"أرواحٌ بلا قبور" | معسكر الآلام (3)
وكان
"باسم" يستمع إلى هذا الحديث وهو في غاية الاندهاش محاولاً أن يتدخّل
بين هذيْن الشخصيْن فلم يسمعاه حتّى انقطع الخط فأغلق تليفونه وهو يرتجف، وتكرّرت
نفس هذه المكالمة مع أصدقائه الثلاثة الآخرين ولكن بحواراتٍ مختلفة فأغلق الجميع
هواتفه وجمدوا في أماكنهم مرعوبين - دون كلام - وقتاً طويلاً، وبقوا على هذه الحال
دون أن يجدّ جديد حتّى تكلّم "محمّد" فتبرّع بالبقاء مستيْقظاً ليحرس
أصدقاءه الذين نصحهم بالنوْم حتّى تبزغ الشمس فيعودون أدراجهم، وحاول الأصدقاء
النوْم دون فائدة فقد أثيرت أعصابهم في تلك الليْلة الرهيبة ولكن فجأة غلب الجميع
النعاس بما فيهم "محمّد" فراحوا في نوْمٍ سحيق دون أن يشعروا.
{{{ رأى الأصدقاء شخصاً
يرتدي الملابس العسكريّة وهو يعدو مترنّحاً من وراء إحدى الأكمات الرمليّة حتّى
تداعى واقعاً تحت تلك النخلة الوحيدة فخرجوا مسرعين من السيّارة ليستطلعوا ما به
فوجدوه ضابطاً برتبة نقيب ينزف دماً من جرحٍ في صدره وبرغم ذلك تنبعث منه رائحةً
زكـيّة كأنّها المِسْك فأقعده "عبد الرحمن" وسند ظهره وأسرع "مازن"
فأحضر له زجاجةً من المياه وسقاه شربة ماءٍ فبدأ النقيب يتكلّم بصعوبة وقد بدا
عليْه أنّه في الرمق الأخير ؛ فأفضى للأصدقاء الأربعة بأنّه هاربٌ من معسكرٍ
إسرائيلي لتعذيب الأسرى المصريّين الذين وقعوا في براثن القوّات الإسرائيليّة الذين
يسومونهم شتّى صنوف العذاب من اقتلاعٍ للأظافر وقطعٍ للأصابع وحرقٍ وسلخٍ وجَلْدٍ
ودفنٍ للأسرى حتّى رؤوسهم أحياءٌ في الرمال ومنع الماء والطعام عنهم وإبقائهم متيقّظين
في الزنازين وسكب الماء البارد على من ينام منهم وحقنهم بسوائل الهلوسة لينهاروا
عصبيّاً ويعترفوا بالأسرار العسكرية التي يعرفونها، وعندما أراد "عبد
الرحمن" الاستفسار منه أكثر عن حقيقة ما يقول - لأن كلامه غريب فقد انتهت
الحروب بين "مصر" و"إسرائيل" منذ عقودٍ طويلة - أشار له
النقيب بالسكوت وعدم مقاطعته لأنه يشعر بدنو أجَله وأنّه في النزع الأخير ويريد أن
يفصح لهم عن مكان هذا المعسكر لينقذوا زملاءه الضبّاط والعساكر ويحرّروهم من قبضة
الأسر ويخلّصوهم ممّا هم فيه من تنكيلٍ وتمثيل، وبدأت أنفاس النقيب في التسارع
فقال لهم بصوتٍ ضعيفٍ خائرٍ متحشرج أن الأسرى المصريّين محتجزون بمبنى من الحديد
الأسود عند الكيلو أربعين على طريق "شرم الشيخ - دهب" بجوار صهريجٍ ضخمٍ
للمياه ثم لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن شهق شهقةً طويلة أعقبها صوت غرغرةٍ حاد }}}.
