سلالة الحمير .. آكلي الدساتير
في مقطع فيديو قديم
عام 2013 ظهر الحِــ... أقصد الحَـــاكم التونسي "قيس سعيد" وهو يتحدّث -
لإحدى القنوات المتلفزة - عن مخاوفه إبّان الأزمة الدستورية التي شهدتها البلاد
بسبب عدم توافق الفرقاء السياسيين على الدستور آنذاك عندما وصلت حالة الشد والجذب
منتهاها قبل أن يرضخ الجميع (بعد سنتين ونصف من المناقشات والخلافات) ويتفقوا على دستور 2014 الذي صادق عليه المجلس
الوطني التأسيسي التونسي في 26 يناير 2014.
ووقت هذا اللقاء التليفزيوني كان هذا "القيس
السعيد" مواطناً عادياً ولم يكن قد بغل (أقصد بلغ) كرسي الحكم بعد
ولذلك كان وقتها محبّاً للحريّة والديموقراطيّة كارهاً للديكتاتوريّة والانفراد
بالرأي لا سيّما وأنه أستاذٌ قديرٌ للقانون الدولي بكليّة حقوق "سوسة" ..
ولذلك عندما سأله المُحاوِر التليفزيوني عن رأيه في الوضع السياسي لـ"تونس"
تمطّى الرجل وبرطع في ذاكرته
قليلاً وتذكّر مشهداً شهيراً في مسرحيّةٍ سوريّةٍ قديمة لـ"دريد لحام"
و"ياسر العظمة" كانا يتندّران فيه على خروج الناس على القانون والدستور
متعلّلان بأنه لا وجود للدستور أصلاً لأن أحد الحمير قد أكل كتابه (أي كتاب
الدستور) .. وأعرب "القيس" عن خشيته على دستور "تونس" من أن
تأكله أتانٌ (أنثى الحمار) أو حِمارٌ من نفس سلالة حمار
"سوريا" (أقصد حمار المسرحيّة السوريّة وليس "بشّار الأسد") .. ورغم
صلته الوطيدة والطويلة بـ أسفار القوانين التي درسها ودرّسها وحملها
على ظهره طوال السنين السابقة إلّا أنه رفس (أقصد رفض) بشكلٍ قاطعٍ
ونهاقي (أقصد نهائي) أن يشارك في هذا اللغو السياسي لواضعي الدستور
المتناحرين ووجّه لهم نداءً هو أقرب للـ شي – حا – ذا (أقصد الشحاذة
أي التسوّل) كي يغلّبوا مصلحة وطنهم الحبيب "تونس" فوق مصلحة فصائلهم وأن
يقدّروا قيمة الوطن بالتِبر (الذهب) ولا يبيعوه بالتِبن الرخيص.
وبعد مرور ست سنوات على تصريحه هذا قام
بترشيح نفسه كمستقلٍ لرئاسة "تونس" ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقّع
وصوله إلى سُدَّة الحُكم خاصةً بعد أن جاء الرجل في ذيل قائمة المرشّحين في
أحد استطلاعات الرأي الأوّليّة قبل انعقاد جولة الانتخابات .. وعند إعلان نتيجة
الانتخابات في 2019 غرق مؤيدوه في حالةٍ من الوجوم والترقّب وكان الجميع هِس
هِس (أقصد هُس هُس) خوفاً من أن يكون مرشحهم ما نــ جـحش بسبب الشائعات والأقاويل
التي تردّدت حوله ونفوها جملةً وتفصيلاً حول وجود حصاوي عديدة في إحدى كليتيْه
ستعيقه عن القيام بمهام الرئاسة الشاقة خصوصاً وأنه لم يتم تفتيتها ولم تخرج من مسالكه
البوْليّة حتى بعد تناوله لكميّات كبيرة من شراب الشعير وعصير البرسيم
.. ولكن الرجل خالف ظن الجميع ونجح بنسبة ضئيلة 18.8% ليصير الرئيس الساقع (أقصد
السابع) للـ"جمهوريّة التونسيّة".
والآن وبعد سنتيْن من هذه الانتخابات الحرّة وبعد
أن استوى "السعيد" المحظوظ ابن المحظوظة على كرسي السُلطة ولانت له
مقاليد ولجام الرئاسة وخضعت له رؤوس الحُكم بدأت أعراض الديكتاتوريّة
تظهر عليه فأصبح صوْته خشناً عالياً (كمَن بلغ فجأة) أوّل الأمر ثم فقد حُمرة
الخجل والحياء بعد فترة ثم تطوّر الأمر فصار حاد الطباع سريع الغضب ثم أضحى لا يثق
إلّا بنفسه وبرأيه ثم أمسى يطرب لمَن يُنافقه ويبطش بمَن يعارضه وأخيراً بات يشعر
بعدم الأمان وبالتضوّر جوعاً باستمرار للدرجة التي جعلته يأكل ما حوله حتى لم يبقَ
ما يأكله سوى الدستور فقام بتجميد البرلمان (وليس حلّه احتراماً للدستور كما قال ولكن
بالأحرى تحايلاً عليه واستغلالاً لثغراته والتفافاً حول مواده) ورفع الحصانة
البرلمانيّة وأقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزيرة العدل وتولّى هو بنفسه السُلطة
التنفيذيّة في قراراتٍ ظاهرها إصلاحيّة للدولة وفي مضمونها انتكاسيّة لثوْرة
الحريّة والكرامة التونسيّة وفي قرارة أعماقها تغييبيّة للدستور المُتفَق عليه ..
وبهذا تكون "تونس" أوّل دوْلة خاضت الربيع العربي وآخر دولة عادت بالسلامة
مرّة أخرى للمربع صفر .. وكل ثورة وأنتم طيبون وعلى الربيع العربي السلام وبالناس
المسرّة.
كم من حاكمٍ عربيٍ أقسم باحترام الدستور أوّل حكمه ثم أكله (كلَّه أو بعضَه) عندما أُصيب بداء السُلطة وجنون العظمة ثم مضغ مواده وهضم قوانيته وأخرج لوائحه قبل أن يُخرِج لسانه لمواطني هذا الشعب الذين انقسموا – بفعل تلك القرارات غير المدروسة التي أيّدها بعضهم وعارضها بعضهم الآخر وأهملها بعضهم الأخير – إلى شراذمٍ مُمزَّقةٍ وفرقٍ متناحرة .. حقيقةً لا أستطيع أن أُحصي عدد هؤلاء الحكّام آكلي الدستور الذي يبدو أنهم انحدروا من سلالةٍ واحدة فالعدد ف الليمون مثلما هي العبارة ف الدوبارة والعمليّة ف النمليّة والفِلّة ف المنافِلّة والإزازة ف البزّازة .. فبالسم الهاري على بدنهم ما أكلوه .. وليس لنا – نحن الشعوب العربيّة – سوى الله القادر على أن ينتقم من كل جبّارٍ ظالمٍ أكّالٍ للسُحْت .. أو أن يختارنا لجواره لكي نستريح.