(2) کیف جاء الصندوق الحديدي إلى "هولي"
من شأن بعض الأحداث أن تُخلِّف في ذِهن الإنسـان
أثراً لا يُمحى، وذلك لما يلابسها من ظروفٍ و عواملٍ خاصّة، ذلك ما سأكشف عنه الآن
من وقائعٍ ما زالت أمام عيْني كأنها وقعت بالأمس.
فمنذ عشرين عاماً كنت - أنا "لودفيج هوريس
هولي" مُكَبّاً على حل بعض المسائل الحسابيّة في إحدى مواد دراستي بجامعة "كمبردج"،
ولمّا دَبَّ الإعياء إليَّ نهضت عـن مقعدي وتقدَّمت من المدفأة لأملأ غليوني تَبغاً
من صندوقٍ فوْقها، وكان إلى جانبه مرآة، فملأت الغليون تبغاً وهممت بإشعاله حين
لاحت مني التفاتةٌ إلى المرآة ورأيْت صورتي منعكسةً فوْقها، فجمدت في مكاني ورحت أُفكِّر،
قلت لنفسي بصوْتٍ مرتفع:
-
لا بأس .. آمل أن أنتفع
بمحتويات رأسي مادُمت يائساً من الانتفاع بمظهـري الخارجي.
لا ريْب أن هذه الكلمات تدعو إلى الدهشة،
بيْد أنني أرمي في الواقع إلى دمامة وجهي، فقد وهبني الله خلقاً مُتناهياً في القُبح
وعدم الانسجام، فقامتي قصيرة، وصدري ضخم، وذراعايَ طویلتان وعيْنايَ ضيّقتان غائرتان،
وجبهتي ضيّقةٌ غزيرة الشَعر، ولكنه عوَّضني عن كل أولئك بقوّةٍ هرقلية جبّارة، فبقدر
ماکان رفاقي ينفرون من صـداقتي كانوا يهابونني ويُعجَبون بعضلاتي الفولاذيّة.
طال وقوفي أمام المرأة وأنا أُنعِم النظر إلى
وجهي القبيح، ولم ألبث أن أحسست بالألم لما مُنّيت به وحدي، وفيما كنت غارقا في أفكاري إذ سمعت طرقاً على الباب،
فدُهِشت ولازمت مكاني هُنيْهةً أُصـغي للطرق دون أن أتقدَّم لأرى الطارق، ولا عجب فإن
الليْل كان قد انتصف، وليس لي من صدیقٍ يهتم بي غیر واحدٍ كنت أعرف أنه مريض ولا
تستطيع بنيته الضعيفة أن تحتمل قُر الليْل القارس، لكن لشد ما كانت دهشتي حين فتحت
الباب وألفيْتني أُحدِق في وجه ذلك الصديق، وكان شابّاً طويل القامة نحو الثلاثين
من عُمره، ينم وجهه الشـاحب عن جماله الملحوظ، وما أن فتحت الباب حتى اندفع صديقي إلى
الداخل وهو يترنَّح تحت ثقل صندوقٍ حدیديٍ كان يحمله في يده اليُمنى، وسرعان ما
وضعه على النضد، ثم اعترته نوْبةٌ شديدةٌ من السُعال، ولم يلبث أن تهالك فوق أحد المقاعد،
وأخذ يبصق دماً، فأسعفته بكأسٍ من الخمر تجرَّعها دفعةً واحدةً فتحسَّنت حالتة رغم
سوئها، ثم سألني بلهجة المؤنِّب:
-
ما الذي دعاك إلى
تركي بالخارج في مثل الطقس البارد وأنت تعلم أن ذلك قد يُفضي إلى موْتي.
أجبت:
-
وأنَّى لي أن أعرف أنك
زائري وقد انتصف الليْل أو كاد؟!
فابتسم ابتسامةً باهتةً، وقال:
-
أصبت .. وأكبر ظنّي أن
هذه ستكون آخر زياراتي لك .. إنني أشعر بدنوْ الساعة يا "هولي" .. ولا
أمل عندي في أن أرى شمس الغد.
-
ما هذا السخف .. سأذهب
لأستدعي طبيباً.
