"للحب آلهةٌ كثيرة" | الفصل الرابع (2)
وما إن أُغلق الخط
بينهما حتى استغرق "كريم" في تفكيرٍ عميق فقد أحيت هذه المكالمة شعوره
بالحب المختلط بإحساسه بالذنب تجاه "عبير" وأخذ يُعمِل فكره في كيفيّة
إظهاره لحبّه وطريقة تكفيره عن ذنبه، وتساءل: هل جاء الوقت ليبوح
"لعبير" بحبّه لها ويثبت ذلك بالفعل بأن يحقّق لها ما أرادت ويتزوّجها
فيُصلِح خطأه معها من ناحية ويسعدها ويُنعِش آمالها من ناحيةٍ أخرى خاصةً وهي تعيش
ايّامها الأخيرة فيرفع من حالتها المعنويّة بعد أن ساهم بصدمته لها في اشتداد
المرض عليها؟، ولكنه إن فعل ذلك فسينتشلها من أزمتها ويُغرِق نفسه في أزمةٍ أقوى
وأعنف؛ فحبّه "لعبير" في كفّة ميزان ومستقبل أسرته في الكفّة الأخرى ثمّ
ما ذنب ولديْه فيما اقترفه هو وما ذنب أمهما التي أحبّها وما زال يحبّها والتي
أفنت زهرة عمرها في خدمته والوقوف بجانبه في محنة مرضه والتي صحّحت سلوكها ناحيته
فآثرته عن عملها ومستقبلها وأوْلته الأهميّة الكبرى وأرضت غروره في الآونة
الأخيرة؟، والتبست عليه الأمور وتصعّب عليه الحل فلم يجد لمعضلته مخرجاً فشُلَّ
تفكيره وتوقّف عقله وحار في أمره.
وأخيراً طرأت له
فكرةٌ لا بأس بها يستطيع من خلالها أن يُرضي ضميره ويوقفه عن تأنيبه المستمر وأن
يعبّر بالدليل عن حبّه "لعبير" ويكفّر عن ذنبه تجاهها وفي الوقت نفسه
يحتفظ بزوجته وولديْه فلا يعرّض علاقته معهم للخطر، ولم يتردّد "كريم"
كثيراً وشرع في تنفيذ فكرته فوراً وكأنه لا يريد أن يعطى لنفسه فرصةً للتراجع عمّا
نوى فقام بالتقاط سمّاعة الهاتف وعاود الاتصال بالدكتور "سعيد السباعي"
وبادره قائلاً :
- أيوه يا دكتور .. معاك
دكتور "كريم الشافعي".
- آه .. أهلاً يا
دكتور.
- واللهِ يا دكتور
أنا فكّرت بسرعة ف الكلام اللي سيادتك قُلته ولقيت لك متبرّع.
- لحقت قوام كده! ..
ده انا لسّه قافل معاك الخط من شويّة.
- أيوه .. أصل انا
اللي ح اتبرّع بكليتي لمدام "عبير".
- حضرتك! .. معقولة!
- إيش معنى سيادتك
بتتبرّع بالدم على طول .. مش عايزني انا كمان اخد ثواب زيّك؟
- مش القصد .. بس دي
غير دي.
- أبداً .. كلّه
لوجه الله .. بس انا طالب منّك رجاء.
- أأمر.
- مش عايزك تقول
لمدام "عبير" إن انا المتبرّع.
- ليه ؟ .. ممكن اعرف
السبب .. لو ما فيهاش رزالة يعني.
- ده شرطي الوحيد ..
مش عايز ثوابي يروح .. أنا ح اعمل كده لله سبحانه وتعالى مش مستنّي حَمد ولا
جِميلة من حَد من عباده.
- خلاص يا سيدي ..
أنا ح ارتّب الأمور بحيث ما تتقابلوش مع بعض .. بس ح تعمل إيه ف إجراءات الشهر
العقاري؟ .. ما هو لازم سيادتك تسجّل التبرّع ده رسمي معاها.
