(21) "عائشة" و"ليو"
وانصرفت من حضرتها مُنطلِقاً - من فوري - إلى
غرفة "ليو"، فألفيْت "جوب" و"أوستين" في أشد حالات
الجزع والحُزن، قال "جوب":
-
أین كنتَ ياسيّدي؟
.. لقد بحثنا عنك في كل مكان .. فإن مستر "لیو" يعاني سَكَرات الموْت.
فاندفعتُ إلى الفِراش وتطلَّعت إلى "ليو"
فأدرکت من فوْري أنه في النزع الأخير.
كان غائباً عن وعيه، ويتنفَّس بصعوبة، وشفتاه
ترتجفان، وجسمه ينتفض من وقتٍ لآخر، انتابني الغَم وأنحيْت باللائمة على نفسي، وبدأ
ضميري يؤنِّبني لأنني تلكَّأت بجوار "عائشة" بينما كان ابني العزيز يحتضر
تدريجيّاً، يا للعنة! .. ما أسهل خضوع الإنسان للشر بتأثير نظرات امرأةٍ فاتنة.
تملَّكني يأسٌ شديد، وتلفَّتُ حوْلي فأخذت عيْناي
"أوستين" وهي جالسةٌ بجانب الفِراش، وقد تجسَّمت في عيْنيْها نظرة اليأس
المُعتِمة، وأمّا "جوب" فكان واقفاً في أحد أركان الكهف وهو ينظر حوْله
بحُزنٍ وألم، وسرعان ما خرج إلى الدهليز
وأخذ يبكي.
لم يبقَ لنا أملٌ إلّا
في "عائشة"، فحزمت أمري على الذهاب إليها في التوْ واستدعائها على عجل،
وإذ تهيّأت لمغادرة الغُرفة اندفع "جوب مُسرِعاً من الخارج وكان ينتفض من فرط
الخوْف، ثم قال:
-
ليرحمنا الله ياسيّدي .. لقد رأيتُ جُـثَّةً ملفوفةً في أكفانها تسير في
الدهليز، وهي قادمةٌ إلى هُنا.
تولَّتني الدهشة، بيْد
أنني سرعان ما تذكَّرت أنه لابد قد رأى "عائشةً" مُلتَّفةً بثوْبها الأبيض فحسبها شبحاً، وبعد هُنيْهةٍ نفذت "عائشةٌ"
إلى الغُرفة، وما كاد بصر "جوب" يقع عليها حتى صرخ:
-
إنها تلك الجُـثّة التي حدَّثتك عنها.
ثم وثب إلى أحد الأركان
والتصق بالجدار، أمّا "أوستین" فانبطحت على وجهها، ولا ريْب أنها عرفت
شخصيّة "عائشة"، تقدَّمتُ نحوها وقُلت:
-
لقد جئتِ في الوقـت المنـاسب .. إن ابني يمـوت يا "عائشة".
فقالت بلهجةٍ رقيقةٍ
خافتة:
-
لا تخَف يا "هولي" .. سأُنقِذه .. اللهمَّ إلّا إن كان قد فارق
الحياة .. ولكن مَن يكون ذلك الرجل الذي يقف لصق الجدار؟ .. أهو خادمك؟ .. وهل هذه
هي الطريقة التي يحيي بها الخدم ضيوفكم في بلادكم؟!
فأجبت:
-
لقد ذُعِرَ من وشاحك الأبيض الذي يُشبِه أكفان الموْتى.
فضحكتْ وقالت:
-
ومَن تكون هذه الفتاة؟ .. آه فهمت .. لعلَّها الفتاة التي حدَّثتني عنها ..
حسناً .. مُرْهُما بمغادرة الغُرفة لنفحص أسدك المريض .. إنني لا أريد أن يقف هذان
الوغدان علی حِکمتي.
فتحوَّلتُ إليهما وطلبتُ منهما مغادرة الغُرفة،
فامتثل "جوب"، وأمّا "أوستين" فرفضت وهمست:
-
ماذا تريد "هي"؟
.. من حق الزوْجة أن تبقى بجوار زوْجها وهو يحتضر .. لا .. لن أذهب يا سيّدي "البابون".
