الجزء الثاني عشر
لم يغمض لـ"سنتياجو"
جفنٌ في تلك الليْلة، وقبل طلوع الفجر بساعتيْن قام بأيقاظ أحد الصبية الذين كانوا
ينامون معه في الخيْمة نفسها وطلب منه أن يدلّه على المكان الذي تسكن فيه "فاطمة"،
خرجا كلاهما متوجهيْن إلى هُناك، وفي المقابل أعطى لدليله ثمن شراء شاة، ورجاه
بعدها أن يبحث عن المكان الذي تنام فيه الفتاة وأن يوقِظها ويقول لها إنه ينتظرها
في الخارج، نفَّذ الأعرابي الصغير مُهمّته وتلقّى ما يكفي لشراء شاةٍ أُخرى، ثم
قال له:
- والآن اتركنا وحدنا.
رجع الصبي إلى الخيْمة
ليستأنف نوْمه فخوراً بأنه قد ساعد مُستشار الواحة وراضياً لأن معه من المال ما
يكفي لشراء غنم، ظهرت "فاطمة" على باب الخيْمة، وسارا معاً إلى قلب غابة
النخيل، كان يعرف أن هذا ضد التقاليد، ولكن لم يعُد لذلك الآن أيّة أهميّة، وقال
لها:
- سـوف أرحـل .. وأريدك أن تعرفي أني
سأعود .. أنا أُحبّك لأني .....
- لا تقُل شيئاً .. الإنسان يُحِب لأنه
يُحِب .. لا يوجد أي سببٍ للحُب.
ولكنه استأنف كلامه قائلاً:
- أنا أُحبّك لأني حلمتُ حُلماً .. ثم
قابلتُ ملكاً .. وبِعتُ الكريستال .. وعبرتُ الصحراء حين تحاربتْ القبائل فيما
بينها .. واقتربتُ من بئرٍ لأسألَ أين يسكُن خيميائيٌ فقابلتُكِ .. أنا أحبك لأن
الكوْن كله تحالف لكي أصل إليكِ.
تعانقا وكانت تلك أوّل
مرّةٍ يتلامس فيها جسداهما، وقال الشاب مرّةً أُخرى:
- سأرجع.
- من قـبـل كـانت تواتیني رغـبـةٌ حين
أنظر إلى الصـحـراء .. أمّـا الآن فسأغدو امرأةً ملؤهـا الأمل .. لقد رحل أبي ذات
يوْمٍ ولكنه رجع إلى أُمّي .. وما زال يذهب ويعود باستمرارٍ من آنٍ لآخر.
ولم يقولا شيئاً بعد
ذلك، سارا قليلاً في غابة النخيل، ثم صحبها الشاب مرّةً أُخرى حتى باب خيْمتها
وقال:
- سأرجع كما رجع والدك إلى والدتك.
ولاحظ أن عيْنيْ "فاطمة"
اغرورقتا بالدموع فقال:
- هل تبكين؟
ردَّت وهي تُخفي
وجهها بين كفّيْها:
- أنا امرأةٌ صحراويّة .. ولكنني امرأةٌ
قبل كل شيء.
رجعت "فاطمة"
إلى خيْمتها قُبيْل شروق الشمس، وعندما يطلع النهار ستخرج من جديدٍ لكي تفعل ما تعوّدت
أن تفعله منذ سنوات، ولكن كل شيءٍ قد تغيَّر الآن، لن يكون "سنتياجو" في
الواحة، ولن يكون للواحة معناها نفسه الذي كان لها قبل وقتٍ قصير قبل أن تقابله،
لن تكون موْضع الخمسين ألف نخلةٍ والثلاثمائة بئرٍ الذي كان كعبةً للمُسافِرين
الذين كانوا يصلونها سُعداءً بعد رحلةٍ طويلة، منذ تلك اللحظة لن تكون الواحة
بالنسبة لها سوى مكانٍ فارغ، منذ تلك اللحظة ستُصبِح الصحراء أهم من الواحة، ستقضى
وقتها تُراقِب الصحراء وهي تسأل نفسها أي النجوم يهدي الشاب في طريقه إلى كَنزه،
وستُرسِل للشاب قُبلاتها مع الرياح آمِلةً أن تلمس وجهه وأن تقول له إنها ما زالت
تحيا وإنها ما زالت تنتظره كامرأةٍ تنتظر رجلاً شُجاعاً يشُق طريقه سعياً وراء
أحلامه وكنوزه، ومنذ ذلك اليوْم لن تكون الصـحـراء سـوى شيءٍ واحـد: هو الأمل في
عوْدته.
