الجزء السابع
كان الرجل الإنجليزي
يجلس داخل ذلك المبنى الذي تفـوح منه رائحة الماشـيـة والعـرق والغُـبار، وكان من
الصعب تسمية ذلك المكان "شـادراً" فهو لم يكن أكثر من حظيرةٍ للمواشي،
وقال ذلك الرجل لنفسـه وهو شاردٌ يتصفَّح مجلّةً متخصَّصةً في الكيمياء:
- يا لسُخرية القدر! .. قضيْت حياتي
كلها لينتهى بي المطاف في مثل هذا المكان! .. عشر سنواتٍ من الدراسة لكي أجد نفسي
في حظيرةٍ للمواشي!
ولكن كان عليه
الاسـتـمـرار، يجب أن يُصـدِّق العـلامـات ويؤمن بمغزاها، فقد تركَّزت كل حياته
وكل دراساته على البحث عن لُغـةٍ واحـدةٍ يتكلَّمـهـا العـالَم، لقد انصب اهتمامه في
بداية بحثه على لُغة "الاسبرانتو" العالميّة ثم على الأديان، وانتهى به
الأمر إلى الخيمياء، كان يعرف التحدُّث بالاسبرانتو ويفهم بدِقّـة مُختلَف الأديان
ولكنه لم يُصبِح سيميائيّاً بعد.
نجح دون شـك في حل
رمـوز أشيـاءٍ مُـهِـمَّـة ولكن أبحـاثه وصلت إلى النقطة التي لا يُمكنه أن
يتجاوزها، وحاول - دون نجاح - أن يُقيم علاقةً مع أي خيميائيٍ كان، غيْر أن الخيميائيّين
قومٌ غريبو الأطوار لا يُفكِّرون إلّا في أنفسهم وكثيراً ما يبخلون بتقديم مساعداتهم،
ومَن يدري: لعلَّهم فشلوا في اكتشـاف سِر ما يُسمَّى بـ"الحجر الكبير"
أو "حـجـر الفـلاسـفـة"، وربما يكون هذا هو سبب اعتزالهم بعيداً عن
الناس مُلتزمين الصمت.
لقـد أنفـق حـتى
الآن جُزءاً كبيراً من الثروة التي خلَّفها له أبوه في سعيه وراء حجر الفلاسفة دون
جدوى، تردَّد على أفضل المكتبات في العالم، واشـتـرى أهـم وأندر المؤلَّفات
الخاصّة بعِلم الخـيمـياء، واكتشف في واحدٍ منها أن خيميائيّاً عربيّاً شهيراً زار
"أوروبا" قبـل عِـدّة سنوات قيل أن عُمره ناهز المائتي عـام وإنه قد
اكتشـف "حجر الفلاسفة" وإكسير الحياة، وأثَّرت هذه القصة في الإنجليزي
تأثيراً كبيراً، ولكنها كانت ستبقى محض خُرافةٍ ضمن خرافاتٍ أخرى كثيرة، لوْلا أن
واحداً من أصدقائه عاد من بعثةٍ أثريّةٍ في الصحراء وحدَّثه عن رجلٍ عربيٍ خارق
القدرات وقال له:
- إن هذا الخيميائي العربي يعيش في واحةٍ
بـ"الفـيّـوم" .. ويقول الناس إن عُمره مائتا عام وأنه يستطيع أن يُحوِّل
أي معدنٍ إلى ذهب.
ثارت لهفة الإنجليزي
وانفعل انفعالاً لا حدود له، فألغى على الفور كل ارتباطاته السابقة، ثم جمع أهم كُتُبه،
وها هو الآن في داخل ذلك الشادر الذي يُشبه حظيرة البهائم، في حين تستعد قافلةٌ
كبيرةٌ في الخارج لكي تعبر الصحراء، ولابد لهذه القافلة أن تعبر "الفيّوم"،
فكَّر الإنجليزي في قرارة نفسه:
- من المُحتَّم أن أقابل ذلك الخيميائي
اللعين.
