ياما جاري ف المجاري (3)
وعقب أن فرغت
السيّدة من عبارتها القصيرة انتصبت واقفة بسرعة وأوْمأت برأسها لرفيقها فأخرج من
بيْن طيّات ملابسه هراوةً خشبيّةً قصيرة هوى بها على أم رأس الدكتور
"جلال" الذي تداعى من فوْره على الأرضيّة الجرداء دون أن تصدر منه كلمةٌ
أو حركة، وتحرّك الاثنان بهمّةٍ فجمعا ما كان على المنضدة من أوراقٍ ومخطوطات
أوْدعاها حقيبةً بلاستيكيّةً كبيرة كانت مطويّة داخل شنطة يد السيّدة الأجنبيّة
التي تأكّدت من جمعهما لمخطوطة ذاك الكتاب عن اليهود، ثم لاذا بالفرار قبل أن يشعر
بهما أحد بعد أن فتحا أنبوبة البوتوجاز وسكبا بعضاً من الكيروسين كان في زجاجةٍ معهما
على جثمان الدكتور وأشعلا به النار ليخفيا ملامح جريمتهما.
وبعد دقائق اكتشف
سكّان المبنى وما جاوره الحريق فأبلغوا المطافئ التي لم تتوانَ عن الحضور سريعاً
بعد حوالي النصف ساعة واستغرقت نصفاً أخرى في إزالة السيّارات التي تركن على جانبي
الشارع وتمنع دخول عربة المطافئ الكبيرة إلى موقع الحريق ثم قضت نصفاً ثالثة في
البحث الحثيث عن مصدرٍ للمياه يصلح لإيصاله بخراطيم الإطفاء، وقبل أن تنجح قوّات
المطافئ في مسعاها الحميد كان أهل المنطقة قد أخمدوا الحريق بجهودهم الذاتيّة وعثروا
على جثّة الدكتور "جلال" بعد أن تفحّم نصفها السفلي فقط في حين بقي
النصف العلوي سليماً، وأسجى المتطوّعون الجسمان ببعض أوراق البحث التي نجت من
ألسنة اللهيب ومن نهب الأجنبيّيْن القاتليْن.
وبعد أقل من ساعتيْن
فقط حضر أفراد الإسعاف في عجلةٍ من أمرهم ولكنهم رجعوا القهقرى عندما لم يجدوا
ناجين من الحريق مفسحين المجال لرجال الشرطة والمباحث والمعمل الجنائي الذين حضروا
بعدهم مباشرةً في غضون الثلاث ساعات تقريباً فعاينوا مسرح الحادِث ولم يُلفِت
نظرهم أي شيءٍ غير عادي فسجّلوا معهم ما رأوا وحملوا جثّة العالِم الكبير وانصرفوا
دون أن ينبس أحدهم ببنت كلمة.
وفي ظهر اليوْم
التالي كان الأسطى "محروس" جالساً على المقهى مع أصحابه عندما كان يبث
أحدهم عناوين الأخبار على مسامعهم من واقع ما يقرأه من الطبعة الأولى لصحيفة ذلك
اليوْم :
- رئيس الوزرا بيقول
: الحكومة عازمة على المضي قدماً في برنامج الخصخصة.
- يعني إيه خصخصة يا
جدعان؟
- يعني ح يبيعوا
شركات القطاع العام اللي "عبد الناصر" أمّمها من الباشاوات بتوع زمان ومسّكها
لناس خربوها وقعدوا على تلّها وبعدين ح يبيعوها لشويّة مليونيرات حراميّة تبعهم ويرفتوا
العمّال والموظّفين الغلابة اللي كانوا بياكلوا عيش من وراها.
- بس بيقول لك إن كل
واحد من العمّال دوكهمّ ح ياخد له كذا ألف جنيه وهوّ طالع معاش مبكّر.
- يا عم ح يتصرفوا ف
كلام فارغ ويصفصفوا على قرشين هايفين ويرجع الواحد منهم عاطل بلا شغلة ولا مشغلة.
- خلاص.. كل واحد
ياخد القرشين اللي ح يفضلوا يشتري بيهم خس يبيعه على أوّل الشارع.. مش اسمها خسخسة..
هأو أو أو.
- المهم.. بيقول لك
كمان إن "إسرائيل" تبدي ارتياحها لتطوّر مسيرة السلام ف الشرق الأوْسط وتحذّر
من انهيارها.
- يا عم تروح
"إسرائيل" ف داهية.. همّ يقدروا يعملوا معانا حاجة.. دول لو فكّروا بس
يؤذونا ح نبعت لهم حد م المخابرات بتاعتنا ولّا م الصاعقة يجيبوهم من قفاهم وهمّ ف
بيوتهم.. إنتم ما اتفرّجتوش على "جمعة الشوّان" و"رأفت
الهجّان" و"عابد كرمان" و"احمد الريّان".