فاستوْقفني قائلاً:
-
كلّا .. لا حاجة بي إلى
الاطباء .. أنا طبيب نفسي .. ولا شك يخامرني في دنوْ أجلي .. لقد عِشت العام
المنصرم بمعجزة .. ولكن دَعنا من ذلك الآن واصغِ إلىَّ باهتمام .. لأنه لن يُفسَح
لي الوقت حتی أُكرِّر ما أٌدلي به إليك .. لقد ارتبطنا برباط الصداقة منذ عاميْن ..
فهل لك أن تجبيني ماذا تعرف عني؟
-
أعرف أنك ثري .. وأنك
دخلت الجامعة في السن التي يغادرها الطلبة فيها .. كما أعرف أنك كُنت متزوِّجاً وماتت
زوْجتك .. وأنك صديقٌ وفيٌّ مُخلِص.
-
وهل تعرف أن لي ابناً؟
-
كلّا.
-
إذن اعلم أن لي ولداً
في الخامسة من عُمره .. وقد ماتت أُمّه أثر ولادته فنفَّرني ذلك منه ولم أحتمل رؤيته
.. فهل تقبل أن تكون وصيّاً على الصبي يا "هولي؟
فأفلتت شفتايَ صرخة دهشةٍ وعجب، وهتفت:
-
وصي؟!
-
نعم .. كنت أعلم منذ
زمنٍ طويل أن أيّامي قد أصبحت محدودة .. فرُحت أبحث عن شخصٍ أعهد إليه بالطفل وبهذا
(وأشار إلى الصندوق الحديدي) .. وقد وجدت ذلك الرجل المنشود .. والآن يا "هولي"
اصغِ إليَّ جيّداً: أعلم أن هذا الطفل سيكون البقيّة الباقية من أُسرةٍ من أقدم
الأُسر في العالم .. لاتهزأ من قوْلي فسوف يأتي يوْمٌ تعرف فيه أن جـدّي الخامس
والستين أو السادس والستين كان كاهناً مصريّاً من كهنة المعبودة "إيزيس"
- مع أنه كان من سلالةٍ يونانيّة، وكان اسمه "کالیكراتس" (وتعني
بالإغريقيّة: "الجميل ذو البأس") .. وأبوه من الجنود اليونانيّين الذين
جمعهم "هاك - هور" أحد فراعنة الأُسرة التاسعة والعشرين .. وجدّه أو أبو
جده هو "كالیکراتس" الذي ذكره "هيرودوتس".
وحوالي عام ٣٣٩ قبل
الميلاد .. أی قبل سقوط الفراعنة تنكَّر "كاليكراتس" الكاهن لمواثيق
الرهبنة وعهودها .. وفرَّ من "مصر" مع أميرةٍ من الأُسرة الملكيّة هامت به
وأحبّته .. ولكن سفينته ارتطمت بالصخور على الشاطئ الأفريقي على مقربةٍ من خليج "دلجوي"
.. بیْد أنه نجا وزوجته .. في حين غرق جميع مَن كان معهما .. وقد لاقى الزوْجان أهوالاً
شـداداً إلى أن أضافتهم ملكةٌ ذات قوَّةٍ وسُلطان تحكم شعباً من المتوَحِّشين ..
وكانت هذه الملكة على جانبٍ عظيمٍ من الجمال .. فقتلت جدّي "کالیكراتس"
لأسبابٍ لا محل لذِكرها الآن .. فستقرأها بين محتويات هذا الصندوق ذات يوْم .. وأمّا
زوْجته فقد نجت من شر هذه الملكة الجهنَّميّة بحيلةٍ لا يعلمها أحد .. ثم رحلت الى
"أثينا" .. وهناك ولدت طفلاً أسمته "فينسينيس" (وتعني
بالإغريقيّة: "المنتقم الجبّار").