*****
ما إن امتطى كلٌ
منهما صهوة جواده و بدآ يتوغّلان فوْق رمال الصحراء حتى بادر الخيميائي حديثه إلى
"سنتياجو" بقوْله:
- لا تُفكِّر فيما تركته وراءك .. فكل
شيءٍ مُسجَّلٌ ومحفورٌ في روح العالم .. وسيظل هناك إلى الأبد.
فقال الشاب الذي
اعتاد من جديد على صمت الصحراء:
- إن الناس يحلمون بالعوْدة أكثر ممّا
يحلمون بالرحيل.
- إن كان ما وجدتَه مصوغاً من معدنٍ نقيٍ
فلن يبلى أبداً .. وستستطيع أن ترجع إليه يوْماً .. أمّا إن كان شهاباً من نورٍ
كاحتراق النجم فلن تجد شيئاً عندما تعود .. ولكنك ستكون قد رأيتَ نور شهاب .. وهذا
وحده يستحق عناء الحياة.
كان الرجل يتكلَّم
بلُغة الخيمياء ولكن رفيق دربه أدرك أنه يُلمِّح إلى "فاطمة"، فقد كان
من الصعب ألّا يُفكِّر فيما تركه وراءه، فالصحراء التي غالباً ما تتشابه مناظرها لم
تزَل تملؤه بالأحلام، رأى الشاب مرّةً أُخرى غابة النخيل والآبار ووجه الحبيبة،
كما رأى أيضاً الإنجليزي في مختبره وحادي الجمال الذي كان مُعلِّماً له دون أن
يدرك ذلك، وقال الشاب لنفسه:
- لعل الخيميائي لم يقع في الحب أبداً.
كان الخيميائي يسير
في المُقدِّمة والصقر على كتفه، وكان الصقر يعرف لُغة الصحراء تماماً، وعندما يتوقَّفان
كان يغادر كتف الخيميائي ويُحلِّق بحثاً عن الغذاء، وقد أحضر أرنباً في اليوْم
الأوّل وطائريْن في اليوْم الثاني.
وفي الليل كانا
يفرشان ملاءتيْهما على الأرض دون أن يوقِدا ناراً، كانت ليالي الصحراء باردةً
للغاية وكان ظلامها يشتد مع نقصان القمر في السماء، وظلّا على مدى أسبوعٍ كاملٍ
يتقدَّمان في صمت دون أن يتبادلا الأحاديث إلّا عن الاحتياطات التي باتت ضروريّةً
لتجنُّب الدخول في وسط المعارك التي كانت تدور بين العشائر، وأحياناً كانت الرياح
تنقل رائحة الدماء مُعلِنةً أن معركةً ما قد نشبت في الجوار، وذكَّرت الرياح الشاب
بلُغة العلامات التي تُريه ما لا يستطيع أن يراه.
وفي ليْلة اليوْم
السابع من الرحيل قرر الخيميائي أن يرتاحا في موْعدٍ مبكرٍ عن المعتاد، وانطلق
الصقر بحثاً عن الصيْد، وسحب الخيميائي قربة الماء وقدَّمها إلى الشاب قائلاً:
- ستصل عمّا قريبٍ إلى نهاية رحلتك ..
لقد سعيْتَ وراء أسطورتك الذاتيّة .. وأنا أُهنِّئك.
- ولكنك قُدتني دون أن تبوح لي بشيء ..
اعتقدت أنك ستُعلِّمني ما تعرفه .. فمنذ وقتٍ قريبٍ التقيْتُ في الصحراء برجلٍ
إنجليزيٍ يملك كُتُباً عن الخيمياء .. غير أني لم أتعلَّم شيئاً.
- لا توجد سوى طريقةٍ واحدةٍ للتعلُّم:
هي العمل .. كل ما كنتَ بحاجةٍ إلى معرفته علَّمتك الرحلة إيّاه .. ولم يبق سوى
شيءٍ واحد.