- يا جدع انت
"الريّان" ده بتاع توظيف الأموال.. اللي ضيّع فلوس الناس.
- أنا عارف بقى.. أهو
كل الجواسيس المصريّين ف "إسرائيل" آخر اسمهم "اان"
"اان".
- تصدّق انا ليّ ابن
عمّي راحت فلوسه ف "الريّان" قام سافر "العراق" علشان يشتغل
هناك ويعوّض خسارته.. رجع يا عيني من هناك بعد اربع سنين إيد ورا وإيد قدّام بعد
حرب "الكويت".. وكان كل يوم يروح يقف يا إمّا ف طابور المودعين بتوع
"الريّان" يا إمّا ف طابور التعويضات بتوع "العراق".. لغاية
ما شاف له عقد عمل ف "السعودية" وبعدين وهوَّ راجع أوّل أجازة غرق مع
بتوع العبّارة.. الله يرحمه كان فقري.
- بس الحكومة مش
سايباهم.. بيقولوا ح يصرفوا لهم فلوسهم بعد خمس سنين كمان.
- موت يا حمار.
- اسمعوا دي:
الحكومة تحذّر من الإفراط في تناول الفسيخ وتعلن عن حملتها الموسميّة لمصادرة
الفسيخ الفاسد.
- ما همّ كل سنة
بيقولوا كده وبرضه ما فيش فايدة.. هوَّ فيه عيد شم الفسيخ من غير نسيم.. قصدي شم
النسيم من غير فسيخ.
- وبيقول لك كمان إن
وزارة التربية والتعليم بتعلن عن استعدادات الوزارة لامتحانات الثانويّة العامّة وبتؤكّد
إن الامتحانات السنة دي ح تبقى ف مستوى الطالب المتوسّط.
- يا عم بلا طالب
متوسّط بلا بحر متوسّط.. إقرا لنا أخبار مهمّة.
- أخبار مهمّة.. مهمّة..
مهمّة.. أهي : "نادية الجندي" تصوّر فيلمها الجديد.. حفل ليالي
التليفزيون في موعده ليلة شم النسيم.. تصالح الراقصة "لذّة" مع مصلحة
الضرائب بعد سدادها سبعة مليون جنيه.. إقامة مباراة " الأهلي" و"الإسماعيلي"
بنهائي الدوري في ملعب محايد.. مسؤولو الجمارك يرفعون الحظر عن الكافيار والسيجار
الكوبي باعتبارها سلع هامّة.
- كويّس إنّك قريت الخبر
بتاع السيجار ده.. فكّرتني.. أقوم اشتري خمس سجاير فرط وارجع لكم.
- ما فيش أخبار عن
الحريقة اللي حصلت عندنا امبارح؟
- ح اشوف لك ف صفحة
الحوادث.. لأ ما فيش حاجة.. أصل الدكتور ده مش حد مهم.. استنّى كده.. لا والله ده
فيه خبر صغيّر أهه ف آخر الصفحة.. عنوان الخبر : انفجار أنبوبة بوتوجاز في منزل
دكتور جغرافيا.. مضمون الخبر : انتقل السيّد العقيد "فؤاد على الله عبد
السلام" مدير مباحث قسم "الدقّي" يعاونه السيّد الرائد "صبري
صفتي صبحي" بصحبة السيّد النقيب "أيمن الساكت" والسيّد الملازم تحت
الاختبار "هيثم السفروت" إلى موقع الحادث وتبيّن أن سبب الحادث تسرّب
بالغاز دون وجود أي شبهة جنائيّة وصرّح السيّد "كريم فهيم نسيم حليم"
وكيل النيابة بدفن الجثّة.
- الله يرحمه.. أنا
كنت عنده ف نفس يوم الحادثة باشتغل ف السباكة.. تصدّقوا شقّته ما فيهاش غير كتب.. كان
راجل غريب.. الظاهر من كتر القراية مخّه لسع.
وقبيْل عصر نفس
اليوم خرج أقل من ثلاثين شخصاً في جنازةٍ صغيرة لتوديع هذا العالِم الجليل ومواراته
ثرى بلاده بعد أن حرقه وطنه وشعبه بنار التجاهل واللامبالاة قبل أن يقتله اليهود
بدافع الكُره والحقد، وصحّ قوْل الشاعر "حافظ إبراهيم" :
فَما أَنتِ يا "مِصرُ" دارُ الأَديبِ .... ولا أَنتِ بِالبَلَدِ الطَيِّبِ.