(9) الراحة في الكهف
على أثر هذا الموْقف
العجيب تقدَّم الشيْخ نحونا وأشار إلى الكهف فولجناه ومعنا "أوستين" غير
عابئةٍ بتلميحاتي لها عن رغبتنا في العُزلة والانفراد، ولم نكَد نتقدَّم عدّة
خطوات داخل الكهف حتى أيْقنتُ أنه من صُنع الإنسان، وكان طوله نحو مائة قدم وعرضه
خمسین وارتفاعه عشرين، وتتفرَّع عنه دهاليزٌ يبعد أحدها عن الآخر نحو اثنيْ عشر
قدماً تؤدِّي إلى غُرفٍ قصيرة، وعلى مبعدةٍ من مدخل الكهف وقع بصري على نارٍ موقدةٍ
تُضيء جوانب الكهف المُعتَمة.
توقف "بلالٌ"
في سيْره ثم أمرنا بالجلوس ريثما نتناول الطعام فامتثلنا، وافترشنا جلوداً جافّة، وسرعان
ما قدَّموا لنا لحماً مسلوقاً من الضأن ولبناً في أوْعيةٍ من الخزف تحملها فتيات، فأكلنا
حتى شبعنا.
ونهض مُضيِّفنا "بلال"
عندئذٍ وقال:
- إن ما حدث اليوْم لهو من الغرابة
بمكانٍ عظيم .. فما من أحدٍ مِنّا رأى أو سمع بأن رجالاً من البيض جاءوا إلى بلاد "أُمّة
حجر" .. حقيقةً أننا كنا نعلم بوجود هذا الجنس من الرجال السـود القلائل
الذين وفدوا على هذه البقاع .. ولكنهم (أي الرجـال البيض) لم يحاولوا الوصول إليها
.. وقد رأيْناكم تمخرون (تبحرون في) التُرعة بزوْرقكم فأمرت بقتلكم .. ولكن جاءني رسولٌ
من قِبَل "هي" - التي يجب أن تُطاع - وأمرني أن آتي بكم إلى هُنا سالمين.
فقاطعته أنا قائلاً:
- معذرة يا أبي .. إذا كانت "هي"
- التي يجب أن تُطاع - تقطن بعيداً عن هنا فكيف عَلِمَتْ بحضورنا؟
قلَّب "بلالٌ"
الطرف حوْله، فلمّا استوْثق من أننا على انفراد ضحك ضحكةً غربيةً، ثم قال:
- أفي بلادكم مَن يری بغیر عیْنیْن أو
يسمع بلا أُذُنيْن؟! .. لا تسَل .. إنها عرفت وكفى.
فهززت کتفي استخفافاً
وسكت، أمّا هو فاستطرد:
- إن الموْقف يقتضي ذهابي إلى "هي"
- التي يجب أن تُطاع - لأتلقّى أوامرها بشأنكم .. لأنها ملكتنا كما تعلمون.
فلمّا سألته عن
موْعد عوْدته أجاب بأنه سيحاول أن يؤوب (يعود) بعد خمسة أيّام، ثم أضـاف بأن وسائل
الراحة ستكون متوفِّرةً لدينا، وأعرب عن أمله في أن يأتينا بجوابٍ مُطَمْئِن،
ولكنه عاد فأبدی ارتيابه في ذلك بقوْله أن جميع الغرباء الذين قَدِموا إلى بلاد "أُمّة
حجر" في أيّام جدّته وأيّام أمّه أُعدِموا دون شفقةٍ أو رحمة، وكان إعدامهم
بأمر "هي" أو بموافقتها على الأقل، لأنها لم تتدخَّل لإنقاذهم، فقلت له:
- ما هذا الذي تقول يا أبي؟ .. إنك شيْخٌ
طاعنٌ في السِن .. والعهد الذي تتحدَّث عنه يرجِع إلى عُمر ثلاثة أشخاصٍ مضوا .. فكيف
تستطيع "هي" أن تأمر بقتل أحدٍ في أيّام جدّتك مع أنها لم تكن قد وُلِدَتْ
بعد؟!
فابتسم "بلالٌ"
ثانيةً، ثم هز رأسه لشأنه، وانطلق لشأنه، فلم نرَه إلّا بعد خمسة أيّامٍ كما ذكر.
جلسنا نتشاور في الأمر
ونحن مضطربو الخواطر، وأمّا أنا فشعرت بنفورٍ شديد من ناحية "هي"،
واقشعر بدني لمجرَّد التفكير في أنها تقضي بالموْت على كل مَن أوْقعه سوء الحظ من
الغرباء في طريقها، ولم يكن "ليو" بأقل مني اضطرابا؛ ولكنه كان يُعزّي
نفسه بأن "هي" هي المرأة التي ورد ذِكرها في الكتابة المنقوشة على قطعة
الخزف والتي أشار إليها أبوه في رسالته، وكان "ليو" يُدلِّل على صحة
اعتقاده هذا بما ذكره "بلالٌ" عن عُمرها ونفوذها.
