"سفاح كرموز" | الفصل السابع (2)
وسار الاثنان معاً
ودار بينهما الحوار فعرف منها أن اسمها "تيريز دميان" وأن والدها توفي
منذ طفولتها وتركها مع أختها التي تكبرها بعام في رعاية الأم التي اضطرّت للعمل
كحائكة لتدبّر أمور ابنتيْها حتى كبرتا وصارتا ممرّضتيْن بالمستشفى القبطي
"بمحرّم بك" لتساعدا أمهما، وكلّما تحدّثت "تيريز" ببراءة
وعفويّة كلّما اقتحم قلب "سعد" نورٌ أبيض كأنه فجر معرفةٍ جديد للجنس
الآخر لم يعرفه من قبل؛ فجرٌ يبدّد ظلام كراهيته للفتيات ويطهّر ذاته ويغسل فكره؛
فجرٌ لاكتشافٍ مستحدَثٍ عن البراءة والطُهر والعفّة، ولأوّل مرّة - وهو مع فتاة - لم
يسأل "سعد" نفسه كيْف يوقِع بها وما هو مدخلها الذي يمكن له أن ينفذ منه
إليها ومتي تلين له وترضخ لرغباته، لأوّل مرّة يشعر بالاحترام تجاه فتاةٍ مهذّبة
تشع أدباً وأخلاقاً، لأوّل مرّة يقف مكتوفاً لايريد أن يتكلّم؛ فقط يريد الاستماع
ثم الإنصات ثم المزيد من الإصغاء لهذا الصوْت العذب الصادر من تلك الروح الآسرة،
وازداد احترامه وتبجيله "لتيريز" أكثر فأكثر عندما رفضت دعوته لشرب
"السوبيا" (لبن محلّى مع جوزهند وفانيليا) أو أكل "الدندورمة"
(الآيس كريم) أثناء سيْرهما بل طلبت منه أن ينصرف ويترك لها الثوْب الذي يحمله عنها
لأنهما اقتربا من منزلها ولا يليق أن يراه أحدٌ معها، فأذعن لأمرها ولم يقوَ على
المناقشة فتصنّع الانصراف ولكنه ظلَّ يراقبها عن بعد حتى عرف مكان بيتها ثمّ
فارقها على مضضٍ وقد احتلّت قلبه وعقله دون إنذار.
ولم ينم
"سعد" تلك الليلة وسهر يتأمّل في "تيريز" ويفكّر فيها كثيراً،
واعترف لنفسه بأنه بدأ يحبّها حبّاً صادقاً لم تدنّسه بعد الشهوة أو تلوّثه
الأغراض، وتساءل : هل جاءت له "تيريز" في تلك اللحظة الفارقة حتى تغيِّر
حياته وتبّدِل سلوكه وتكون بمثابة طوْق النجاة الذي ينتشله من بحر الخطايا والآثام
الذي غرق فيه؟، وأجاب : ولِمَ لا .. فلم تفُت الفرصة للتوبة بعد ولعلّها البداية
الصحيحة لحياةٍ سليمة .. فلِمَ لا يعيش كأقرانه؟ .. فربما اختارها الرب لتكون
زوجته وأم أولاده خاصةً أنها مسيحيّة من بنات جِلدته .. فليكتفِ بهذه الجرائم التي
اقترفها ويفتح صفحةً جديدة كلّها تفاؤلٌ وأمل بغفران الرب، واعتبر "سعد"
أن لقاءه مع "تيريز" هو أوّل سطرٍ يخطّه القدر في تلك الصفحة الجديدة من
كتاب حياته.
وفي موعد خروج
الممرّضات بعصر اليوم التالي وقف "سعد" منتظراً أمام باب المستشفى
القبطي لربما يبتسم له الحظ ويرضى عنه القَدَر فيرى حبيبته أو يكلّمها ولكن طال
انتظاره لها دون أن تظهر فتلاعبت به الشكوك وتقافزت أمامه كل الاحتمالات التي سيطر
عليها سوء الظن كعهده دائماً : هل كانت "تيريز" تكذب عليه في كوْنها
ممرّضةً؟ أم كانت تكذب في كل شيء؟ هل كانت تستدرجه ليقع في حبها؟ هل هي طريقةٌ
جديدة لبنات اليوم كي يوقعن العِرسان في شِركهن؟، ولم يهدأ له بالاً حتى دخل
المستشفى وسأل حارسها عن "تيريز دميان" فأجابه الرجل بأنه لم يسمع عنها
قط، وكاد "سعد" أن يرتد عن إيمانه بالحب ويكفر بوجوده ويصبأ بتأثيره
لولا أنه سأل بلهفة ممرّضةً كانت تمر أمامه:
- لو سمحتي يا أختي
.. فيه هنا ممرّضة اسمها "تيريز دميان"؟
- أيوه .. حضرتك
مين؟ .. خطيبها؟
- (بارتياح) لأ ..