فسألت "عائشة" - وهي لا تزال واقفةً
عند طرف الكهف الآخر - وكانت منصرفةً إلى التفرُّج على النقوش المحفورة فوق
الجدار:
-
لماذا لم تُغادِر
هذه المرأة الغُرفة يا "هولي"؟
ارتج عليَّ القوْل ولم أدرِ بماذا أجيبها، وأخيراً
قلت:
-
إنها لا ترغب في ترك
"ليو".
فدارت "عائشةٌ" على عقبيْها بسرعةٍ
مُدهِشـة وأشارت إلى "أوستين" ونطقت بكلمةٍ واحدةٍ فقط، ولكنها كانت
كافية، لأن اللهجة التي ألقتها بها كانت أكثر من أمر إذ صاحت:
-
اذهبي.
فزحفت "أوستين" على يديْهـا وركبتيْها وغادرت الغُرفة دون
اعتراض، وضحكت "عائشة" ضحكةً قصيرةً وقالت:
-
ها قد رأیت يا "هولي"
.. إن الأمر يتطلَّب استعمال الشِدَّة مع هذه الأُمّة .. لقد كادت هذه الفتاة أن تعصى
أوامري .. وأظنها تجهل ما أصاب العصاة اليوم على يدي .. والآن دعني أرَ ابنك
المريض.
وتقدَّمت "هي" - برشاقتها المألوفة
- من فراش "ليو"، وكان وجهه في الظل وفي مواجهة الجدار، ثم مالت فوقه
لترى وجهه، وقالت:
-
إنه شابٌّ معتدل
القوام.
ولكني لم ألبث أن رأيتها تترنَّح إلى الخلف
كأنما أصابتها طعنةٌ نجلاء، وظلَّت تتمايل كالثمل حتى اصطدمت بالجدار، ثم أطلقت صرخةً
ثاقبةً مروِّعة، فصحت:
-
ماذا دهاكِ يا "عائشة"؟!
.. هل مات "ليو"؟
فتحوَّلتْ ووثبتْ نحوي كاللبؤة، وصاحت بصوتٍ
مفزعٍ أجش يحاكي فحيح الأفعى:
-
أيها الكلب .. لماذا
أخفيْت ذلك عني؟!
ثم بسطتْ ذراعيْها حتى خُيـِّل إليَّ أنهـا
تريد أن تصفعني، فصرخت وتولَّاني ذُعرٌ عظيم، وقلت:
-
ماذا؟! .. ماذا حدث؟
فخفَّ روْعها قليلاً، وأجابت:
-
آه .. ربما كنت تجهل
ذلك .. اعلم یا "هولي" أن هذا هـو "كاليكراتس" حبیبي .. "کاليكراتس"
الذي فقدته .. وعاد إليَّ الآن كما كنت واثقة.
وأخذتْ تنتحب تارةً وتضحك أُخرى، وهي تُتمتِم:
-
"کالیکر اتس"
.. "كاليكراتس".
قلتُ لنفسي:
-
ماهذا اللغو؟!
بيْد أنني لم أستطِع أن أُعبِّر لها عن شعوري،
إذ كانت أفكاري كلها مُتَّجهةً إلى "ليو" والخطر العظيم الذي يتهدَّده،
وخشيتُ أن يفارق الحياة و"عائشةٌ" مصابةٌ بهذه النوْبة العصبيّة، فتقدَّمت
منها وقُلت:
-
إذن أسرعي إلى إنقاذ
حبيبك قبل أن تمتد إليه يد الموْت وتحرمكِ منـه إلى الأبد.
فانتفضتْ وهتفتْ:
-
صدقتَ یا "هولي"
.. آه .. إن جسمي ينتفض ويدي تهتز .. خُذ هذه القارورة.
وأخرجت قِنّينةً صغيرةً من الخزف من بين طيـّات
ثيابها وقدَّمتها إليَّ وهى تقول:
-
اسكب ما فيها في فمه
.. أسرع یا "هولي" .. أسرع فإنه في النزع الأخير.
تحوَّلتُ إلى "ليو" فرأيته يناضل
الموت وينافحه (يكافحه ويدفعه بعيداً)، وكان وجهه شديد الشحوب وأنفاسه تتحشرج في حَلْقه.
