(16) وحيداً مع الملكة
قالت "هي":
-
ها قد ذهب ذلك الشيْخ
الأحمق ذو اللحية البيضاء .. آه .. ما أقل محصول الإنسان من المعرفة .. إنه يجمعها
كالماء .. ولكنها كالماء أيضاً تتسرَّب من بين أصابعه .. ومع ذلك إذا ابتلَّت يداه
كما تبتل بالندى يصيح الجُهلاء قائلين: "انظروا، إنه رجلٌ حكيم" .. أليس
كذلك يا .... ماذا يسمّونك؟ .. لقد دعاك بالبابون (ثم ضحكت) .. ولكن بماذا يدعونك
في بلادك أيهـا الغريب؟
-
يدعونني باسم "هولي"
أيتها الملكة.
فنطقت الكلمة بشيءٍ من الصعوبة ولكن بلهجـةٍ
رقيقةٍ جذّابة، ثم سألت:
-
وما معنى "هولي"؟
-
هو اسم شجرةٌ شائكة.
-
لقد وُفِّقوا في
اختيار هذا الاسم إذن .. فهـو ينطبق عليك تمام الانطباق .. ولكن إذا صدق ظنّي فأنت
أمينٌ يُمكِن الاعتماد عليك .. تعال يا "هولي" واجلِس إلى جانبي .. ولكن
لا تزحف على بطنك كما يفعل أولئك العبيد .. فقد سئمت نفسي عبادتهم .. ولطالما قضيْتُ
على الكثيرين منهم لمجرد التسلية.
وأزاحتْ "هي" السِتار بيدها
البيضاء فدخلتُ الغُرفة ورُكبتاي ترتجفان - ولا عجب - فقد كان لهذه المرأة من قوّة
التأثير والتسلُّط بحيث تبعث الرعب إلى أشد القلوب ثباتاً.
وكانت الغرفة مُربَّعة، بها أريكةٌ ونضد عليه
فواكه وقدح من الماء، وبجانب النضد وعاءٌ من الصخـر مملوءٌ بالماء الرقراق، وكانت
الروائح الذكيـّة تملأ جوانب الغرفة كما كانت تتصاعد من شعر "هي" الأسود
الجميل وثيابها البيضاء فتُرسِل البهجـة والانشراح إلى النفس.
أشارت إلى الأريكة وقالت:
-
اجلس .. ولكن إيّاك
أن تأتي بما يُثير غضبي وإلّا قتلتك في الحال .. فكُن رقيقاً بشوشاً.
فجلستُ على طرف الأريكة بحوار الوعاء الصخرى
المملوء، بينا جلست "هي" في الطرف الآخر منها، ثم قالت:
-
والآن .. حدِّثني يا
"هولي": كيف تعلّمت اللغة العربيّة؟ .. إنها لُغتي العزيزة .. إذ أني
عربيّة الموْلد وأنتمى إلى قبيلة "العرب العرباء" من نسل أبينا "يَعرُب
بن قحطان" .. وقد وُلِدْتُ في مدينة "أوزال" القديمة في ولاية "اليمن"
.. ولكني أراك لا تتكلَّم العربيّة كما نتكلَّمها نحن .. إذ تنقصك نغمة أهل "حِمْيَر"
(مملكة قديمة غابرة بـ"اليمن") الرقيقة.
فقُلت:
-
لقد تعلَّمتُها منذ أعوامٍ
طويلة .. والناس يتكلَّمون بها في "مِصر" وغيرها.
-
أحقّاً تقول؟! .. ألَا
تزال "مِصر" موجودة؟! .. وفرعوْن؛ هل لا يزال جالساً على عرشه أم استولى
عليه الفُرس؟
-
لقد ذهب الفُرس من "مِصر"
منذ ألفيْ سنةً تقريباً .. ثم احتلَّها البطالسة فالرومان وغيرهم .. ولكن كيف عرفتِ
باحتلال الفُرس لـ"مِصر"؟
فضحكتْ وتغاضتْ عن سؤالي، ثم سألتْ:
-
و"اليونان"؛
هل لا تزال بلاد "اليونان" موجودةً كذلك؟ .. آه .. إنني أُحب اليونانيّين
.. هم رائعو الجمال .. كثيرو الحركة والنشاط .. ولكنهم مع ذلك غلاظ القلوب متقلِّبون.
-
نعم .. لا تزال بلاد
"اليونان" موجودة .. وقـد عاد سعيها إلى الحياة في الفترة الأخيرة.
-
والعِبرانيّون؛ أهُم
في "أورشليم" حتى الآن؟ .. ألا يزال الهيْكل الذي شَيّده الملك
"سليْمان" الحكيم موْجوداً؟ .. وأى إلهٍ يعبدون الآن؟ .. هل جاء "المسيح"
الذي تكلَّموا عنه كثيراً؟ .. وهل هو يحكم الأرض كما كانوا يتنبَّأون؟
فأجبت:
-
قد تشتَّت شمل
اليهود ودالت دوْلتهم .. ولم يبقَ منهم إلّا القليلون .. وهم مُبعثَرون الآن في
أنحـاء المعمورة .. وأمّا الهيْكل الذي شيَّده "هيرودس" ....