خفَّت حِدّة رائحة
الماشية قليلاً وأصبحت أكثر احتمالاً، ودخل شابٌّ عربيٌ (كان في الواقع هو
"سنتياجو" الذي ارتدى ملابس عربيّة) محملٌ هو أيضاً بحقائب أغراضٍ كثيرة
إلى مبنى الشادر الذي يجلس فيه الرجل الإنجليزي ووجَّه الشاب العربي التحيّة للرجل
الإنجليزي ثم سأله:
- إلي أين أنت ذاهب؟
- إلى الصحراء.
هكذا رد الإنجليزي
ثم عاد إلى القراءة، لم تكُن لديه رغبةٌ في تلك اللحظة في تبادل الحديث مع أحد،
كان بحاجةٍ إلى أن يسترجع كل ما تعلَّمـه خـلال عشر سنوات، لأن الخیمیائي العربي سیفرض
عليه دون شك نوعاً من الاختبار عندما يُقابله.
أمسك العربي الشاب
بكتاب رواية وراح يقرأ بدوْره، كان الكتاب باللُغة الإسبانيّة ففكَّر الإنجليزي:
- هذه فرصة .. يبدو أن هذا العربي يُتقِن
الإسبانيّة أفضل من العربيّة .. وإذا كان هذا الفتى العربي ذاهباً حتى "الفيّوم"
فسأجد شخصاً أتحدَّث إليه عندما لا أكون مشغولاً بأمورٍ مُهِمّة.
*****
فكَّر "سنتياجو"
وهو يحاول مرّةً أُخرى أن يقرأ مشهد الدفن الذي تبدأ به الحكاية:
- إنه لأمرٌ مُستغرَبٌ حقّاً .. مضى
عامان تقريباً منذ بدأتُ قراءة هذا الكتـاب ولكني لا أستطيع أن أمضي إلى أبعد من
هذه الصـفـحـات.
لم يستطع التركيز
رغم أنه لم يكن هناك ملكٌ عجوزٌ ليُقاطعه، كان لايزال مُتردِّداً في شأن قراره،
ولكنه أدرك الآن شيئاً مُهِمّاً: أن القرارات تُمثِّل فقط بداية شيءٍ ما وأن
الإنسان عندما يتخذ قراراً فإنه يقذف بنفسه في الواقع في خَضَم تيارٍ عارمٍ يُلقي
به إلى مصيرٍ لم يتوقَّعه قط ولا حتى في الأحلام.
وتأكيداً لتحليله
قال لنفسه:
- عندما أخترت أن أمضى للبحث عن كَنزي
لم أكُن أتصور أبداً أن أشتغل في محلٍ للكريستال .. وبالمثل فإن الانضمام لهذه
القافلة قد يكون قراراً اتخذته كبداية ولكن عواقب هذا القرار تظل في عِلم الغيْب.
كان أمامه شخصٌ أوروبيٌ
(هو الرجل الخيميائي الإنجليزي) يقرأ كتاباً، يبدو عليه أنه شخصٌ سمج، لقد رمـقـه هذا
الأوروبي بطريقةٍ فيها احتقارٌ عندما دخل، كان من المُمكِن أن يُصبِحا صديقيْن
ولكن الأوروبي صدّه على الفوْر حين سأله عن وجهته.
أغلق
"سنتياجو" كتابه، لم يشَأ أن يفعل شيئاً يُمكِن أن يوحي لأي إنسانٍ أن
هناك وجـه شـبـهٍ بينه وبين هذا الأوروبي، سحب من جيْبه "أوريم" و"تومـيم"
وبدأ يعبث بهذيْن الحجريْن، أطلق الغريب صيحةً عالية:
- "أوريم" و"توميم"!
بادر الشاب بوضع
الحجريْن في جيْبه قائلاً:
- ليسا معروضيْن للبيْع.
- هُما لا يساويان كثيراً .. فهما من بلّلورٍ
صخريٍ لا أكثر .. وهناك ملايين من البلّلورات الصخريّة على سطح الأرض .. ولكن هذيْن
لمن يعـرفـهـمـا هُمـا "أوريم" و"توميم" .. لم أكن أعرف أنهما
يوجدان في هذه المنطقة.