وكانت القارورة مسدودةً بقطعةٍ من الخشب،
فجذبتها بأسناني، واتُفِقَ أن انسكبت قطرةٌ من هـذا السائل في فمي، فشعرت بدوارٍ
شديد، واسوَدَّت الدُنيـا أمام عیْني، ولكن هذا التأثير لم يستمر لحسن الحظ،
فأسرعت لأسكب ما في القارورة في فم "ليو"، وكان رأسه يتحوَّل ببطءٍ من
ناحيةٍ لأُخرى وفمه مفتوحا قليلاً، فطلبت إلى "عائشة" أن تٌمسِك برأسه،
وحاولتْ أن تفعل برغم أنها كانت تنتفض من قِـمَّة رأسها إلى أخمص قدميْها.
سكبتُ السائل في فم "ليو"، فلم ألبث
أن رأيت بُخاراً خفيفاً يتصاعد من فمه، ثم تلاشت في الحـال حشرجة الموْت، فخشيتُ
أن يكون قد فارق الحياة، وزادني خوْفاً ما رأيته من اكفهرار وجهه وسكون دقّات قلبه.
تحوَّلتُ إلى "عائشة"، ونظرتُ إليها
مُرتاباً، وكان الوشاح قد انزلق عن رأسها وهي تترنَّح، بيْد أنهـا تركته يسقط، وظلَّت
مُمسِكةً برأس "ليو" وهي تراقب وجهه وعلامات القلق المقرونة بالألم المُمِض
(الموجِع المُبرِّح) قد تجلَّت في صفحة وجهها الفاتن.
ومضت خمس دقائق، ويبدو أنها كانت قد فقدت الأمل
في نجاته، إذ انقلبت سحنتها فجأة، وبدا كأن وجهها الجميل قد نُحِلَ تحت تأثير آلامٍ
ذهنيّةٍ دلَّت عليها هالتان سوْداوان حوْل عيْنيْها، وسألتُها بلهفة:
-
هل فُقِدَ الأمل في
نجاته يا "عائشة"؟
فلم تُجِب، وإنما غطَّت وجهها بيديْها في
حركةٍ تدل على القنوط، بيْد أنني سمعت إذ ذاك تنهـيدةً عميقة، فحوَّلت عيْني عن "عائشة"
فرأيْتُ وجه "ليو" الشاحب قد احمرَّ قليلاً، وكلّما مرّت الثواني زاد
الاحمرار شيئاً فشيئاً إلى أن تحرَّك الشاب أخيراً، فهمستُ في أُذُن "هی":
-
انظري.
فقالت بصوتٍ أجش:
-
لقد نجا من موتٍ مُحقَّق .. ولو كُنّا قد تأخَّرنا لحظةً واحدةً لذهبت
جهودنا في إنقاذه هباء.
ثم انفجرت باكيةً بحُرقةٍ
حتى خُيـِّل إليَّ أن قلبها سيتمزَّق، بيْد أنها أمسكت عن البكاء فجأةً وقالت:
-
أرجو المعذرة يا "هولي" .. اصفِح عني لضعفي .. فما أنا إلّا
امرأة .. وقد كِدتُ أفقد صوابي حين رأيت ذلك الأمل الضعيف الذي ظللت أتعلَّل به أمداً
طويلاً يكاد يخبو في طرفة عيْن.
وأشرق وجهها،
واستطردت:
-
انظر یا "هولي" .. ها قد عثرتُ علی حبیبي ومُنقذي الذي مكثت أجيالاً
طويلةً أترقَّب قدومه .. إنه جاء في الوقت المُقدَّر ليبحث عني كما كنت واثقة أنه
سيفعل لأن حكمتي لا تُخطيء أبداً .. تصوَّر یا "هولي" كيف يكون حالي لو
نفذ سهم القضاء فيه .. لكن لا .. أنَّى لك أن تتصوَّر ذلك وأنت لم تكتوِ بلهيب
النار التي ظلَّت مُستَعِرةً في قلبي ألفيْ عام .. ولا ريْب في أنه لو مات لبقيتُ
كذلك أُقاسي هذا العذاب ولانتظرتُ الأجيال الطويلة إلى أن يولد من جديد .. لكن ما أعظم
سعادتي .. ستغادره الحُـمّى بعد نوم اثنتيْ عشرة ساعة .. ثم ....
وأمسكت عن كلامها،
ثم وضعت يدها فوق شعر "ليو" وانحنت فوقه، وطبعت قُبلةً حارَّةً على
جبينه، وكان المنظر رائعاً ولكنه حَزَّ في قلبي حزاً، فقد بدأت عقارب الغيرة تنهش
في صدري.