ياما جاري ف المجاري (1)
حمل الأسطى
"محروس" حقيبة أدواته على كتفه واتجه بها إلى إحدى العمارات العتيقة
"بالدقّي"، وعندما مرّ بباب المبنى انعطف يميناً وهبط الدرج ليصبح أمام
الشقّة الواقعة أسفل السُلّم (البدروم) فطرق على بابها بحدّة بعد أن اكتشف أن
الجرس الكهربائي لا يعمل، وبعد هُنيْهة جاءه الرد بصوتٍ واهن :
- "حاضر.. أنا
جاي أهُه".
ثم ما لبث أن فتح
صاحب الصوْت الباب فنظر إليه "محروس" من قمّة رأسه إلى أخمص قدميْه فوجده
كهلاً نحيلاً أصلعاً على أعتاب الستّين ذا عيْنيْن تختبئان خلف نظّارةٍ سميكة تشغل
أغلب مساحة الوجه الشاحب الذي نبتت عليه بصيْلات شعرٍ زحفت فوق الذقن وما حولها
كيفما اتُفِق في توحّشٍ وعدم اتّساق، وكان الرجل يرتدي روباً مهترئاً قد أكل عليه
الدهر وشرب فوق سروال بيجامةٍ منحولةٍ باهتةٍ من فَرْط قِدَمها وينتعل بابوجاً (شبشباً)
بلاستيكيّاً رخيصاً في قدميْه، ودعاه الكهل للدخول فراعه ما رأى من هيْئة الدار ورقّة
حالها : أرضيّةٌ جرداء من أي بساط ذات بلاطٍ رديء.. أثاثٌ قليلٌ بسيطٌ قديم تناثر
بين الزوايا وقد انكسرت بعض أرجل قطعه فحل محلها أجزاءٌ من الطوب الأحمر في حين
توسّط هذا الأثاث مكتبٌ رثٌّ كبيرٌ مكتظٌ بالأوراق والمراجع.. مرتبةٌ بالية من
الأسفنج حلّت على البلاط كسريرٍ للنوْم عليها بطّانيةٌ نحيلة من الصوف الرمادي.. حقيبةُ
سفرٍ ذات جلدٍ أسودٍ مقشور تفترش الأرض بأحد الأركان وقد ضاقت بما فيها من ملابس وملاءات
فخرجت عن طوقها لتعلن على الملأ أن هذه الحقيبة يستخدمها صاحبها كدولابٍ بديلٍ عن
ذاك الذي ضجّ عن آخره بالكتب والمراجع والأسفار.. مذياعٌ قديم ذو سلكٍ قصيرٍ
متعرّج فوق منضدةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بالأوراق والكتب.. الحوائط خاليةٌ ممّا يزيّنها
من البراويز والصور فيما عدا فرْخيْن من ورق الجرائد القديمة الصفراء تخترقهما بعض
المسامير التي عُلِّقت عليها بعض القطع المعدودة من الثياب القديم.. ثريا صغيرة
فقدت نصف فصوصها وكل مصابيحها ولم تزل تتمسّك بكوْنها حاملةً لسلكٍ رفيع تتأرجح في
نهايته لمبةٌ ضئيلة ترسل نورها الشاحب على استحياء.
وبعد أن فرغ الأسطى
"محروس" من معاينة المكان سريعاً بعيْنيْه اللتيْن مسحتا المنزل في
ثوانٍ معدودة - ولم يفتهما الجزء الظاهر من غرفة المطبخ الصغيرة والتي كان أهم ما
فيها هو موْقِد (بوتاجاز) المصانع الحربيّة المسطّح (بدون فرن) ذو العيون الثلاثة
التي يجلس على أحداها برّادٌ للشاي وقد تلطّخ نصفه السفلي بالسناج الفاحم - بدأ في
تجاذب أطراف الحديث مع مضيفه :
- صباح الخير يا حاج.