- لقد أهداني إيّاهما ملك.
ظل الغريب صامتاً، ثم
وضع يده في جيْبه وأخرج منه بيدٍ مُرتعِشةٍ حجريْن مُطابقيْن لما معه وهو يقول:
- أنت تحدَّثتَ عن ملك.
ردَّ عليه الشاب
"سنتياجو" وهو يرغب من جانبه _ هذه المرّة – في وضع حدٍ للحوار بينهما:
- ولكنك لن تُصدِّق أن ملكاً يُمكِن أن
يتحدَّث إلى راعٍ صغير.
ولكن الغريب قال:
- بالعكس تماماً .. لا غرابة في أن يتحدَّثَ
الملوك إلى الرُعاة.
عندها شعر الشاب
بالسعادة لوجوده في هذا المكان، وقال الإنجليزي وكأنه يُفكِّر بصوتٍ عالٍ:
- ربما تكون هذه علامة.
- مَن حدَّثك عن العلامات؟
كانت لهفة الشاب
تتزايد من دقيقةٍ إلى أخرى، أغلق الإنجليزي المجلّة التي كان يقرؤها وقال:
- كل شيءٍ في الحياة علامة .. العالم
كله تشمله لُغةٌ واحدةٌ يستطيع كل الناس فهمها ولكنهم نسوها .. وأنا أبحث عن هذه
اللُغة العالميّة ضِمن أشياءٍ أُخرى .. هذا هو السبب في أني هنا .. لأني يجب أن أُقابل
رجُـلاً يـعـرف هذه اللُغة العالميّة وهو خيميائيٌ عربي.
أنقطع الحديث بدخول
شخصٍ عربيٍ بدينٍ إلى الشادر قال لهما:
- إن كليْكما محظوظ .. سترحل قافلةٌ عصر
اليوْم إلى "الفيّوم".
قال الشاب:
- ولكني أريد أن أذهب إلى "مِصر".
رد عليه العربي
البدين:
- و"الفيّوم" في "مِصر"
.. أنت تبدو عربيّاً غريباً يا أخي!
قال له
"سنتياجو":
- أنا لست عربيّاً .. أنا إسباني.
فشعر الإنجليزي
بالسعادة لسماع ذلك حتى وإن ارتدى الشاب زيّاً عربيّاً فهو على الأقل أوروبيٌ
مثله، ثم قال الإنجليزي عندما انصرف الرجل البدين:
- إن هذا الرجل العربي البدين - عندما
وصفنا بالمحظوظيْن - يُسمّي العلامات "حظاً"
.. ولو استطعتُ لكتبتُ دائرة معارفٍ ضخمة عن كلمتيْ "حظ" و"مصادفة"
.. فبهاتيْن الكلمتيْن تُكتَب اللُغة العالَميّة.
ثم واصل الحديث
قائلاً للشاب:
- إنها لم تكُن مُـصـادفةً أن رأيتُك
وفي يدك حجرا "أوريم" و"توميم" .. ولكن .. هل تسعى أنت أيضاً
لمقابلة ذلك الخيميائي العربي.
رد الشاب:
- أنا أسعى للبحث عن كَنز.
ثم شعر بالندم على
الفور، ولكن لم يبدُ على الإنجليزي أنه أوْلى اهتماماً لما سمعه عندما قال:
- وأنا أيضاً على نحوٍ ما.
- وأنا لا أعرف حتى ما هي الخيمياء.
قالها الشاب في
اللحظة التي دخل فيها رئيس شادر القوافل ودعاهما إلى الخروج.
*****
صاح في القافلة رجلٌ
طويل اللحية أسود العيْنيْن:
- أنا رئيس القافلة .. ولى حق الحياة
والموْت على كل مَـن أقـودهـم .. لأن الصحراء امرأةٌ متقلِّبةٌ تبعث في الرجال
الجنون أحياناً.