فقاطعتني:
-
"هيرودس" ..
لست أعرف "هيرودس" هذا .. ومع ذلك استمِر.
استطردتُ مُتمِّماً حدیثي:
-
.... فقد أحرقه
الرومان .. وتُحلِّق النسور الآن فوْق أطلاله.
-
أحقّاً؟! .. لقد كان
أولئك الرومان شعباً عريقاً بلغ غايته في مُدَّةٍ وجيزة .. ثم خلَّف السلام وراءه.
فقُلتُ باللاتينيّة:
-
إن الوحدة تدعو إلى
السلام والوئام.
فقالت بدهشة:
-
آه! .. إنك تتكلَّم
اللاتينيّة أيضاً! .. يُخَيَّل إليَّ أنك رجلٌ غزير العلم واسع الاطلاع .. هل تعرف
اليونانيّة أيضاً؟
-
نعم أيتها الملكة ..
وعلى إلمامٍ كذلك بالعِبرانيّة.
فصفَّقت بيدها سروراً كما يفعل صِغار الأطفال،
وقالت:
-
إنك شجرةٌ قبيحة
المنظر ولكنها تحمل ثمـار الحِكمة والمعرفة .. حدِّثني يا "هولي" عن
أولئك اليهود الذين أبغضهم من كل قلبي لأنهم كانوا يُطلِقون عليَّ اسم "الوثنيّة"
كلّما أردتُ أن أعلِّمهم فلسفتي .. خبِّرني: هل جاء مسيحهم؟ .. وهل حكم العالم؟
قلت باحترام:
-
نعم .. جاء المسيح
.. ولكنه جاء مُعدَماً .. فلم يُعيروه أدنى اهتمام.
فقالت غاضبةً:
-
هذا شأن أولئك
الوحـوش دائماً . هم ذئابٌ جشـعون .. لطالما سحقوا قلبي وجعلوني أنظر إلى العالم
بمنظارٍ أسود .. فهُم الذين ساقوني إلى هنا .. إلى هذا المكان الموحِش .. وشَدَّ
ما يسرني أن أعلم أنهم مُشرَّدون في الأرض .. إنني كنتُ كلّما حاولتُ أن أُعلِّمهم
الحكمة في "أورشلیم" رجموني بالحجارة .. نعم .. كان الكهنـة يُحرِّضون
الناس ليرجموني بالأحجار .. أنظر .. مازال أثر عملهم باقياً حتى اليوْم.
وكشفت "هي" فجأةً عن ساعدٍ ملفوفٍ
ناصع البياض، وأشارت إلى أثر جُرحٍ صغيرٍ أحمر، فتراجعتُ إلى الوراء مأخوذاً،
وهتفت:
-
أرجو صَفحكِ أيتها
الملكة .. إنني لا أُصدِّق أُذُني .. فقد مضى نحو ألفيْ عامٍ على صَلْب "المسيح"
.. فكيف استطعتِ أن تُعلِّمي اليهود فلسفتكِ قبل ولادته؟! .. إنكِ امرأةٌ كسائر
النساء ولستِ روحاً .. فكيف تستطيع امرأةٌ أن تعيش ألفيْ عام؟! .. لا شك أنكِ
تسخرين مني أيتها الملكة.
اضطجعتْ "هي" إلى الخلف، ثم نظرت إليَّ
بإمعانٍ وقالت بهدوء:
-
اصغَ إليَّ يا
"هولي" .. يبدو أن ثمَّة أسراراً باقيةً في العالم مازِلتَ تجهلها .. هل
تعتقد أن جميـع المخلوقات مآلها إلى الفَناء كما يعتقد أولئك اليهود؟ .. هذا خطأٌ
يا "هولي" .. إن المسألة كلها لا تعدو أن تكون "تغييراً".
وأشارت إلى بعض الرسوم على الجـدران،
واستطردت:
-
انظر .. لقد انقضى
نحو سِتّة آلاف سنةٍ على الوباء الذي فتك بآخر سلالة الشعب العريق الذي رسم هذه
الصور .. ومع ذلك فإنهم لم يموتوا ولا يزالون على قيْد الحياة حتى الآن .. وربما
كانت أرواحهم ترقبنا الآن.
وتلفَّتتْ فيما حوْلها، واستطردتْ:
-
لعَمري؛ يُخَـيَّل إليَّ
أحياناً أنني أشعر بأرواحهم تهيم حوْلي.
-
لقد ماتوا بالنسبة إلى
هذا العالم.
