وفي يومٍ من الأيّام استيقظ الناس على خبر
وفاة الشيخ "عارف" الذي ذاع صيته في آخر أعوام عمره المنقضي؛ فحزن الناس
عليه وشيّعوه في جنازةٍ مهيبة إلى مثواه الأخير في مدفنٍ فاخر بأحد الأحواش
الكبيرة بمقابر الإمام "الشافعي"، وعاد "مصباح" للمنزل وهو
تَرِحٌ مهموم فقد أحس الآن فقط بمرارة اليُتم التي لم يحس بها لهذه الدرجة عندما
فقد أبويْه في حادثٍ أثناء عوْدتهما من زيارةٍ له العام المنصرم، ورغم أن حاله قد
تغيّر وأصبح من أغنى الأغنياء بعدما آلت إليه تِركة الشيْخ إلا أنه شعر بأنه
سيفتقد الشعور بحلاوة العمل فقد أدمن الاستخفاف بالناس واعتاد على أن يتاجر بهمومهم
ومطالبهم وأَلِف لجوء الناس - خاصةً المثقّفين والمتعلّمين منهم - إلى أساليب
الدجل والشعوذة، فقد كان هذا الشعور يغذّي لديه الثقة بالنفس ويُخْمِص إحساسه
بالنقص، فقرر أن يستمر في مشواره وأن يستكمل طريق الشيخ "عارف"، وتفتّقت
قريحته عن فكرةٍ خبيثة مستغلاً الشبه بيْنه وبيْن الشيْخ المتوفّى ومنتهزاً فرصة
أن أحداً من الناس لا يعرفه نظراً للتخفي المستمر الذي كان يتّبعه، ورسم خطةً
محكمة لتنفيذ هذه الفكرة فأرسل في طلب زملائه الذين كانوا يعاونون الشيخ ويعرفون
أسراره، وعندما حضروا انبرى لهم "مصباح" مخاطباً:
- أنا جايبكم النهار ده يا جماعة علشان نشوف
ح نعمل إيه بعد وفاة الشيخ "عارف".. طبعاً عرفتوا إن الشيخ - الله يكرمه
ويسامحه - فات لي البيت وقرشين كويّسين إكمّني كنت باخدمه ف آخر أيّامه.. يعني انا
مش محتاج لفلوس.. عندي اللي يكفّيني.. إنما انا ناعي همّكم انتم.. كل واحد عنده
بيت وعيال فاتحين بقّهم قد كده.. وبعد موت الشيخ ح تحتاسوا تشتغلوا إيه.. خصوصاً
إن ما فيش ف إيديكم صَنْعَة.. وما تعرفوش غير شُغل الهَمْبَكَة والأَوَنْطَة.. ولو
حبّينا نخلّي واحد مننا يشتغل مكان الشيخ ح نبدأ من أوّل وجديد وحِلّني بقى عقبال
ما الناس تعرفه وتبان له كرامات.. علشان كده لازم نستغل سُمعة الشيخ ونكمّل
طريقه.. أنا فكّرت ف فكرة جهنّميّة.. مش ح تخلّينا ما نخسرش الزباين بتوع الشيخ
وبس.. لأ دي كمان ح تزوّد أعداد الزباين عشر مرّات.. أنتم تدوروا ف الحي وع
الجوامع اللي حوالينا بعد صلاة الفجر بكره تنشروا إشاعة إن الشيخ المبروك
"عارف" جا لكل واحد فيكم ف المنام وأمركم إنكم تاخدوا أهل الحي وتروحوا
المدفن بتاعه وتطلّعوه من بطن القبر.. لإنه بعد ما دفنّاه استخدم قوّته الروحانيّة
وقُدراته الرهيبة وقدر يسخّر مَلَك الموت ويسيْطر عليه علشان يرجّع له الروح ف
جسده.. وإنه ما اكتفاش بكده وبس.. لأ ده كمان أخضعه لأوامره بإنه يعيده للحياة
مرّة تانية بس ف صورته وهوّ شاب.. وتجمّعوا أكبر عدد من الناس وتركبوا أوتوبيسات
مخصوصة ح ابقى مأجّرها لكم.. ح تستناكم قدّام الحسين وح تودّيكم على مدفن الشيخ..