ضمَّت القافلة ما
يقرُب من مائتيْ شخصٍ وضِعف عددهم من الدواب، كانت هناك جِمالٌ وخيولٌ وبِغالٌ
وطيور، وكان هناك نساءٌ وبعض رجالٍ يحملون سيوفاً في خواصرهم أو بنادق طويلةً على
أكتافهم، واصطحب الإنجليزي معه عِدّة حقائب مُكدَّسةً بالكُتُب، وسادت المكان جلبةٌ
صاخبة، فاضطر الرئيس إلي أن يُعيد كلمته عِدّة مرّاتٍ ليفهمها الجميع، ثم قال
أيضاً:
- يوجد هُنا أُناسٌ من شتّى المشارب
يؤمنون في قلوبهم بآلهةٍ مُختلِفة .. أما أنا فإلهي الواحد هو الله .. وأنا أُقسم
بالله أن أفعل كل ما أستطيع - وبأفضل ما أستطيع - لكي أقهر هذه الصـحـراء مـرّةً أُخـرى
.. أُريد فقط من كلٍّ منكم أن يُقسِم بالإله الذي يُؤمِن به - ومن أعماق قلبه -
بأنه سيُطيعني في كل الظروف .. ففي الصحراء لا یعنی العصيان إلّا الموْت.
سرت في الجمع همهمةٌ
خافتة، وأقسم كلٌّ بصوْتٍ خفيضٍ مُشهِداً إلهه، فأقسم الشاب بـ"المسيح"،
ولزم الإنجليزي الصمت، وطالت الهمهمة لمُدّةٍ أكثر ممّا يستغرقه قَسَمٌ عادي إذ
كان الناس يلتمسون أيضاً حماية السماء.
وانطلق صـوْت
نـفـيـرٍ ظل يُدوّي طويلاً، وامتطى كل شخصٍ دابّته، كـان الشاب والإنجليزى قد
اشتريا جمليْن ووجدا صعوبةً في حفظ توازنهما فوق مطيّتيهما، وشعر الشاب
"سنتياجو" بشيءٍ من الإشفاق على جمل الإنجليزي المُثقَل بحمولةٍ باهظةٍ
من الكُتُب، وقال الإنجليزي محاوِلاً أن يستأنف الحديث الذي بدأه في الشـادر مع
الشاب:
- لا توجـد مُـصـادفات .. هناك صديقٌ هو
الذي جعلني آتي حتى هُنا لأنه يعرف عربيّا .....
وفي تلك اللحظة بدأت
القافلة بالتحرُّك فأصبح من المُستحيل سماع ما يقول، ومع ذلك فقد فهم الشاب المغزى
تماماً: فالإنجليزي يعني تلك السلسلة الغامضة التي تربط كل شيءٍ وباقي الأشياء،
تلك السلسلة التي قادته منذ كان راعـيـاً حـتى عـمـل عند بائع الكريستال، وفكَّر سنتياجو":
- كلّما اقترب الإنسان من حُلمه أصبحت
الأسطورة الذاتيّة هي مُبرِّر الحياة الحقيقي.
سارت القافلة في
اتجاه الشرق، كانت تتحرَّك في الصباح وتتوقَّف عندما تحمي وقدة الشمس ثم تستأنف
المسير عندما تميل الشمس نحو الغرب، ولم يتحدَّث الشاب كثيراً مع الإنجليزي الذي
كان يقضي مُعظم الوقت غارقاً في مطالعة كُتُبه، ثم استغرق الشاب في مراقبة موْكب
الدواب والبشر عبر الصحراء، أصبح كل شيءٍ يختلف تماماً عمّا كان عليه في يوْم
الرحيل، يوْمـهـا كـان الزحـام والصياح وبُكاء الأطفال والصـهـيـل والخـوار
عالياً، ووسط كل تلك الفوْضى أصوات الأوامر العصبيّة للأدِلّاء والتُجّار، أمّا في
الصحراء فلم يكن ثَمّة شيءٍ غير الرياح الأبديّة والصمت وخبب أقدام الدواب، حتى
الأدِلّاء: نادراً ما كانوا يُكلِّمون بعضهم بعضاً، وقال أحد حداة الجِمال ذات ليْلة:
- لقد عبرتُ بحار الرمال هذه عِدّة مرّات
.. ولكن الصحراء مُترامية الأطراف نائية الآفاق تُشعِر الإنسان بضآلته وتُلزِمه
الصمت.
