مين يا بني؟
- "عبد الله" و"جرجس"
و"مرسي" و"فهيم" و التانيين بقى.
- وكل دول مخاصمهم ليه بقى إن شاء الله؟
- أصلهم زعلوا منّي وقعدوا ورا الشجرة علشان
ما رضيتش أقرا لهم ف كتاب المطالعة عن قصص الأنبياء.
- ومش عايز تقرا ليه يا حبيبي؟
- مش عايز.. عايز العب.
- طب ياللا خُش جوّه ده الوقت.
- مش لمّا اخلّص الدور ده مع
"عويس"؟
- لأ.. ده الوقت حالاً.
- بصّي.. أهو ماسك إيدي علشان ما امشيش..
سيبيني شويّة والنبي.