وانا بقى قبل كده بساعة ح أكون متفق مع التُرَبي إنه يفتح لي القبر قُصاد قرشين
حلوين كده.. وح انزل القبر ومعايَّ كشّاف نور وقالع هدومي ولابس كفن زي بتاع
الشيخ.. واخلّيه يقفل عليَّ القبر.. ما تخافوش عليَّ.. أنا كنت صبي حانوتي زمان
وواخد على كده.. بس انتم ما تتأخّروش عليَّ.. بعد صلاة الفجر على طول تكونوا
عندي.. إتفقنا؟
وسارت الخطة على ما يرام وتجمّع أهل الحي
والأحياء المجاورة عقب صلاة الفجر بعد أن نقلتهم الحافلات إلى مدفن الشيخ
"عارف" وبدأ بعضهم في نبش القبر للتيقّن من الشائعة التي انتشرت كالنار
في الهشيم، وما إن انفتح شق صغير حتَّى انبلج بَصيصٌ من نورٍ مُبهِر ينبعِث من
داخل القبر فدبّت الرهبة في قلوب الناس وسارعوا بفتح القبر فازداد النور سطوعاً
وسط ظلام الليل الذي لم يكن نور الفجر قد أزاحه بعد، وترقَّب الناس ما سيحدث
ففوجئوا بشابٍ في كفنٍ أبيض يخرج من القبر في تؤدّةٍ وجلال وقد كانت قَسَمات وجهه
تشبه قَسَمات الشيْخ تماماً فيما عدا خلوّها من الشعر الأشيب والتجاعيد والنمش،
فانفجر المكان بصيْحات التهليل والتكبير، وحمل الناس الشيخ "عارف" الشاب
الذي هو "مصباح" فوق رؤوسهم وعادوا به للحي وطافوا به أرجاء الأحياء
المجاورة وسط زغاريد النسوة وابتهالات الرجال وصياح الأطفال.
ولم يكد يمر أسبوعٌ واحد إلا وقد عرف كل
الناس بهذا الحَدَث خاصةً بعد أن ظهر الشيخ "مصباح" أو "عارف
" يحكي قصّته للصحف والإذاعة والتلفاز مع مَلَك الموْت وهو في غياهب القبر،
مما زاد في صيته وسمعته وضاعف أعداد مريديه وسبّب رواجاً لعمله وعمَّ عليه وأعوانه
بالمال الوفير، ولم يتوانَ "مصباح العارف" عن استثمار هذه الطفرة فعمل
على زيادة أعوانه ومد حبال شباكه في كل مكان ووسّع مجال اتصالاته في الطبقة
الراقية؛ فأصبح من بين مريديه ومحبّيه رجال الأعمال ورجال الإعلام ورؤوس الأحزاب
وأصحاب المناصب الرفيعة والوزراء وبالطبع زوْجات كل هؤلاء اللاتي يَستطِعْن
التأثير على أزواجهن.
وترامت إلى مسامع وزير الداخليّة أنباء هذا
الشيخ الدجّال فساءه ما سمع وعقد النيّة على أن يوقِف هذه المهزلة، فقد كان رجلاً
صارماً يؤمن بالعِلْم والعُلَماء ويناصب الجهل والسَفَه أشد العداء وكان يرى أن
الدجل يؤدّي إلى تغييب العقل وتخلّف المجتمع، واغتنم الوزير فرصة اجتماعه مع
الرئيس وبعض الوزراء في إحدى المناسبات وفاتح الرئيس في أمر هذا المشعوذ وطلب منه
الإذن باعتقاله لحين تقديمه للعدالة؛ فرد عليه الرئيس بالرفض وتعلّل بأن ذلك سيزيد
من شعبيّته بيْن الناس كما أن الأشخاص الذين وُضِعوا تحت رهن الاعتقال قد تضاعفت
أعدادهم وأن المصلحة العامة تقتضي تقليص هذه الأعداد وليس زيادتها خصوصاً أن الشيخ
له أتباعٌ كُثُر لاينبغي استثارتهم، فكظم الوزير غيْظه ولكنه استطاع أن ينتزع من
الرئيس الموافقة على أمر الاعتقال إذا رأى الوزير أن الشيخ قد جاوز الخط الأحمر
الذي يجب ألا يتعدّاه أحد، وكان أحد الوزراء حاضراً أثناء هذه المناقشة فأفشى
تفاصيلها للشيْخ فقد كان أحد زبائنه ونصحه بأن يهدأ قليلاً في العمل وأن يُظْهِر
فروض الطاعة والولاء للنظام وحبذا لو تبرّع للحزب الحاكم بمبلغٍ ضخم ليصير أحد
منابع تمويل الحزب التي لا يجب المساس بها حتَّى لا يتضرر الحزب، وامتثل
"مصباح العارف" للنصيحة مما أبعده مؤقّتاً عن قبضة يد الوزير.
