(13) الرحلة إلى "خور"
قضينا أكثر من ساعةٍ
في اجتياز السهل، ثم تسلَّقنا حافّته الواقعة في الناحية الأخرى، فلمّا بلغنا قِـمَّة
هذا المُرتَفَع رأينا أمامنا مُنحدَراً طويلاً عند نهايته، وعلى بُعد عشرة أميالٍ أمامنا
مُستَنقَعٌ طـويلٌ عقد البُخار فوْقه سُحُباً كثيفة، وقد وجد الحمّالون الطريق
سهلاً عند هبوطه من المُنحَدَر، فبلغنا طرف المُستَنقَع عند الظُهر، فتوقَّفنا ريْثما
تتناول طعام الغداء، ثم استأنفنا السيْر في طُرُقٍ كثيرة التعاريج وسط المستنقع،
ولم يلبث أن بدا الطريق أمامنا غامضاً، واستحال تمييزه، بيْد أن الرجال لم يجدوا
صعوبةً في الاهتداء إليه، ولعَمري لا أدري حتى اليوْم كيف كانوا يفعلون ذلك.
وإذ غربت الشمس كنا
قد وصلنا إلى أرضٍ مُرتفِعةٍ خارج المستنقعات، فأعلن "بلال" أننا سنقضي
الليْل في تلك المنطقة، فأوْقد الرجال ناراً جلسنا حوْلها، ثم التفَّ كلٌ بغطائه
والتمس النوْم.
أدرت رأسي ونظرت إلى
"ليو" وهو مُـمَدَّدٌ بجانبي فوجدت وجهه مُتوَهِّجاً بشكلٍ لا يدعو إلى
الارتياح، وقد رأیْت "أوستین" بجانبه ترقُب وجهه بقلقٍ كبيرٍ ما بين
الفيْنة والفيْنة.
تملَّكني الحُزن من أجل
الشاب، ولكني كنت عاجزاً عن تخفيف آلامه بعد أن أعطيْته جرعةً كبيرةً من "الكينا"
هي كل ما نملك من وسائل الوقاية، وعندئذٍ استلقيْت بجانبه وأخذت أرقُب النجوم وهي
تُشرِق، حتى امتلأت السماء بنُقَطٍ لامعة.
وأخذت أُفكِّر في مُهمّتنا
والأخطار المُحدِقة بنا، ومع ذلك فقد تملَّكني العجب لأنها تتَّفق كل الاتفاق مع ما
كُتِبَ منذ قرونٍ على قطعة الخزف العتيقة.
تُرى مَن تكون تلك
الملكة الغريبة التي تحكم شعباً غريباً مثلها في معزلٍ عن نور الحضارة والمدنيّة؟،
وما معنى تلك القصة - قصة نيران "عامود الحياة الدائر" - التي تمنح
حيـاةً أبديّة؟، هل يُمكِن أن تكون هناك مادةٌ أو سائلٌ يمنح الجسم البشري قوّةً تُمَكِّنه
من مقاومة الفَناء من جيلٍ لآخر؟، قد يكون ذلك في حيّز الإمكان ولو أنه بعيـد
الاحتمال، فإن دوام الحياة إلى أجلٍ غير مُسمَّى لا يكون - كما قال "فنسي"
المسكين - أكثر غرابةً من إيجـاد الروح وبقائها مُدّة، وإذا كان ذلك حقيقيّاً
فماذا يكون؟، لا ريْب أن الشخص الذي يجد هذه الحياة يستطيع أن يحكم العالم بأسره ويحصل
على ثروته ويتمتَّع بكل أسباب القوّة والحكمة.
حسناً؛ إذا كان ذلك
واقِعاً وكانت "هي" هذه أبديّةً لا تفنى - وهو ما لا أصدِّقه قط - فكيف
فضَّلت أن تعيش في كهفٍ معزولٍ وبين شعبٍ همجي؟، لا ريْب أن الوقوف على جوابٍ عن
هذا السؤال يسوّي المشكلة جميعها.
أعياني التفكير في
أمر هذه المرأة العجيبة، وأخيراً ثقل جفناي ثم رُحت في سُباتٍ عميق.