واستيْقظ الأصدقاء
الأربعة معاً في لحظةٍ واحدة على صوْت غرغرة ورغاء جملٍ من تلك الأبل التي تهيم
وحدها في الصحراء وقد كانت رأس الجمل ملاصقةً تماماً للسيّارة فصدر الصوْت فجأة
حادّاً عالياً ممّا سبّب صحوهم سويّاً عند انبلاج النهار، وبعد مناقشاتٍ ومجادلاتٍ
فيما بيْنهم اكتشف الأصدقاء أنّهم قد انتابتهم جميعاً إغفاءةٌ طويلة بدأت وانتهت
في وقتٍ واحد بعد تلك الليْلة العصيبة الذاخرة بالأشباح والظواهر الغريبة ولكنّ
العجيب أنّهم حلموا حلماً واحداً ورأوا رؤيا مشتركة فلم تكن رؤية ذاك النقيب إلّا
أضغاث حلمٍ شاع بيْنهم بجميع تفاصيله وأجزائه، ولم يستطع أحدٌ منهم أن يفسّر ذلك
الأمر المريب فلم يحدث من قبل أن رأى أربعة أشخاصٍ مناماً واحداً وظلّوا يتذكّرون
أحداثه بهذا القدر الكبير ولكنّهم اتفقوا جميعاً على استجلاء الأمر والكشف عن سرّه
فخرجوا من السيّارة ليجمعوا أغراضهم ففوجئوا ببقعٍ من الدماء الطريّة أسفل النخلة
حيث كانوا يلتفّون حول النقيب في حلمهم المشترك فزادهم ذلك الأمر تصميماً فوق
تصميمهم على سبر أغوار هذا اللغز واستقلّوا السيّارة ووصلوا للكيلو الأربعين وتلفّتوا
حوْلهم فلم يعثروا على المبنى الحديدي أو يلمحوا الصهريج الضخم فأوْغلوا يمين
الطريق ويساره فلم تقع أعينهم على شيء فعرفوا أن ما رأوه كانت تخاريف أحلامٍ صادرةً
عن عقولٍ مضطربة إثر ما عاشوه من أحداثٍ خارقةٍ للمنطق والمألوف تلك الليْلة
الليْلاء، ولكنهم قبل أن يغادروا تلك المنطقة لمح "مازن" أطلالاً سوْداء
من بعيد فيمّموا شطرها فإذا هي أطلالٌ حديديّة من صلبٍ متآكلٍ صدئ لذلك المبنى
المزعوم وبجواره صهريجاً كبيراً تهدّمت العواميد الرأسيّة التي كان تحمله فوقع على
جانبه فوق الرمال التي غطّت جزءاً كبيراً منه فلم يظهر لهم أوّل الأمر، وطاف
الأصدقاء أنحاء المكان فلم يجدوا شيْئاً غير مألوف ثمّ توغّل "باسم" خلف
الأطلال الحديديّة غير عابئٍ بتحذير أصدقائه باحتمال وجود ألغام فقد كان أكثرهم
شجاعةً وتهوّراً في ذات الوقت فلمح جسماً معدنيّاً لامعاً يرسل انعكاساً لنور
الشمس فهرول إلى هناك بعد أن نادى أصحابه فوجدها سلسلةً معدنيّة يظهر جزءٌ منها فوق
الرمال ويختفي الباقي تحتها فنبش الرمال ليتابع منبع هذه السلسلة وينتشلها ففوجئ
بأن حلقات السلسلة تلتف حول فقرات عمود فقري لرقبة شخصٍ ميّت وبالحفر أكثر عمقاً عثر
على جمجمة متّصلة بالفقرات واتّضح أن السلسلة بها لوْحةٌ معدنيّةٌ رقيقة عليْها تفاصيل
صاحبها من رتبة واسم ورقم عسكري وفصيلة الدم، فاكتفوا بما وصلوا إليْه وأبلغوا
السلطات المختصّة عن طريق الهاتف وحدّدوا لها موْقعهم فحضرت سيّارات الشرطة والجيْش
وأحاطوا بالموْقع من كل جانب واستهلّوا التحقيقات بسماع وتدوين شهادة الأصدقاء
الأربعة ثم صرفوهم فسافروا إلى منازلهم وهم لا يفكّرون أو يتكلّمون إلّا في تلك
المغامرة المثيرة والأحداث المرعبة التي مرّوا بها وما انفكّوا يروونها لذويهم وزملائهم
الذين انقسموا بيْن مصدِّقٍ ومكذِّب.
وبعد أسابيع تكشّفت
الحقائق بعد أن عثرت القوّات المسلّحة على مقبرةٍ جماعيّة تضم رفات أكثر من خمسةٍ
وأربعون شهيداً تم التعرّف على أغلبهم عن طريق تلك القلادة العسكريّة التي يرتديها
الجندي أو الضابط حوْل رقبته أو القلادة الأخرى التي على الحزام المحيط بخصره والتي
تحمل البطاقة المعدنيّة الحاوية لبياناته، وتبيّن أن ذلك الموْقع كان يستخدم
كمعسكرٍ إسرائيلي لتعذيب الأسرى المصريّين وقتلهم إبّان نكسة يونيو 1967 وكان
يسمّى "ماخال هاه ميخوش" أي "معسكر الآلام" وقد تمّت فيه
جرائم حربٍ عديدة تم توثيقها وتحريز أدلّتها بفضل الأصدقاء الأربعة وذلك تمهيداً
لإرسالها إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة المختصّة بالتحقيق في جرائم الحرب والجرائم
ضد الإنسانيّة وجرائم الإبادة الجماعيّة.
ووصل لكل واحدٍ من
الأصدقاء الأربعة خطاب شكرٍ من القوّات المسلّحة على ما قدّموه من عملٍ جليل من
أجل الوطن ومن أجل الشهداء الذين جُمِعَت رفاتهم وتم دفنها في مقابر أسرهم بعد عمل
المراسم الاحتفاليّة الواجبة لهم، وتم تحديد موعدٍ لهم لمقابلة السيّد اللواء مدير
إدارة الشؤون المعنويّة بالقوّات المسلّحة المصريّة الباسلة لتسليمهم الميداليات والدروع
وشهادات التقدير التي تخلّد عملهم البطولي، وقد أصر سيادة اللواء على مقابلتهم
بنفسه نظراً لإحساسه شخصيّاً بقيمة ما فعلوه حيث كان والد سيادته ضابطاً سابقاً وشهيداً
من أبطال الجيّش.
وفي الموعد المنتظر دخل الأصدقاء الأربعة مكتب سيادة اللواء وقد ارتدوا أبهى حللهم وعندما وقع نظرهم عليْه ذُهِلوا من وقع المفاجأة التي عقدت ألسنتهم وأخذوا يحملقون في اللواء فاغرين أفواههم غير مصدّقين فقد كان اللواء صورة طبق الأصل من ذلك الضابط النقيب الذي استنجد بهم في حلمهم المشترك.