الفصل الثاني | سفاح كرموز (1)
نزح "سعد" إلى
"الأسكندرية" في منتصف عام 1946 حيث استأجر منزلاً ليعيش فيه ومخزناً
(شونة) صغيراً مجاوراً على قنال ترعة "المحموديّة" بمنطقة "راغب
باشا" بحي "كرموز" مستغلّاً بذلك الأموال التي سرقها من
"لواحظ"، وبدأ في ممارسة التجارة التي خبرها وفهم خباياها ألا وهي تجارة
الغزل والنسيج فكان يشتري كميّةً كبيرةً من البضاعة بالجُملة ويخزّنها في الشونة
ويبيعها بالقطّاعي لتجّار التجزئة ويربح هو من فرق أسعار الشراء ثمّ البيع.
ومضى به الحال هكذا شهوراً قليلة ولكنه لم
يربح كثيراً لقلّة خبرته وعدم مثابرته على العمل الدؤوب فتراتٍ طويلة ولأنه أيضاً
كان يبيع بسعرٍ أقل ممّا اشترى به لبعض الزبائن المهمّين؛ ولم يكن هؤلاء سوى بعض
الدلّالات والتاجرات والخيّاطات اللاتي أراد أن يجذبهن للتعامل معه من أجل إرضائهن
لإقامة العلاقات الغراميّة معه والتي كانت تجري داخل الشونة : وكر الغراميات
الجديد حيث لا يرتاب أحدٌ فيما يحدث، وطفق على تنفيذ ما تعلّمه من
"لواحظ" من مبدأ يفيد بأن لأيّ سيّدةٍ أو فتاة ثمناً معلوماً مقابل تخلّيها
عن شرفها ومسايرته فيما يريد، وللحق فقد كانت تنجح أغلب مساعيه ومعظم محاولاته تحت
سطوة جمال خِلقته التي جَبَله الله عليها وتحت تأثير ما يغدق به على ضحاياه من
مالٍ أو عطايا فاستقر في وجدانه ذلك المبدأ الذي آمن به وتأصّل فيه الشعور بازدراء
هذا الجنس الناعم كلّه الذي لا يستحق – من وجهة نظره - سوى الاحتقار والامتهان.
وأثمر ذلك السلوك الدَنِس الذى نهجه في طريقه
الأعوج إلى توالي الخسائر واطراد الديون عليه فأخذ يفكّر في الحل الذي يُخرِجه من
مأزقه سريعاً فتقافز إلى ذهنه ذلك الحل السحري الذي سلكه من قبل ولم يكلّفه شيئاً
سوي ثلاثون جنيهاً فقط وذلك عندما قتل "لواحظ" واستولى على ما معها من
نقود فعزم على تنفيذ خطّته السابقة التي أثبتت منتهى النجوع والفاعليّة.
كانت "منيرة" هي النموذج القياسي
الذي فكّر "سعد" في أن يكرّر تجربته معها ويستنسخها بتجربة
"لواحظ"؛ فهما متشابهتان في نفس الظروف والملابسات إلى حدٍ كبير؛ فقد
كانت "منيرة" أيضاً سيّدةً ثريّة بيْد أنها كانت تقل كثيراً عن
"لواحظ" في الحُسن وتزيد عنها قليلاً في العُمر، وكانت
"منيرة" أيضاً أرملةً لتاجر أقمشة في حي "المنشيّة" كما كانت
زبونةً من عملائه عكفت على الشراء منه كثيراً وأبدت اهتمامها به بل وإعجابها أيضاً
مثلماً لمّحت دون تصريح، كما عرضت عليه مشاركته في تجارته أكثر من مرّة ولكنه كان
يتهرّب منها في كل مرّة فقد سئم من هؤلاء النسوة المتصابيات بعد أن جرّب الفتيات
الصغيرات وخَبَر السيّدات الشابّات؛ غير أنه هذه المرّة كان على استعدادٍ كبير
للتقرّب من الشيطان ذاته في سبيل انتشاله من عثرته الماليّة وإنقاذه من كبوته
التجاريّة.