كنت مُتعَباً فلم أشَأ
مناقشة "ليو" في رأيه، واقترحت على رفاقي أن نغتسل، وقادنا أحد الخدم إلى
خارج الكهف، فألفيْنا جمهـرةً كبيرةً من السُكّـان يترقَّبون خروجنا، وإذ رأونا ندُخِّن
وننفث دخان الغليون من أنوفنا خافوا وتفرَّقوا من حوْلنا وقالوا أننا سحرةٌ أقوياء.
وصلنا أخيراً إلى
غدير ماء فاغتسلنا، ثم كررنا عائدين إلى الكهف فألفيْناه غاصّاً (مليئاً) بالسُكّان،
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وكان السُكّان يجلسون جماعاتٍ حول مواقد النار
وهم يتناولون طعام العشاء على ضوْء المصابيح التي كانت مُعَلَّقةً في الجدران، وهي
مصنوعةٌ من الخزف وتُضاء بالدهن بواسطة فتيلٍ ينفذ من قرصٍ من الخشب يُغطّي فوَّهة
المصباح.
راقبناهم بُرهةً وهم
يلتهمون طعامهم كالوحوش، ثم أشرت إلى الخادم كي يأخذنا إلى الفراش، فقادني الرجل
بأدبٍ إلى ممرٍّ من الممرّات الصغيرة التي تتفرَّع من الكهف، ولم نكَد نسير بضع
خطواتٍ في الدهليز حتى اتسع فجأة واستحال إلى غُرفةٍ صغيرةٍ مُرَبَّعةٍ منحوتةٍ في
الصخر، وفي أحد جوانبها مصطبةٌ ارتفاعها ثلاثة أقدامٍ وتمتد بطول الجدار.
وأشار مُرشدي إلى تلك
المصطبة وقال أنها فِراشي، فأَجَلْتُ البصر في أنحاء الغُرفة فلم أجد منفذاً
للهواء ولا أثاثاً، ولمّا أنعمت النظر قليلاً أدركت أن هذه الغرفة كانت تُستَخدَم
فيما مضى قبراً للموْتى، وأن هذه المصطبة كانت قد أُعِدَّت لوضع الجُثث فوقها، وقد
تحقَّقت من صدق استنتاجي هذا فيما بعد.
تملَّكني الذُعر من
هذه الفكرة المُخيفة، ولكن لم أجد مفرّاً من النوْم، فتغلَّبت على مخاوفي بعد لأي
(تعب ومجهود)، وعُدت إلى الكهف لأُحضِر غطائي من أمتعتنا، وهناك التقيْت بـ"جوب"
الذي كانوا قد أخذوه إلى غُرفةٍ مماثلة فرفض أن ينام فيها قائلاً أن منظرها يُرسِل
الذُعر إلى القلوب، وأصر على أن ينام معي فقبلت مُغتبِطاً (مسروراً).
استيْقظنا في صباح
اليوْم التالي على قرع طبلة، وانطلقنا إلى الغدير فاغتسلنا، ثم عُدنا لتناول
الطعام، وبينا نحن جلوس إذ أقبلت امرأةٌ في الثلاثين من عُمرها وتقدَّمت من "جوب"
ثم قبَّلته أمام الملأ، فانزعج "جوب" وارتسمت على وجهه أمارات الاستياء،
ثم انبعث واقفاً ودفع المرأة عنه، وقال لاهثاً:
- لا .. لا أُريدكِ.
ظنَّت المرأة أنه
خجول فعانقته ثانيةً، فزاد غضبه وصاح وهو يلوِّح بالملعقة الخشبيّة التي كانت في
يده في وجهها:
- ويحكِ .. اغربي عن وجهي أيّتها المرأة
.. معذرةً أيّها الرجال .. فأنا لم أشجِّعها على مثل هذا العمل .. أوّاه يا إلهي ..
ها هي قادمةٌ إليَّ مرّةً ثالثة .. حِل بينها وبیني يا مستر "هولي" .. أرجوك
.. إن هذا مخالفٌ لطبيعتي.
ثم عدا خارج الكهف، فضَجَّ
الحاضرون بالضحك، وأمّا المرأة فغضبت وزاد في غضبها ما رأته من سخرية زميلاتها
منها، ووقفت المرأة وهى تهدر، فوددت لو أن "جوب" سلك مسلكاً آخر غير ذلك
المسلك الذي عرَّض أرواحنا للخطر كما سيأتي فيما بعد، ولم تلبث المرأة أن انسحبت فعاد
"جـوب" إلى الكهف وهو بادي الاضطراب والسخط، وأخذ ينظر بعيْن القلق إلى
كل امرأةٍ تقترب منه، فأدركت أن من واجبي أن اقول لمُضيِّفنا أن "جوب"
رجلٌ متزوِّجٌ ولم يُوَفَّق في حياته الزوْجية وأنه رافقنا في رحلتنـا ليتخلَّص من
متاعبها، وأن هذا هو سبب اضطرابه عنـد رؤية النساء، ومع ذلك قابل الجالسون قوْلي
بالصمت التام.
خرجنا بعد الإفطار لتفقُّد
حقول "أمّة حجر" ومواشيها، وكانت على نوْعيْن: أحدهما يُدِر لبناً غزيراً
دَسِماً والنوْع الآخر كثير الشحم واللحم، وأمّا الزراعة فكانت بسيطةً فطريّةً ولا
يقوم بها سوى الرجال.