وبعد أسبوعيْن وفي مكتب وزير الداخليّة دخل
سكرتيره الخاص "مخلص" وهو يهرول بسرعة ليَمْثُل بين يديْ الوزير الذي
صاح فيه بمجرّد أن رآه :
- فين المَلَف السرّي بتاع جهاز أمن الدولة
يا أستاذ.
- أنهو مَلَف معاليك؟
- المَلَف اللي وصلني امبارح.. أنا كنت سايبه
هنا.
- ما اعرفش جنابك.. أنا كنت أجازة امبارح
علشان كنت عيّان.. ولمّا وضّبت مكتب سعادتك النهار ده الصُبح ما كانش فيه أي
ملفات.
- إزّاي الكلام ده؟.. يعني ح يكون راح فين؟
- يمكن مدير مكتب معاليك شاله ف حتّة.
- سألته قال لي ما حصلش.. وبعدين انا وهوّ
قَلَبْنا عليه المكتب كلُّه من فوقه لتحته.. وبرضه ما لاقيناهوش.. زي ما يكون فَص
ملح وداب.
- طب ما تكلّم جنابك اللِوا "شوقي"
رئيس الجهاز يبعت لسيادتك نسخة تانية عقبال ما نلاقي الملف براحتنا.
- أوْعوا تخلّوه يشم خبر باللي حصل.. ده
بالذات ما ح يصدّق يشمت فيَّ.. وممكن يبلّغ الريّس بحكاية اختفاء الملف.. ده
بيستنّي اليوم اللي اقع فيه علشان يبقى وزير مكاني.
- مش بعيد يكون هوّ اللي مسلّط حد يسرق الملف
ده.
- يسرق الملف؟.. ليه هو انا قاعد ف محطّة
مصر؟.. بقى فيه ملف سرّي بالخطورة دي يتسرق من مكتب وزير الداخليّة كده؟.. أقول
إيه للريّس؟.. ده مستنّيني ارفعهوله ومعاه التقرير بتاعي يوم السبت الجاي.. أقول
له إن حد من موّظفيني حرامي وانا زي الاطرش ف الزفّة.. واللهِ يا حَوَش لو ما طلع
الملف ده النهار ده لاكون حاطِطكم كلّكم ف السجن.. روح نادي لي بقية الموّظفين
حالاً.
- الحمد لله يا فندم.. أنا ما ليش دعوة.. أنا
كنت أجازة.. وبعدين معاليك عارف قد إيه أنا مخلص لحضرتك.. ومن أيّام ما كنت باخدم
مع جنابك ف مباحث الأموال ما صدرتش مني غلطة واحدة طول تلاتة وعشرين سنة.
- أنا عارف يا "مخلص".. يا ريت كل
الناس زيّك.. بس ربّنا يعدّي الموضوع ده على خير.
ولم يسفر الأمر عن أي جديد فلم يتم العثور
على الملف أو معرفة من الذي سرقه؛ مما دعا الوزير لأن يتخذ قراراً بنقل جميع من
يعمل في مكتبه إلى الصعيد فيما عدا "مخلص" الذي كان غيابه ذلك اليوْم
ذريعةً لنجاته من العقاب، وبقي من موعد الوزير مع الرئيس يوْمان ولم يطرأ جديد،
وجلس الوزير في مكتبه يسأل نفسه عن الفاعل فلم يحر جواباً وظل شارد الفكر متحيّر
البال حتَّى أنه لم يشعر "بمخلص" إلّا وهو يربّت على كتفه برفق ويسأله
وهو دامع العين :
- وبعدين يا معالي الوزير؟.. ح تفضل سرحان
كده لإمتى؟.. ده انا خبّطت ع الباب ودخلت وسيادتك ولا هنا؟.. إرحم نفسك شويّة وقوم
روّح وإن شاء الله ربّنا ح يحلّها من عنده.
- ح اتجن يا "مخلص".. مش عارف اعمل
إيه؟.. معقول تبقى دي نهاية خدمتي ف الوزارة.. أنا متأكّد إن الريّس لو عرف باللي
حصل ح يشيلني م الوزارة وتبقى فضيحتي بجلاجِل.. واللِوا "شوقي" ح تبقى
جات له ع الطبطاب.