- أهلاً يا اسطى.
- حضرتك تعرفني؟.. عرفت
منين إن انا اسطى؟
- باين م الأوفرول
اللي انت لابسه وشنطة العدّة اللي معاك.
- آه براوة عليك يا
حاج.. إفتكرتك تعرفني.. حاكِم الناس كلّها هنا ف الحي بتاعنا والمناطق اللي حواليه
عارفاني نار على علم.. محسوبك الاسطى "محروس" السبّاك.
- أهلاً وسهلاً.. وانا
"جلال".
- اتشرّفنا يا حاج..
باين عليك ساكن جديد هنا ف الحتّة.. أكمنّي ما شفتكش قبل كده ولا سمعت عنّك.
- لا ده انا بقى لي
هنا سنين.. بس اصلي مقتصر عن الناس ومتفرّغ لأبحاثي وكتبي.. بس عمرك ما سمعت عنّي
خالص؟.. أنا الدكتور "جلال حمدان".
- لا واللهِ ما
حصلّيش الشرف.. أنا اعرف بس الواد "رامز جلال" الممثّل أبو دم خفيف ده
بتاع المقالب.. هع هع.. بس انت ابن حلال.. عايزك بقى توصِف لي دوا علشان عندي
حرقان جامد ف حوض الميّه بلا مؤاخذة.
- لأ.. أنا مش دكتور
ف الطب.. أنا واخد دكتوراه ف الجغرافيا.
- آآه.. مصوّراتي
يعني.
- يا سيدي باقول لك
الجغرافيا مش الفوتوغرافيا.
- طيّب طيّب.. خلّينا
ف المهم.. أنا باعتني الحاج "الأسيوطي" صاحب العمارة علشان اشوف الميّه
اللي بتنشع ف الدور اللي فوقك جايّة منين واعمل اللازم.
- وهيَّ الميّه اللي
بتنشع فوق تبقى جايّة من تحت برضه يا معلِّم!
- معلوم.. ممكن قوي
تبقى فيه حاجة عندك عاملة سدد ف مواسير الصرف وتعمل راجِع لفوق تقوم الميّه تنشع
فوق.
- يا سلام!
- أومّال يا افندي..
أي حاجة ممكن تحصل ف المجاري لا مؤاخذة.. انت ما سمعتش "عماد حمدي" ف
فيلم "ترترة فوق النيل".. مش كان بيقول : ياما جاري ف الدنيا يا ما جاري..
هع هع هع.
- "عماد
حمدي" قال كده؟
- آه والنعمة.. باين
عليك مش مثقّف.. عكسي خالص.. أصل انا ولا فخر مطّلع على كل الأفلام والمسلسلات والمسرحيّات..
تقدر تقول عليّ كده : موْسوعة متنقّلة.
- ما شاء الله.. طب
اتفضّل شوف الحمّام.
- لأ.. أنا ح اشوف
صرف الميّه الحلوة الأوّل بتاعة المطبخ.. وبعدين أتمّم على صرف الحمّام بتاع الحوض
وبتاع الغائط.. يعني الكبانيه لا مؤاخذة.. بالإذن بقى.
- إعمل اللي انت
عاوزه.. البيت بيتك.. ح اروح اعمل لك كوبّاية شاي.
- أيوه كده.. الله
يكرمك.. علشان نتمزّج واحنا بنشتغل والشغل يطلع ميّة ميّة.. أصل الجماعة اللي
ساكنين فوقك دول أجانب ولازماً كل حاجة تبقى ع الشعرة.
- طب ولو مصريّين
زيّنا.. الشغل يطلع بايظ؟
- مش مهم.. إحنا ستر
وغطا على بعض.. وبعدين الناس دول إيدهم فِرطة وبيقدّروا كويّس.. مش زيّنا.. إيحة ولا
مؤاخذة.
- ولا مؤاخذة ليه.. الله
يكرم أصلك يا معلِّم.