(3) "ليو" .. يكبر وينمو
كان لموت "فنسي" الفُجائي ضجَّةٌ عظيمةٌ في الجامعة، ولكن لمّا كان الجميع يعلمون طبيعة مرضه فإن أحداً منهم لم يهتم بالبحث عن سبب الوفاة، وانتهت المسألة عند هذا الحد، وقد جاء أحد المحامين من "لندن" لتشييع الجنازة .. ثم استأذن مدير الجامعة، وزار غُرفة "فنسي" واستوْلى على جميع أوراقه، ومن ثَمَّ کرَّ عائداً إلى "لندن".
وبعد أسبوعٍ فرغت من أداء الامتحان النهائي، واستأنفت
حياتي العادية مرِحاً طروباً لحصولي على إجازة الجامعة بتفوَّقٍ عظيم، وكان أول ما
طاف بذِهني تلك المهمّة الشاقّة التي ألقاها "فنسي" التَعِس على کاهلي قبل
موْته، وزيارته الغريبة لي عند منتصف الليْل، ونبوءته الشـاذّة عن موْته العاجل، والقَسَم الرهيب الذي أقسمته، وكان أهم
ما يشغل تفکيری ويُربِكني هو موت "فنسي" السريع حتى لقد خطر لي أنه لابد
انتحر .. ولكني لم استطِع أن أقطع في الأمر برأي، فتملَّكتني الحيرة والقلق، وتسرَّب الخـوْف إلى
قلبي، ووددت لوْ أني رفضت التدخُّل في هذه المُشكلة الأليمة.
وبينما كنتت غارقاً في هواجسي وأفکاري إذ طرق
الباب، فأذِنت للطارق بالدخول، فإذا به الخادم يحمل إليَّ ملفّاً ذو غلافٍ أزرق، أدركت
في الحال أنه مُرسَل من أحد المحامين، فتناولته وفضضته فوجدت بداخله رسـالةً هذه نَصُّها:
[[[سيّدي:
ترك المرحوم مستر "فنسي" الذي مات
يوم 9 من الشهر الجاري في مساكن الطلبة بجامعة "كمبردج" وصيّةً عهد إلينا
بتنفيذها، وطيّه صورةٌ من هذه الوصيّة، وستسوْلى – بموجب هذه الوصيّة – على نصف
دَخْل مستر "فنسي" مدى الحياة بشرط أن تقبل الوصاية على ابنه "ليو
فنسي" البالغ من العُمر خمسة أعوام، ولا نخفي عليك أن هذا الوصيّة غريبةٌ وخارقةٌ
للعادة، ولوْلا تعليمات مستر "فنسي" الصريحة القاطعة الواضحة في إنفاذ
هذه الوصيّة بمنتهى الدِقّة لعرضناها على ولاة الأمور ليتكفَّلوا بالمحافظة على مصالح
الغلام، لكن لمّا كان مستر "فنسي" من الرجال الذين عُرِفوا بالاتزان والذكاء؛
ولمّا كنا نعلم ألّا أقرباء له على قيْد الحياة نستطيع أن نعهد إليهم بتربية الطفل؛
فلم نجد مفرّاً من مجاراته في السبيل الذي ارتأى سلوكه.
إننا في
انتظار تعليماتك فيما يتعلَّق بتسلُّم الطفـل والمبالغ المُستَحَقّة، وتفضّل بقبول
تحيّاتنا.
مكتب المحاماة: "جوفري وجوردان".]]]
وضعت الرسالة جانباً، و التقطت الوصيـّة، فألفيْتها
مفرَّغةً في قالبٍ قانونيٍ متين، ولكنها لا تحوى جديداً على ما كاشفني به "فنسي"
قبيل موْته، وعندئذٍ قرَّرت تسلُّم الغلام.
وفجأة .. تذكّرت الرسالة التي أعطانيها "فنسي"
مـع الصندوق الحديدي،فأخضرتها وفضضتها فوجدتها تحوي تعلیماتٍ عن فتح الصندوق يوم
يبلغ "ليو" الخامسة والعشرين، وأُخرى عن كيفيّة تعليمه والمواد التي
تُدرَّس له وهي عبارة عن اللغة اليونانيّة واللاتينيّة والعربيّة والعلوم الحديثة
والرياضيّات العالية، وفى ذيْل الرسالة وقع بصري على تعليماتٍ أُخرى تُشير إلى أنه
إذا مات الغلام قبل بلوغ السِن المُحدَّدة ففي استطاعتي أن أفتح الصندوق وأُنفِّد
التعليمات الموجودة بداخله إذا أردت، وإلّا فيجب أن أعدم جميع الوثائق ولا أدع
أحداً يستوْلي عليها مهما كانت الظروف.
لم يكن في هذه الرسالة ما يحملني على العدول
عن وعدي لصديقي الميّت، ولِذا سارعت بإرسال رسالةٍ إلى المحامي أنبِئه بقبول الوصاية
على الطفل واستعدادي لإتمام المهمّة بعد عشرة أيّام.
وقد أرغمني هذا التحوُّل الجديد على ترك الجامعة
واستئجار مسكنٍ على مقربة منها، وألحقت بخدمتي رجلاً رضي الخُلُق قَبِلَ أن يُربّي
"لیو" عند وصوله، وبعد ذلك نقلت الصندوق الحديدي إلى خزانةٍ للحفظ بأحد
المصارف، ثم انصرفت إلى دراسة بعض المؤلَّفات عن تربية الأطفال مع "جوب" (اسم الخادم).
جاء الصبي أخيراً مع مربيةٍ عجوز، وكان جميل
الوجه، أسود العيْنيْن، عريض الجبهة، ذهبي الشَـعر، وعندما حان موْعد انصراف
المربية بكى "ليو" قليلاً، فمددت إليه يدي، لكنه لم يعبأ بي، وحينئذٍ
صرخ "جوب" صرخةً تُشبِه تغريد البُلبُل ثم قدَّم للصبي حصـاناً صغيراً
من الخشب، وما هي إلّا بُرهةٌ حتى أقبل نحوي وهو يقول:
-
إني أُحبّك .. فإنك
رغم دمامتك طيّب القلب.
لندع الحديث عن تلك الفترة الذهبيّة التي انصرمت
منذ ذلك اليوم حتى بلغ "ليو" الخامسة والعشرين من عُمره .. ولكنني لا أستطيع
أن أغفل التنويه عـن تطوُّر العلاقة بيني وبين هذا الشاب الرائع، فقد ظلَّت تتوطَّد
من سنةٍ لأُخرى حتى أصبح مني في منزلة الابن عند أبيه، ولم یكن هذا الجمال الذي
امتاز به الصبي منذ صغره إلّا لیزداد بروزاً على مر الأيـّام، حتى لقَّبه رفاقه في
الجامعة بلقب "الجميل"، كما لقَّبوني بلقب "الوحش".
وأمّا فيما يتعلَّق بثقافة "ليو" فقد اتَّبعت في تهذيبه تعليمات أبيه ولقَّنته اللغة اليونانيّة واللاتينيّة والعربيّة والعلوم والرياضـيّات، فإذا ما بلغ الثامنة عشرة ألحقته بالجامعة فنال إجازةً عاليةً وهو في الحادية والعشرين، وعندئذٍ صارحته لأوّل مرّةٍ بطرفٍ من قصّته والسر الرهيب الذي أُسدِل عليه الستار، فأبدى اهتماماً بالأمر ولكنني أنبأته بأن الوقت لم يِحن بعد، وأن عليه أن ينتظر.