- أيوه ما انا عارف
بس ممكن حضرتك تطلب منها تعمل لك توكيل خاص في الموضوع ده .. وبعدين نروح انا وانت
نسجّل التبرّع بكليتي .. أنا بصفتي المتبرّع وحضرتك بصفتك وكيل عنها .. وبعدين
تحتفظ بتسجيل التبرّع ده معاك مش لازم هيَّ تشوفه.
- ماشي ماشي .. ما
فيش مشكلة.
- خلاص على بركة
الله .. أنا ح افضّي نفسي م الأسبوع الجاي لمدّة إسبوعين علشان نخلّص كل حاجة ..
كويّس كده؟
- كويّس جداً ..
ربنا يجعله ف ميزان حسناتك إن شاء الله.
- ربنا يتقبّل مننا
جميعاً .. وخلّينا على اتصال على طول .. سلام.
ووضع "كريم"
السمّاعة وتنفّس الصعداء فقد استراح نفسيّاً لما فعل وأحسّ بالسعادة لأنه سيضحّي
بجزءٍ من جسده لحبيبته "عبير" علّه يعوّضها عن حبّه لها الذي تمادى فيه
عندما كان يمر بظروفٍ خاصة ثم تخلّى عنها عندما أيقن أن ذلك الحب سيكلّفه التضحية
بأسرته، وشعر أيضاً بالرضا لأنه قد أدّى واجبه نحوها فتحرّر من عقدة الاختيار
بينها وبين زوجته التي استقرّ على أن يكمل حياته معها دون التفكير في غيرها.
وبدأ
"كريم" في التمهيد لتنفيذ مخطّطه فوْر أن عاد لمنزله مساء ذلك اليوم،
فعندما كان يتناول طعام العشاء مع أفراد أسرته سألهم :
- عايزين حاجة من
"أسوان" يا عيال.
-
"أسوان"! .. وانت إيه اللي يودّيك هناك يا "كريم"؟
- أصل فيه دكتور
صاحبي بيشتغل ف المستشفى العام هناك وعايز يعمل قافلة طبيّة تلف الصعيد لمدّة
أسبوعين ومحتاج أخصّائي كِلى .. إنتي عارفة الناس هناك غلابة قوي وما عندهمش خدمة
طبيّة ف القرى والنجوع المتطرّفة اللي هناك .. قلت له خلاص اعمل حسابي معاك واهو
الواحد ينوبه ثواب برضه.
- أوعى يا راجل تكون
رايح تتجوّز وتقضي شهر العسل هناك.
- ههههه .. يا شيخة
ده انا يا دوبك لمّا اوصل مطار "أسوان" ح اطلع ع الصعيد الجوّاني على
طول .. حتى لو عايزة تتّصلي بيَّ ح يبقى عن طريق المحمول .. ما فيش هناك أرضي ..
ويمكن كمان ما فيش ميّه ولا نور.
- طب تروح وترجع
بالسلامة إن شاء الله .. وح تسافر إمتى؟
- السبت الجاي على
طول.
- بابا .. أنا عايز
مشبّك وانت جاي.
- وانا كمان يا بابا
.. وحُمّص.
- هوَّ انا ح اعدّي
على "طنطا" يا عيال! .. "أسوان" دي فيها تمر وسوداني وكركديه
بس.
- خلاص .. هات
سوداني.
- ماشي .. سوداني ..
هييييه.
- المهم يا حبيبي
تخلّي بالك من نَفسَك وترجع لنا بالسلامة.
- إن شاء الله.
قالها
"كريم" وهو يحملق في الطبق الذي وُضِع أمامه ليتفادى النظر في عيْنيْ
"بسمة" حتى لا تكتشف أنه يكذب عليها ثمّ أسرع في الانتهاء من طعامه وقام
مغادراً إلى غرفته وهو يشعر بالخجل من نفسه.