- طب انا عندي فكرة تنقذنا م اللي احنا فيه..
بس خايف اقولها.
- لأ قول.. أنا مستعد ادفع كل اللي حيلتي
واروح آخر الدنيا علشان ألاقي الملف ده.. قول يا "مخلص".
- أنا باقول لو معاليك مثلاً مثلاً يعني تاخد
رأي الشيخ "عارف" ف الحكاية دي.. يمكن يعرف لنا مكان الملف.
- يا راجل اتنيّل على عينك.. أنا كنت فاكرك ح
تقول لي حاجة عِدْلَة.. مش ناقص كمان إلّا الدجّال ده علشان أخلّيه يحط إيده ف
مصاريني هوَّ راخر.
- واللهِ يا باشا يوضِع سِرُّه ف أضعف
خَلْقُه.. الراجل ده مبروك ممكن يفتح لنا المَنْدَل ويعرف لنا الملف فين.. سيادتك
فاكر مدير مصلحة الضرايب لمّا ابنه اتخطف وبلّغ البوليس.. حصل ايه؟.. قعد شهرين من
غير ما يوصل لأي حاجة.. إنما لمّا راح للشيخ "عارف" ما عدّاش أربع أيّام
إلا وكان الوله ف حُضْنُه.
- يا جاهل ما هو البوليس هوّ اللي جاب الولد
وقبض ع العصابة.
- أيوه صحيح.. ما هو الشيخ هوّ اللي نوّر
بصيرتهم.. ما هم قعدوا شهرين مش عارفين يعملوا حاجة.. إيش معنى لقوا الوله ف نفس
الأسبوع اللي الشيخ اتدخّل فيه ووسّط الجن ف الموضوع؟
- ربّنا يشفيك انت وأمثالك.. ما انتم اللي
عملتوا قيمة لواحد زي ده وطلّعتوه السما.. له حق والله يشتغلكوا ويعمل لكم من
البحر طحينة.
- طب انا بصراحة مجرّبه شخصياً.. بس ما قلتش
لسيادتك علشان عارفك ح تهزّأني.. أنا رحت له لمّا صيته انتشر وواحد صاحبي شار
عليَّ بيه.. علشان بنتي زي ما حضرتك عارف كانت وصلت تمانية وعشرين سنة من غير ما
تتجوّز.....
- من غير ما تتجوّز إزاي!.. أومّال مين اللي
انا حضرت فرحها السنة اللي فاتت؟
- ما هي اتقدّم لها المهندس اللي حضرتك شُفته
بعد ما الشيخ "عارف" عمل لها حجاب يخلّيها تبان زي القمر قدّام أي عريس.
- والله كل شيء قسمة ونصيب.. ثم إن تمانية
وعشرين سنة مش سن كبير.. يعني ما كانش فاتها قَطر الجواز لسّه.
- طب احنا ح نخسر حاجة؟.. ما نجرّب.. لو ما
عرفش يعمل حاجة ح اتحمّل انا تكاليف طلباته.. إنما لو جاب لنا الملف يبقى معاليك
تتحمّل حلاوته وحلاوتي انا كمان.
- مش حكاية فلوس.. بس انا ح اخسر إيماني
بالله.. واخسر عقلي كمان.. وح ابقى زي أي واحد جاهل بيلجأ له.
- فكّر يا باشا ف اللي ح يحصل لك لمّا تروح
للريّس من غير الملف.. إتنازل معاليك شويّة.. بلاش عناد.
- يعني انت فِكْرَك كده؟.. بس انا مش باعتقد
ف الحاجات دي.. خلاص.. ح اجرّب.. إتّصل بيه خلّيه يجيني البيت الليلة دي.. بَس ف
السِر.
- لا مؤاخذة يا باشا.. أنا اعرف إنه ما
بيروحش لحد.. لازم سيادتك اللي تروح له لحد عنده.
- كمان اروح له!.. لأ لأ.. ده انا كده ح
اتفضح وسط الناس.. إلغي الموضوع.
- ما هو احنا ح نروح له من غير ما حد يعرف..
وانا ح احدّد معاه ميعاد بحيث أوّل ما نروح ندخل له على طول من غير ما حد يشوفنا.
- واللهِ انا باستحقر نفسي إنى مطاوعك ع
الكلام الفارِغ ده.
- خلّي معاليك مع العبد لله وإن شاء الله مش
ح تندم أبداً.