ولم يتوانَ "سعد" عن الذهاب
"لمنيرة" في محل عملها "بالمنشيّة" وقد رسم في عقله مخطّطاً
دقيقاً شرع في تنفيذه، فعندما دخل حانوت الأقمشة الذي تمتلكه وجدها تجلس في صدره وقد
أمسكت في يدها بخرطوم نرجيلة ينتهي عند مبسمها الذي يتناوب مع فتحتيْ أنفها في نفث
الدخان الكثيف الذي أخذ في التصاعد فوقها راسماً أشكالاً متغيّرةً في الهواء،
وعندما شاهدته لأوّل وهلة انفرجت أساريرها وصاحت في سعادة :
- يا أهلاً وسهلاً بالمعلّم "سعد"
.. وانا بنقول "المنشيّة" نوّرت فجأة كده ليه!
- منوّرة بيكي يا معلّمة "منيرة"
.. سلامات.
- طيّبون يا بلدينا .. هي هي هي .. على فكرة
أنا لبلبة ف الكلام الصعيدي.
- لا .. خلّينا ف الاسكندراني احسن .. هوَّ
فيه احسن م الاسكندراني يا .. يا اسكندراني انت.
- هي هي .. كُلّك نظر يا معلّم .. تشرب إيه؟
- ما فيش داعي .. أنا كنت جاي لِك ف كلمتين.
- لا والنبي .. واللي نبّى النبي نبي لانت
شارب حاجة.
- خلاص .. خلّيها شاي بحليب.
- واد يا "سماعين" .. جري ع القهوة
جيب للمعلّم واحد شاي ميزة .. قوام ياد .. أأمرني يا معلّم.
- أصلي فكّرت ف الكلام اللي قلتيهولي من كام
أسبوع كده.
- كلام إيه ولا مؤاخذة؟
- مش كنتي عايزة تشاركيني؟
- ده احنا نتشرّفوا يا معلّم.
- خلاص ح استنّاكي الليلة دي ف الشونة بتاعتي
بعد ما تقفلي الدكّانة .. وهناك نبقى نكمّل كلامنا ونتفق على كل حاجة.
- طب ما احنا فيها أهو.
- لأ .. هنا مش ح ينفع .. العمّال والزباين
رايحين جايين .. ربنا يزيد .. أنا عايز اتكلّم معاكي براحتنا .. وبصراحة كده فيه
كلام كتير حايشه ف قلبي من زمان وعايز افضفض لِك بيه.
- يوه .. يا دي الكسوف .. حاضر يا معلّم ..
عيوني علشانك .. ح نشطّب وناخدوا حنطور ونجي لك على عيني.
- تسلم عيونك يا قمر انت .. ياللا .. أفوتِك
بعافية.
- ودي تيجي! .. نخسر ديني ما تمشي غير لمّا
تاخد واجبك الأوّل .. دي خطوة عزيزة يا اخويا.
- يعز مقدارِك يا "منيرة" .. خلاص
.. ح اقعد .. واهي فرصة برضه املّي عيني من جمالِك.
- بس يا راجل .. حد يسمعك .. يا اختي .. باين
عليك شقي.
- هوَّ انتي لسّه شفتي حاجة .. ده انتي ح
تشوفي الشقاوة كلّها الليلة دي .. بس باقول لِك إيه .. أوعي تقولي لحد إنك جاية لي
.. عايزين نداري على شمعتنا .. وبعدين فيه حاجات تانية ح ابقى اقول لِك عليها لمّا
اشوفِك.
وردّت عليه "منيرة" بضحكةٍ مجلجلةٍ
مدويّة تنم عن الدلال والدلع بعد أن فهمت مغزى ما يرمي إليه الرجل الذي بدا عليه
أنه وقع في غرامها وأصبح أسير جمالها المزعوم.