أراد الشاب أن يعـرف
مـا هو هذا الشيء، لكن الخيميائي ظل يحـدق مُترقِّباً عوْدة الصقر، حينئذٍ سأله
الشاب:
- لماذا يُسمّونك بالخيميائي؟
- لأنني كذلك.
- وما هي المُشكلة بالنسبة للخيميائيّين
الآخرين الذين بحثوا عن الذهب وفشلوا؟
- إنهم اكتفوا بالبحث عن الذهب .. بحثوا
عن كَنز أسطورتهم الذاتيّة دون أن يرغبوا في أن يعيشوا داخل الأسطورة ذاتها.
ألح الشاب:
- وإذن فما هو الشيء الذي ينقُصني أن
أعرفه؟
لكن الخيميائي
اسـتـمـر يحدق في الأُفُق، وبعد فترةٍ من الزمن رجع الصقر وفي براثنه صید، فحفرا حُفرةً
عميقةً في الأرض وأشعلا النار داخلها لكي لا يتمكَّن أحدٌ من رؤية اللهب، ثم قال
وهو يُعِد وجبتيْهما:
- أنا خيميائي لأني خيميائي .. تعلَّمتُ
هذا العلم من أسلافي الذين تعلَّموه من أسلافهم .. وهكذا منذ خُلِق العالَم .. وفي
ذلك الوقت كان من الممكن تدوين كل "العمل الكبير" على زُمُرُّدةٍ صغيرةٍ
ولكن الناس لم يولوا أهميّةً للأشياء الصغيرة وبدأوا يكتبون رسائل وشروحاً ودراساتٍ
فلسفية .. وبدأوا أيضاً يتظاهرون بأنهم يعرفون الطريق أفضل ممّا يعرفه الآخرون.
- وما الذي كان مُدوَّناً في جدول الزُمُرُّد
أو لوْح الزُمُرُّد؟
شرع الخيميائي يرسم
على الرمل، ولم يستغرق منه هذا العمل أكثر من خمس دقائق، وبينما كان مُستغرِقاً في
الرسم تذكَّر الشاب الملك العجوز والميْدان الذي قابله فيه، وبدا له أن ذلك حدث
منذ سنينٍ طوال، ثم قال الخيميائي:
- إليك ماكان مكتوباً في لوْح الزُمُرُّد.
اقترب الشاب وقرأ
الكلمات المُدوَّنة على الرمل، ثم قال وهو يشعر بخيْبة الأمل من جدول الزُمُرُّد
الذي لم يفهم منه شيء:
- لكن هذا رمزٌ يكاد يُشبِه ما هو مُدوَّنٌ
في كُتُب ذلك الخيميائي الإنجليزي.
- لا .. بل هو مثل تحليق الصقريْن: شيءٌ
لا يتسنّى فهمه بالعقل وحده .. جدول الزُمُرُّد بوابةٌ مُباشِرةٌ إلى روح العالَم ..
فهم الحكماء أن هذا العالَم ما هو إلّا صورةٌ وذكرى للجنّة .. مُجرَّد وجود هذا
العالَم هو ضمانٌ لوجود عالَمٍ أرقى منه .. خلق الله هذا العـالَم ليـتـسـنّى
للناس أن يفـهـمـوا أموره بواسطة المحسوسات المرئيّة ويُدرِكوا إرشاداته الروحيّة
وعجائب حكمته سبحانه .. وذلك هو ما أُسمّيه العمل.
- فهل يجب إذن أن أفهم جدول الزُمُرُّد؟
- ربما .. لوْ أنك كنت في مختبرٍ لكانت
الآن هي اللحظة المواتية لتدرس أفضل الطرق لفهم جدول الزُمُرُّد .. غير أنك الآن
في الصحراء .. فالأحرى إذن أن تستغرق في قلب الصحراء .. هي تساعد على فهم العالَم
مثلها مثل أي شيءٍ آخر على سطح الأرض .. بل إنك لستَ بحاجةٍ إلى أن تفهم الصحراء
.. يكفي أن تتأمَّل ذرّةً واحدةً من الرمل .. وستكتشف فيها كل عجائب الخلق وعظمة
الخالِق.