واستيْقظت عند الفجر،
وكان الحـمّالون والحُـرّاس يروحون ويغدون استعداداً للرحيل، فنهضت وأنا أنتفض من
شِدَّة البرد، وألقيْت ببصرى إلى "ليو" فوجـدته جالساً وقد اعتمد رأسه
بين يديْه، وكان وجهـه لا يزال مُحتَقِناً، وعيْناه تلمعان ببريقٍ خاطف، وتُحيط
بهما هالةٌ صفراء، فسألته:
- كيف حالك يا "ليو"؟
فأجاب بصوْتٍ أجش:
- إني أشعر بدنو أجلي .. فرأسي يكاد
ينفجـر .. وجسمي يرتعد.
أيْقنت أنه أُصيب بحُـمَّى
شديدة، فأسرعت آتيـه بجرعةٍ من "الكينا" ثم ذهبت وأطلعت "بلال"
على جليّة الأمر، فرافقني إلى حيث "ليو" ولم يلبث أن قال لي على انفراد:
- إنه مصابٌ بالحٌـمَّى .. ولكنه شابٌّ
في مُقتَبَل العُمر .. ومن المُحتمل أن يبرأ.
ولمّا لم يكُن من
الميْسور أن نبقى ريثما تتحسَّـن حال "ليو" فقد أعطى "بلال" أمراً
باستئناف السيْر.
ومرّت الساعات
الثلاث الأولى بسلام، ثم وقـع حادثٌ كاد يُفقِدنا صديقنا "بلال"، وتفصيل
ذلك أن هوْدج هذا الشيْخ كان يسير في المُقدِّمة، وكنا في تلك اللحظة سائرين في مستنقعٍ
خطيرٍ قليل الغوْر في بعض أجزائه وشديد العُمق في البعض الآخر، وفجأة سمعت صرخةً
داوية أعقبتها صيْحات استغراب، ثم صوْت ارتطام جسمٍ بالماء، وعلى أثر ذلك وقف الرَكْب
تماماً، قفزت من هوْدجي وهرولت إلى الأمام، فرأيت بِرْكةً على يمين الطريق الذي
كنا نسلكه، وأمّا الطريق نفسه فكان شديد الانحدار، وكان هوْدج "بلال"
عائماً على سطح ماء المستنقع، وأمّا الشيْخ نفسه فلم أرَ له أثراً.
كان أحد الرجال
الذين كانوا يحملون هـوْدج "بلال" قد صادف في طريقه ثُعباناً سامّاً عضَّه
في مُؤخِّرة قدمه فتخلَّى عن الهوْدج، وعندئذٍ ألفي نفسه يهـوى إلى المستنقع، فعاد
يتشبَّث بالهوْدج كيلا يسقط، فهوی معه في أثره و"بلالٌ" بداخله.
ولكنني لم أرَ للرجليْن
أثراً، أمّا الحـمّال فمن المحتمل أنه لاقى حتفه، وأمّا "بلال" فكان
مكانه من الهوْدج معروفاً بالرغم من احتجابه عن الأنظار.
قال أحد الرجال وهو
يُشير إلى الهوْدج:
- إنه هناك .. إن أبانا هناك.
ولكن أحداً منهم لم
يحاول إنقاذه، بل جمدوا في أماكنهم وهم يحدقون في الماء بذهول، فصحت بهم أن يُفسِحوا
الطريق، ثم خلعت قُبَّعتي ووثبت إلى الماء، وسبحت حتى بلغت الهوْدج، فاستطعت إخراج
"بلال" - ولا أدري كيف - من تحت الهوْدج، وكان رأسه كُلّه مُغطَّى بطبقةٍ
خضراء.
وكان "بلال"
شيْخا حازماً، فاستسلم إليَّ وبذلك استطعت أن أجذبه معي إلى الشاطئ سالماً، وتحوّل
الرجل إلى رجاله وهو يقطر ماء، وصاح فيهم:
- يا لكم من أوغاد! .. لوْلا هذا الغريب
- ابني البابون - لغرقت بلا مراء .. حسناً .. لن أنسى لكم ذلك.
ثم أطال إليَّ النظر
ولم يلبث أن أمسك بيـدي، وقال:
- وأمّا أنت يا ولدي فثِق بأني سأكون
صديقك ما حييت .. لقد أنقذت حياتي .. وربما يأتي يوْمٌ أرد إليك فيه هذا الصنيع.
وبعد دقائقٍ معدودات
استأنف الركب سيْره.