وفهم الشاب ما أراد
حادي الجمال أن يقوله، مع أنه لم يخُض من قبل غمار أيّة صحراء، ولكنه في كل مرّةٍ
كان يرقُب فيها البحر أو النار كان يمكنه أن يقضيَ ساعاتٍ دون أن ينبس بكلمةٍ وهو مُستغرِقٌ
في حقيقة هذا الكوْن الشاسع وفي قوّة عناصره، وفكّر في قرارة نفسه:
- لقد تعلَّمتُ أموراً من رعي الشياه
وتعلَّمتُ أموراً أُخرى من عملي في تجارة الكريستال .. ويُمكِنني أيضاً أن أتعلَّم
من ترحالي في الصحراء فهي تبدو أعرق وأكثر حكمة.
ولم تتوقَّف الرياح
أبداً ذلك اليوْم، فتذكَّر يوم شعر بتلك الرياح نفسها في "تاريفا" حين
كان يجلس فوْق سور الحصن، ولعل الرياح الآن تدغدغ صوف شياهه التي تجوب ربوع "الأندلس"،
وقال لنفسه دون أن يشعر بحنينٍ حقيقي لأغنامه:
- هي لم تعُد شياهي .. ولا بُد لها الآن
أن تكون قد اعتادت على راعٍ جديدٍ ونسيتني .. ولا بأس بهذا أبداً فمَن يعتاد على
الترحال - مثل الشياه - يعرف أنه لا بُد أن تأتيَ لحظة الفراق يوْماً ما.
ثم تذكَّر ابنة
التاجر واستقر لديْه يقينٌ بأنها لا بُد أن تكون قد تزوَّجت، ربما من بائع الفيشار
أو راعياً يعرف القراءة ويستطيع أن يقُص عليها حكاياتٍ مُثيرة، فهو ليس الوحيد بكل
تأكيد الذي يعرف ذلك، ولكن هذا الحدس الذي واتاه بعث في نفسه القلق: أيكون إذن في
طريقه لأن يتعلَّم بدوْره تلك اللُغة الكوْنية العالميّة الشهيرة التي تعرف ماضي
البشر جميعاً وحاضرهم؟!، إنها مجرَّد هواجس كما كانت تقول أُمّه دائماً، وبدأ
يفـهـم أن الهواجس هي حالاتٌ سريعةٌ من غوْص الروح في هذا التيّار الكوْني للحياة
حيث يترابط في طيّاته تاريخ البشر جميعاً بطريقةٍ توحِّـد الكل وحيث نستطيع أن
نعرف كل شيءٍ لأن كل شيءٍ "مكتوبٌ" علينا كما قال له تاجر الكريستال من
قبل.