ومضت خمسمائة عامٍ أو
أكثر .. ثم هاجرت الأُسرة ثانيةً إلى "روما" باسم "المنتقم"
أحياءً لفكرة الانتقام من تلك الملكة .. وقد استوطنت الأُسرة مدينة "روما"
نحو خمسمائة عامٍ أخر إلى أن غزا الملك "شارلمان" سهل "لمباردي"
عام ۷۷۰ ميلاديّة حيث كانت تقطن الأُسرة .. ويبدو أن
رئيس الأُسرة التحق بخدمة "شارلمان" وعاد معه فاجتاز بلاد "الألب"
واستقر في "بریتاني" (إقليم بـ"فرنسا") .. وبعد ثمانية أجيالٍ
رحلت الأُسرة إلى "إنجلترا" في عهد الملك "إدوارد" .. وفي أيّام
الملك "ويليام الفاتح" ذاع صيت الأُسرة وقويت شوْكتها في جميع أنحاء
البلاد .. ومن السهل عليَّ أن أقتفي أثر أُسرتي منذ ذلك الحين إلى الآن .. فقد
استبدلت الأُسرة لقبها منذ هبطت "إنجلترا" فجعلته "فنسي" ..
وكل أفرادها يشتغلون بالتجارة من عهد "شارل الثاني" إلى القرن الحالي.
وفي عام ۱۷۹۰ استطاع جدّي أن يجمع ثروةً طائلة .. ولكن أبي
بدَّد أكثرها .. وعندما مات منذ عشرة أعوامٍ ترك لي دخلاً يُقدَّر بنحو ألفيْن من
الجنيْهات سنويّاً .. وبعد موْته قُمت برحلةٍ تتعلّق بهذا الصندوق .. فتجوَّلت في أنحاء
"أوروبا" حتی وصلت إلى "أثينا" .. وهناك التقيْت بزوْجتي .. فتزوَّجنا
.. ولكنها ماتت مع الأسف على أثر الولادة بعد عامٍ واحدٍ من زواجنا.
وكفَّ صديقي "فنسي" عن الكلام
قليلاً، واعتمد رأسه بين يديْه، ثم لم يلبث أن استطرد:
-
کان زواجي حجر عثرةٍ
في سبيل إتمام مشروعٍ لم يعُد في حياتي بقيّةٌ لإتمامه .. وسوف تقف على هذا
المشروع فيما بعد يا "هولي" إذا قبلت ما أريد أن أعهد به إليك .. على أنني
فكَّرت في إنجاز ذلك المشروع عقب وفاةزوْجتي .. ولكني أدركت مبلغ عجزي عن القيام
به حين تذكّرت أنني أجهل اللغة العربيّة .. وهذا سبب قدومي إلى الجامعة .. ولكن هيْهات
الآن فقد أصبح الموْت مني قاب قوسیْن أو أدنی.
وعاودته نوْبة السُعال فأسعفته بكأسٍ أُخرى من
الخمر، وبعد أن استراح قليلاً استأنف سرد قّصته، فقال:
-
لم أرَ ابني "لیو"
مذ کان طفلاً .. ولكنهم يقولون أنه طفلٌ جميلٌ حاد الذكاء .. وقد وضعت في هذا الغُلاف
(وأخرج رسالةً معنوَنةً باسمي) الطريقة التي أريدها في تهذيب الطفل .. وقد دفعتني
غرابتها إلى اختيارك لتنفيذها.
فقلت مُعقِّباً:
-
ينبغي أن أعرف أوّلاً
ماهية المهمّة التي ستُلقى على عاتقي.
-
تتعهَّد بأن تقبل
الوصـاية على "ليو" إلى أن يبلغ الخامسة والعشرين من عُمره .. كما تتعهَّد
بألّا تُرسِله إلى المدرسة .. فإذا ما بلغ هذه السِن تنتهي وصايتك عليه .. ويوْمذاك
يجب عليك أن تفتح الصندوق الحديدي بهذه المفاتيح .. ثم تدع "ليو" يقرأ بنفسه
الوثائق التي بداخله .. ويقرر إذا كان يرغب في القيام بما هو مطلوبٌ منه أداؤه أم
لا .. على أن تترك له حريّة الاختيار .. أمّا فيما يتعلّق بالشروط فإن دخلي بيبلغ ألفيْن
ومائتيْن من الجنيْهات .. وقد أوْقفت عليك في وصيّتي نصف هذا الدخل مدى الحياة
بشرط أن تقبل الوصاية وتُنفِق من هذا المبلغ على الصبي .. وأما الباقي فيُدخَّر
إلى أن يبلغ "ليو" الخامسة والعشرين لكي يتوفَّر له المال اللازم إذا أراد
إتمام المهمّة التي ذكرتها لك.