- وما الذي ينبغي أن أفعله كيما أستغرق
في صميم قلب الصحراء؟
- اصغَ إلى قلبك .. فهو يعرف كل شيءٍ
لأنه آتٍ من روح العالَم وسيرتد إليها ذات يوْم.
*****
تقدَّما في طريقهما
صامتيْن لمُدّة يوْميْن آخريْن، أفرط الخيميائي في الحرص والحذر لأنهـمـا كـان
يقتربان من أكثر مناطق المعارك ضراوة، وجاهد الشاب لكي يصغى إلى قلبه الذي كان
قلباً عصيّاً على الفهم، فقد كان من قبل مُستعدّاً للرحيل دائماً، والآن يُريد أن
يصل لمقصده بأي ثمن، وفي بعض اللحظات كان قلبه يحكي له قصصاً طويلةً مُفعَمةً
بالحنين، وفي أحيانٍ أُخـرى كـان يمتلئ بالشجن منذ بزوغ الشمس في الصحراء بحيث
يدفع الشاب إلى البُكاء خفية، وكان يخفق بسرعةٍ أكبر عندما يُحدِّثه عن الكَنز، ويُبطِئ
عندما تجول عيْنا الفتى في فضاء الصحراء اللا نهائي، لكنه لم يكن يصمت أبداً حتى
ولو لم يتبادل الشاب كلمةً واحدةً مع الخيميائي.
وفي تلك الليْلة - عندما
توقفا للاستراحة – دار بينهما حوارٌ بدأه "سنتياجو":
- لماذا يجب أن نُصغي إلى قلوبنا؟
- لأنه حيث يكون قلبك يكون كنزك.
- قلبي مُضطَّرب .. يرى أحـلامـاً ويقلق
.. وهو يعشق فـتـاةً من الصـحـراء .. يسألني عن أشياءٍ كثيرة .. ويحرمني من النوْم
ليالٍ بعد ليالٍ عندما أُفكِّر فيها.
- هذا حسن .. قلبك حي .. إذن فواصل
الإصغاء إلى ما يقول.
وعلى مدى الأيّام
الثلاثة التالية وعندما صادفا في طريقهما عديداً من المُحاربين ولمحا آخرين في الأُفُق
بدأ قلب الشاب يتحدَّث عن الخوْف، فروى حكاياتٍ استمع إليها من روح العالَم
وحكاياتٍ عن رجـالٍ رحلوا بحثاً عن كنوزهم فلـم يجـدوها أبداً، وأحيانا كان يُرعِبه
بفكرة أنه يُمكِن ألّا يصل قط إلى الكَنز، أو أنه يُمكِن أن يلقى حتفه في الصحراء،
بل وكان أحياناً يقول له إنه قد وجد الآن كفايته إذ صادف حُبّاً وربح قطعاً لا بأس
بها من الذهب.
قال الشاب للخيميائي
عندما توقَّفا ليُريحا حصانيْهما قليلاً:
- قلبی خائن .. هو لا يُريدني أن أستمر.
- هذا حـسـنٌ ويدل على أن قلبك صادقٌ ومنطقيٌ
معك .. من الطبيعي أن نشعُر بالخـوْف حين نستبدل بكل نجاحاتنا السابقة حُلماً.
- فلماذا إذن يجب أن أصغى إلى قلبي؟
- لأنك لن تنجح في إسكاته أبداً .. وحتى
لو تظاهرت بأنك لا تسمع ما يقـول فسيظل هُناك في صدرك ولن يكف عن تكرار ترديد ما
يعتقده عن الحياة والعالم.
- حتى ولو كان خائناً؟
- الخيانة هي الضربة التي لا تتوقَّعها
.. أما إن كنت تعرف قلبك جيّداً فإنه لن يُباغِتك أبداً على هذا النحو لأنك ستعرف
أحـلامـه ورغـبـاته وستعرف كيف تُراعيه .. لا يُمكِن لأحدٍ أن يهرب من قلبه ..
ولهذا فمن الأفضل أن تصغى إلى ما يقول حتى لا يحدث أن تتلقّى ضربةً لم تكُن تتوقّعها
أبداً.