-
نعم .. ولكن لمُدَّةٍ
مُعيَّنةٍ ثم يُولدون ثانيةً وثالثة .. أقول أنني أنا "عائشة" - وهو اسمي
أيهـا الغريب - أنتظر الآن شخصاً أحببته سيولَد من جديد .. وسأبقى هنا إلى أن
يجدني .. إنني واثقةٌ كل الثِقة من أنه سيأتي إلى هنا - وهنا فقط - وسیلقاني
ويعانقني .. فهل تدري لماذا أنني أنا صاحبة القوّة والبأس؟ .. أنا التي يفوق جمالي
جمال "هيلانة" (قِدّيسةٌ عُرِفَت بجمالها الأخّاذ) الإغريقيّة؟ .. أنا
التي أحطتُ بأسرار الأرض وكنوزها؟ .. أنا التي تغلَّبتُ مُدَّةً من الزمن على "التغيير"
الذي تُطلقون عليه أنتم اسم "الموْت"؟ .. أقول هل تدري أيها الغريب
السبب الذي حملني على البقاء مع هؤلاء البرابرة الهمج طوال هذا الزمن؟
فقلت بتواضُع:
-
کلا یاسیّدتي .. لا
أدري.
-
إنني أنتظر هُنا
قدوم الذي أحببته .. ربمـا كانت حياتي شرّيرة .. ولذا فأنا أخاف أن أتخلّى عن
الخلود الذي أستمِدُّه من هُنا فأعود فانيةً لأذهب للبحث عنه حيث يوجد خشية أن يُقام
بيني وبينه سدٌ لا أستطيع عبوره .. مهما يكُن؛ فلابد أن يأتي اليوْم - وقد يكون
ذلك بعد مُضي خمسة آلاف سنة كما قد يكون ذلك غداً - الذي يولَد فيه حبيبي مرّةً
أخرى .. ثم يخضع لقوّةٍ قاهرةٍ فيأتي ليلقاني هُنا حيث تبادلنا القبلات ذات مرّة
.. ولا بُد أن تلين لي قناته ويخضع لحُبّي حتى لوْ أسأتُ إليه.
استوْلى عليَّ الذهول، وعقدت الدهشة لسـاني،
وحاولتُ أن أهضم تلك القِصّة العجيبة التي لا يسيغها العقل فلم أستطِع، وأخيرا قُلت:
-
لنفرض أن ذلك صحيحٌ أيتها
الملكة .. لنفرض أننا نحن الرجال قوام التوالُد والنسل .. فإذن هذا الافتراض لا
ينطبق عليكِ إذا كُنتِ تقرِّرين الحقيقة.
فرمقتني بنظرةٍ غاضبةٍ من عيْنيْهـا المحجَّبتيْن،
فأسرعتُ أقول:
-
أنتِ التي لم تذوقي
طعم الموْت؟
-
هذا صحیح .. فقد أمكنني
بطريق الصُدفة وطريق العِلم أن أحل سِرّاً من أعظم الأسرار .. أخبرني أیها الغريب:
ما هي الحياة؟ .. ألَا يُمكِن مَدَّها وقتاً آخر؟ .. ماذا تكون عشرة آلاف سنةٍ أو
عشرين أو خمسين ألفاً في تاريخ الحياة؟ .. إن الأمطار والعواصف لا تستطيع أن تهدم
قيراطاً من قِـمَّة جبلٍ في عشرة آلاف سنة .. إن ألفيْ سنةٍ لم تُغيِّر شيئاً من
هذه الكهوف .. لم يتبدَّل فيها إلّا الوحوش والإنسان .. ليس في الأمر شيءٌ غريبٌ
لو أمكنك أن تُدرِك الحقيقة .. نعم إن الحيـاة غريبة .. ولكن إذا طالت قليلاً فهل
يكون ذلك أمراً غريباً؟ .. إن الطبيعة وحدها هي التي تتغيَّر لأنها ليست أبديّةً بل
يجب أن تموت أو بالأحرى تتغيَّر أو تنام إلى إن يحين الوقت لتُبعَث من جديد ..
ولكن متى تموت؟ .. لم يِحن ذلك الوقت بعد .. وسيعيش مَن يعرف أسرارها ما دامت هي
باقية .. لاريْب أن هذا سِرٌ يستعصى عليك فَهْمه أو إدراكه .. ولذا فلن أُثقِل عليك
بهذا الحديث الآن .. ولننتقل إلى موْضوعٍ آخر أسهل إدراكاً وفَهْماً .. لعلَّك دُهِشْتَ
لأنني عرفتُ بقدومكم إلى هذه
البلاد وأنقذتكم من الغرق؟
-
نعم أيتها الملكة.
-
إذن انظر إلى هذا
الماء.
وأشارت إلى الوعاء المملوء بالماء، ومالت إلى
الأمام ثم رفعت يدها فوقه.