وترقرقت في عيْنه دمعةٌ واستطرد في ضراعة:
-
لا ترفض طلبي يا "هولي"
.. وكُن واثقاً بأنه لمصلحتك .. فأنت لا تصلح للاختلاط بالعالم .. واحتكاكك بالناس
أمرٌ يؤلمك .. ستنال إجازة الجامعة بعد أسابيعٍ قليلة .. فتستطيع بمرتَّبك
والأموال التي أوْقفتها عليك أن تعيش في رغدٍ وهناء .. إننا صديقان حمیمان يا "هولي"
فاقبل رجائي .. فلم يعُد في أجلي مُتَّسعٌ للقيام بعمل ترتيباتٍ أُخرى.
تردَّدت قليلاً، ولكني لم ألبث أن قُلت:
-
لا بأس .. لقد قبلت
بشرط ألّا يكون في الرسالة ما يدفعني إلى تغيير رأيي.
-
شُكراً لك يا "هولي"
.. ليس بالرسالة شيءٌ ممّا تظن .. أقسِم لي على أن تكون أباً للطفل وأن تُنفِّذ وصيّتي
حرفيّاً.
فأقسمت، وعندئذٍ قال:
-
حسناً .. تذكَّر أنني
سوف أسألك حساباً عن قَسَمك هذا يوم نلتقي في العالم الآخر.
ثم أصابته نوْبةٌ أخرى من السُعال، فلمّا هدأ
قال وهو يقوم من مقعده بصعوبة:
-
سأنصرف الآن .. وسأترك
لك الصندوق .. وستجد وصيّتي ضمن أوراقي .. وبموجبها سيُسلَّم إليك الطفل.
ثم نهض، ونظر إلى وجهه الشاحب في المرآة،
وقال محدِّثاً نفسه:
-
عمّا قريب ستصبح
طعاماً للدود .. فقد انتهت المرحلة .. وجاء اليوْم الموْعود.
وتحول إليَّ وقال مودِّعاً:
-
الوداع ياصديقي.
وأحاطني بذراعيْه وقبَّلني بحنان، ثم تهيّأ للانصراف،
فقُلت له:
-
تمهَّل يا
"فنسي" ريثما أستدعي طبيباً.
ولكنه ابتسم وقال:
-
لا فائدةٌ يا صديقي
.. تذكَّر القَسَم.
وغادر الغُرفة وانصرف في تؤدَّةٍ وضعفٍ
ملحوظ.
خلوْت إلى نفسي، فأطلقت العنان لتفكيري، وكان
أوّل ما جال بخاطري أن "فنسي" لا بُد أن يكون ثملاً، ولم أشَأ أن أُصدِّق
أنه سيموت قبل طلوع الفجر كما تكهَّن، وقد جعلني ذلك أرتاب كثيراً في صحّة القصّة
التي ألقاها على مسامعي منذ هُنيْهة.
وتدافعت مئات الأسئلة إلى عقلي المُضطرب،
ولكني لم استطِع أن أجد جواباً واحداً مُقنِعاً، وخفت أن أُصاب بالجنون فهُرِعت إلى
فراشي تخلُّصـاً من هذه الأفكار المزعجة، ولم ألبث أن رُحت في سُباتٍ عميق.
وعندما أفقت في صباح اليوْم التالي سمعت شخصاً
ينادي باسمي، فأسرعت لأرى المُنادي فإذا به الخادم الذي يتولّى خدمتي وخدمة "فنسي"
وقد راعني شحوب وجهه، فسألته:
-
ما لي أراك شـاحب
الوجه؟! .. هل اعترضك أحـد الأشباح؟!
فأجاب:
-
نعم یا سیّدي .. فقد
ذهبت لأُوقِظ مستر "فنسي" كالعادة فوجدته جُثّةً هامدة.