كانت الصحراء تنبسط
في بعض الأحيان رمالاً وفي أحيانٍ أُخرى تتجمّع في شكل حجارة، وعندما كانت القافلة
تبلغ أرضاً من الحجارة كانت تدور حولها، فإن كانت كُتل الصـخـور مُكدَّسةً تحتَّم قيام
القافلة بدوْرةٍ كبيرةٍ حوْلها، وعندما كانت القافلة تُصادف رمالاً ناعمةً للغاية
تغوص فيها أخفاف الجمال كانت تبحث عن ممرٍّ تكون فيه الرمال أكثر صلابةً وثباتاً،
وفي بعض الأحيان كانت الأرض مُغطاةً بالملح في مكانٍ شهد من قبل تجمُّعاً للأمطار
أو بُحيْرةً مُندثِرة، وكانت الجمال تُقاسي أثناء اجتيازها بعض الأماكن الصعبة فينزل
الحداة لمساعدتها فينقلون أحـمـالـهـا فـوْق ظـهـورهـم إلى أن يعبروا تلك الممرّات
الوعرة ثم يُعـيـدون تحميل الجمال، وكانوا عندما يسقط واحدٌ من الأدِلّاء مريضاً
أو ميّتاً كان الحداة يُجرون قرعةً لاختيار مَن يحل محله. ولم يكن لكل لهذا سـوى
سبب واحـد، ولم تكن لكل هذه الصعوبات أهميةٌ مهما زادت وتسبَّبت في انحراف مسار
القافلة طالما أن الغاية واحدةٌ ومُحدَّدةٌ وهي السيْر قُدُماً نحو وِجهتهم
المقصودة، ففي كل مرّةٍ تتجاوز القافلة فيها عقبةٍ ما كانت تجد - من جديد - النجم
الذي يهدي مسيرتها إلى اتجاه الواحة، وعندما يرى الناس هذا النجم وهو يلمع في سماء
الفجر يعرفون أنه يدلّهم إلي حيث توجد النساء والماء والنخيل والتمور، وكان
الإنجليزي وحده هو الذي لم يُلاحظ شيئاً من هذا كله ولم يكن يُبالي بتلك الأُمور
في ظِل انهماكه طوال الوقت في قراءة كُتُبه.
كذلك كان مع الشاب
"سنتياجو" كتابٌ حاول أن يقرأ فيه خلال الأيّام الأولى من الرحلة، ولكنه
وجد مُتعةً أكبر في مُراقبة القافلة والإصغاء إلى الرياح، وبمجرَّد أن تعلَّم السيْطرة
على جـمله بشكلٍ أفضلٍ وبدأ يتعلَّق به طرح كتابه جانباً لأنه اعتبره عِبئاً إضافيّاً عليه، ومع ذلك فقد كان
يُخيَّل إليه دوْماً بأنه في كل مرّةٍ سيفتح فيها هذا الكتاب سوف يلتقي بشخصٍ مُهم.
وانتهى به الأمر بأن
عقد صداقةً مع حـادى الجمال الذي كان يُحاذيه باستمرار والذي كان يُحدِّثه عن
حياته أحياناً، وقال له ذات مرّة:
- أنا أسكُن ناحيةً بالقُرب من "القاهرة"
.. وكان لي بيْتي وأطفالي وحياةٌ مُستقِرّةٌ ما كان لها أن تتغيَّر حـتى أمـوت ..
وفي سنةٍ من السنوات كـان المـحـصـول أفـضـل من المُعتـاد فسافرنا جميعاً إلى "مكّة"
وأديْتُ الفريضة الوحيدة التي كانت تنقُصني في ذلك الحين .. كان بوسعي بعدها أن
أموت مُطمئِناً وسعيداً .. ولكن ذات يوْمٍ مُروِّعٍ بدأت الأرض تهتز وفاض النيل مُحطِّماً
جسوره .. وحدث لي ما كنتُ أعتقد أنه لا يحدث إلّا للآخرين .. خشی جیراني من أن
يفقدوا بساتين الزيْتون بفعل الفيضان وخشیتْ زوْجتي من أن تجرف المياه أطفالنا
وخفتُ أنا من أن أفقد كل ما بنيْتُه في حياتي .. ولكن ما وقع لم يكن له علاجٌ أو
حل .. فلم تعد الأرض تصلُح للزراعة وتحتَّم عليَّ أن أجد وسيلةً أُخرى للعيْش .. وها
أنذا اليوْم حادٍ للجِمال .. ولكني استطعتُ أيضاً أن أفهم حكمة الله: لا ينبغي لإنسانٍ
أن يخشى من المجـهـول لأن بوسعه أن يُغيِّر حياته وأن ينال ما يسعى إليه فكل ما
نخشاه هو أن نفقد ما نملك - سواء كان ذلك حياتنا أو زرعنا - ولكن هذا الخوْف سيزول
عندما نفهم أن حياتنا وحياة العالم أيضاً قد كتبتهما يده سبحانه وتعالى .. قُلْ إن
ربّي يَبسُطُ الرزقَ لِـمَن يشاءُ من عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَه.