الفصل التاسع (3) | نهاية العالم
وبعد أن أدّى "باسم" صلاة الجمعة
بصعوبة نظراً لتكالب الناس على الصلاة وندرة الأماكن الشاغرة من المصلّين الذين
ملأوا المساجد وما حولها من طرقات لسماع الخطبة الموحّدة من شيخ الأزهر التي تمّ
بثّها عبر موْجات الإذاعة؛ أخذ "باسم" طريقه للمنزل وهو يرفع رأسه بين
الفينة والأخرى نحو السماء ليستطلع المذنّب "المبيد" الذي أصبح يلوح
جليّاً في النهار أيْضاً بل كاد نوره أن يغلب نور الشمس، وعندما دلف لمنزله وجد
زوْجته "أسماء" تنتظره بلهفةٍ وترافقه إلى غرفة نوْمهما لتساعده في
تبديل ملابسه وتتجاذب معه أطراف الحديث:
- حمد الله ع السلامة يا "باسم".
- الله يسلّمك.. اللي يسمعك يفتكرني جاي م
السفر.
- أصلي فرحانة برجوعك من صلاة الجمعة.. أوّل
مرّة تصلّيها.. صح؟
- لأ كنت باصلّيها زمان وانا صغيّر مع ابويا
الله يرحمه.. بس تعرفي.. الصلاة بتخلّي الواحد مستريّح نفسيّاً وبتشيل الكرب اللي
جوّاه.. زي ما تكون كده بتغسل الروح من أوّل وجديد.. خسارة إنّي ما كنتش باصلّي من
زمان.. ربّنا يسامحني بقى.
- أومّال.. مش الرسول عليه الصلاة والسلام
كان بيقول لسيّدنا "بلال" أرِحنا بالصلاة.. دي بتدّي البني آدم منّنا
إحساس بالسكينة والرضا عن النفس والقرب من ربّنا.. ده انا قريت مرّة إن فيه مادّة
اسمها "دوبامين" بيسمّوها هرمون السعادة بيزيد إفرازها م المخ لمّا نيجي
نصلّي.
- ربّنا بس يتقبّل و...
- لأ بلاش البيجامة دي.. خد دي لسّه جايباها
من ع الحبل.
- ربّنا بس يتقبّل ويتوب علينا.. أنا ح انام
لي شويّة أحسن ما نمتش كويّس بالليل.. الحمد لله فضلت سهران لغاية ما ختمت القرآن كلّه.
- لا والنبي ما تنام وانت على لحم بطنك.. ده
انت ما فطرتش كمان.. أنا خلّصت الغدا.. إتغدّى ونام.. ده انا عاملة لك ملوخيّة وبامية
وبسلّة ورز ومكرونة وفراخ ولحمة وكفتة وحاجات كتير.
- إيه ده كلّه.. مين ح ياكل ده كلّه؟
- يا خويا كُل بالهنا والشفا انت والعيال..
أنا طلّعت كل الأكل اللي كنت شايلاه ف الديب فريزر.. إنت ناسي إن دي آخر غدوة لينا.
- عندِك حق ح نسيب الأكل لمين.. بس ما تنسيش
تدّي البواب شويّة حاجات م اللي عملاهم.
- وحياتك عملت كده من غير ما تقول.. ده انا
حتّى كنت بابعت له هوّ وعياله اللي فيه النصيب كل يوم من وراك.. باخاف أحسن تزعّق
لي إكمنّه ما بينزلكش من زور.
- ربّنا يكرمِك.. أهم غلابة برضه.. بس انا
كمان عايز اعترف لك بحاجات كتير.. أنا غلطت ف حقّك ياما.. وعايز أخلّص ضميري.
- وانا مش عايزة اسمع حاجة.. إنت ح تعمل زي
عيالك.. جايّين يعترفوا لي بالحاجات الغلط اللي عملوها زمان.. خرّوا لي بكل حاجة وعرفت
مين اللي كان بيرمي سندوتشاته ف المدرسة ومين اللي كان بيزوّغ منها علشان يلعب ومين
اللي كَب كوبّاية اللبن ع التليفزيون وبوّظه ومين اللي كسر شفشق الخلّاط وغيره وغيره..
عموماً أنا مسامحاك على أي حاجة من غير ما اعرفها.. إذا كان ربّنا بيسامح يبقى
احنا يا بشر مش ح نسامح.
- ربّنا يخلّيكي ليّ.. قصدي ربّنا يحسن
ختامنا.
- يا رب.. أنا لو ما كنتش مؤمنة وراضية باللي
قسمه لينا ربّنا كنت زماني انهرت.. اللي مصبّرني بس إن أملي ف ربّنا كبير إنه
يجمعنا عنده مع بعض على خير.. بس يا ترى لمّا ربّنا يبعثنا من الموت ح يبعثني زي
ما انا كده؟
- بيقولوا إن ربّنا بيبعث البني آدم وهوّ شاب.
- لأ مش قصدي ع السِن.. قصدي ع الحمل.. يعني
ف الآخرة ح افضل حامل برضه ولّا ح اوْلِد واشوف ابني أو بنتي اللي ح يموت معايا وهوّ
ف بطني؟
- اللهُ أعلم.. راخر العيّل ده جاي ف وقت
غريب.
- كل شئ وله أوان.. ياللا بينا ع السفرة.
وتجمّع أفراد الأسرة لآخر مرّة معاً حول
المائدة وقضوا وقتاً طويلاً في الأكل والمزاح والمداعبة واستدعاء الذكريات القديمة
وكأنّهم يريدون أن يشبعوا من بعضهم البعض قبل أن تحل خاتمتهم.
وفي مساء وليل هذا اليوم لم ينم أحدٌ بل
وصلوا النهار بالليْل فقد انقطع الجميع للعبادة والدعاء وانقضى الوقت سريعاً فلم
يكفِ الناس لإتمام ما يريدون مَثَلهم في هذا كمَثَل الطالب المتخاذل المتقاعس الذي
يتكاسل في أداء واجبه طوال العام ولا يستفيق لنفسه إلّا قبل ميقات الامتحان بقليل
فيمضي به الوقت متسارعاً لا يكفيه لإنهاء دروسه فيتمنّى لو تأخّر الموْعد النهائي
ولوْ قليلاً.
أمّا المذنّب "المبيد" فلم يمهل أحداً؛ بل استمرّ في شَقّ طريقه بنفس السرعة تجاه كوْكب الأرض فكان كلّما ازداد حجمه واشتدّ نوره رويْداً رويْداً كلّما كبر روْع الناس وعظم جزعهم من وقوع يوْم الحشر الفاصل والمآب الرافع لله تعالى التوّاب المنتقم العَفُوّ المحيي المميت الذي سيكلّم الناس يوم التلاقي فيُظِل مَن يجدُر مِن الطائِعين بظلّه ويعذّب مَن يستحق مِن العاصين بسطوته، سبحانه لا إله إلّا هو له المُلْك وله الحَمْد وهو على كل شئٍ قدير.