أنا واحد قريبها وكنت جاي اكشف صدريّة .. قلت اشوفها فين علشان توصّي عليَّ.
- حضرتك هيَّ
نوبتجيّة لحد الساعة تمانية بالليل .. ممكن تلاقيها ف الاستقبال ده الوقت.
- أومّال الراجل الحارس
ده بيقول ليه إنه ما يعرفهاش؟
- أصلها لسّه جديدة
.. بكرة يحفظها.
واتّجه
"سعد" حيث توجد محبوبته التي كاد أن يظلمها فوجدها منهمكةً في عملها
فنادى عليها، وعندما رأته أشارت له بالانتظار حتى فرغت بعد قليل فذهبت إليه
واستفسرت منه عن سبّب وجوده فتحجّج لها بأنه يعاني من سعالٍ حاد حار في علاجه وراح
يسعل أمامها بتكلّف فطلبت منه - بمنتهى الجديّة - أن يُصدِر تذكرة كشفٍ ويعود لها
فتعرضه على الطبيب المسؤول، وفعل فوصف له الطبيب زجاجة دواءٍ وصرفه، ولكن "سعد"
لم ينصرف نهائيّاً بل خرج من المستشفى وظلّ منتظراً أمامها حتى الثامنة والربع
مساءً حين خرجت "تيريز" ففوجئت "بسعد" ينتظرها فلم تنتظره
ليكلّمها بل ذهبت مباشرةً إليه وقالت في حدّة:
- لو سمحت يا أخ
"سعد" أنا مش بتاعة الكلام الفاضي ده .. من فضلك اتفضّل امشي وما تجيش
هنا تاني .. هنا مكان أكل عيش ومش عايزة فضايح.
- فضايح ليه؟ .. ده
انا عيّان وجيت اكشف .. وقلت استنّاكي اروّحِك بالمرّة.
- لأ .. أنا باعرف
اروّح لوحدي .. ثمّ انت مش عيّان ولا حاجة .. الدكتور قال لي إن صحّتك بمب.
- أومّال كتب لي على
إزازة دوا ليه؟
- دي فيتامينات ..
ما لقاش حاجة يكتبها لك ف الروشتّة كتب لك فيتامينات.
- إخص .. الظاهر انا
عكّيت .. أنا آسف.
وبالرغم من انصرافه
حزيناً لأن "تيريز" غضبت منه بعد أن كشفت حيلته إلّا أنه سُرَّ كثيراً
من رد فعلها حياله؛ فقد أثبتت مرّةً أخرى أنها فتاة لا تعرف المزح ولا تهوى الهزل
وأن ما تعرفه وتحرص عليه فقط هو شرفها المصون وسمعتها العطرة، وقرّر وقتها أن
يعتزل هذه التصرّفات الخرقاء وينبذ هذا السلوك الصبياني الأرعن وأن يدخل البيوت من
أبوابها فصمّم على الذهاب لمنزلها يوم الأحد القادم ليخطبها من أمّها رسميّاً.
وما إن انتصفت شمس
الصباح الجديد وأخذت مكانها وسط السماء حتى فوجئ "سعد" - وهو جالسٌ في
شونته يفكّر في حبيبته ويتمنّى أن يأتي يوم الأحد الموعود في لمح البصر -
"بتيريز" تقف أمامه مبتسمة وهي تقول في إحراج:
- صباح الخير.
- (في بِشرٍ وتهلّل)
صباح الجمال.
- أنا جايّة لك اتأسّف
لك ع اللي حصل مني امبارِح .. أصلك بصراحة نرفزتني بعمايلك دي.
- ولا تتأسّفي ولا
حاجة .. إنتي عملتي الصح اللي أي بنت محترمة كان لازم تعمله.
- طب نشكر ربّنا إنك
مقدّر اللي حصل ومش زعلان .. خلّيتك بعافية.
- بس استنّي بس ..
إنتي جيتي ف إيه وماشية ف إيه؟
- معلهش نوبتجيتي ح
تبدأ الساعة اتنين الضهر ولازم امشي .. أنا قلت نيجي لك نطيّبوا خاطرك قبل ما نروح
الشُغل بسرعة .. ده انا حتى ما قلتش لحد إني جايّة لك.
- أصلي كنت عايزِك ف
كلمتين كده .. أستسمحِك بس دقيقتين .. اقعدي بس.
- إتفضّل يامعلّم
"سعد" .. أنا سامعاك.
- آآآ .. بقى انا ..
آآ .. بصراحة كده .. آآآآ .. إنتي الحقيقة .....
- إيه يا معلّم؟ ..
ما لك .. بتتلَجلِج ليه؟
- (باندفاعٍ وتسرّع)
بُصّي .. م الآخر كده انا حبّيتِك وعايز اتجوّزِك.