"شيء من الخبث" | الفصل الثالث (3)
وانصرف الجميع وهم يفكّرون فيما سيسفر عنه الاجتماع
الموْعود، في حين اتّجه العمدة للغرفة المجاورة حيث جلس على مقعدٍ وثير بجوار
المنضدة الموضوع عليها المسرّة التي لم تنقطع عنها الحرارة كما حدث لبقية المسرّات
في القرية، وأخرج من الجيب الداخلي للجلابيّة محفظته السوْداء الجلديّة الكبيرة
التي تحوي ورقةً زرقاء مدوّن بها أرقام التليفون الهامة، وأخذ يهمس لنفسه وهو يبحث
في الورقة ثم يدير قرص التليفون :
- لمّا نشوف مَيّتك معايا إيه يا هباب الحلّة
انت.. "أوساما".. "أوساما".. "أوساما".. أيوه.. اللي
أوّلها صفر صفر صليب واحد اتنين صفر اتنين تاني أربعة خمسة ستّة أربع وحايد.. بس
يا رب هو اللي يرد بنفسه.
وانتظر برهةً حتّى أتاه الصوت المألوف
للمأمور "أسامة" على الطرف الآخر:
- هاللو.. مين معايا؟
فانتفض "عتريس" واقفاً في احترامٍ وتبجيل
وردَّ في ارتباكٍ واضح :
- آلو.. السلامُ عليكم يا باشا.. أنا خدّامك
"عتريس".
- عايز إيه يا "عتريس"؟
- سلامتك يا باشا أنا قلت اتّصل انا ما دام
جنابك ما بتّتصلش.
فرد عليه "أسامة" في برودٍ واقتضاب
:
- أهلاً.
- إيه يا باشا؟.. إنت زعلان مني ولا إيه؟.. يعني
ما كلّمتنيش تطمّن عليَّ ف الظروف السودة اللي انا فيها دي؟
- واللهِ الظروف دي أنت المسئول عنها.
- إزاي يا باشا؟.. ده انا كنت باعمل كل اللي جنابك
كنت بتشور بيه عليَّ قصدي بتأمرني بيه.. ده انا حطّيت إيدي ف إيد
"الكهاينة" عدوّيني وعاديت أهل بلدي كُرْمَةً ليك.. ده انا كنت حتّى باستخسر
ف أهل بلدي حصّتنا ف الجاز وادّيها "للكهاينة" برُخص التراب.. ولمّا قلت
لي بوّر أرض "الدهاشنة" وخد تقاوي ومبيدات من "الكهاينة" واشتري
مننا القمح والدقيق ما تنّيتش كلمتك.. يبقى دي آخرتها؟.. تسيبني ف محنتي دي؟.. إنت
لازماً تعمل حاجة.
- يعني ح اعمل لك إيه؟.. بعد ما طيّنتها ف انتخابات
المجلس المحلّي اللي فاتت.. جاي تقول إلحقني ده الوقت.. وياما قلت لك لايمها إنت
وعيالك وبقية الأعيان.. إنهبوا آه بس بالعقل.. مش تلهطوا البلد كده زي ما تكونوا
بتاكلوا ف آخر زادكم.. شيل بقى فوق دماغك.
- يعني مش ح تتدخّل ف الموضوع؟.. صحيح الله
يخلّيكي يا شدّة يا اللي تبيّني ده من ده.
- إتصرّف لوحدك.. منّك لأهل البلد إصطفلوا مع
بعض.. إنت عارف كويّس إن موتي وسِمّي اتدخّل ف شئون حد.
- ليه؟.. ما اتدخّلتش قبل كده بدل المرّة ألف؟
- باقول لك إيه.. ما توجعش دماغي.. أنا مش
فاضي لك.. أنا معايا مكالمة ع الخط التاني من "ابن الطالح" عمدة كفر
"شبرا اليمن".. أهو راخر أهل بلده مطفّحينه الكوته ومجرّسينه وعايزني
ألحقه.. ما اعرفش إيه اللي صابكم واحد ورا التاني؟.. إنت و"شين العابدين أبو علي"
و"معفّر الكذّابى" و"فشّار النمر".. إيه؟.. فرّة؟.. جاتكم
القرف كلكم ع الصبح.
- آلو.. آلو.
وانقطعت المكالمة تاركةً العمدة واقفاً
مدهوشاً مشدوهاً من موقف المأمور، وأحس العمدة بالندم الشديد على إطاعته لأوامر
المأمور كل هذه السنين وتمني لوعاد به الزمن مرّةً أخرى ليفعل غير ما فعل؛ فقد باع
نفسه لنذلٍ خسيس تخلّي عنه وقت الشدّة بعد أن أكل لحمه ولفظ عظامه.
أمّا دوّار العموديّة فقد كان يغرق في صمتٍ
رهيب لم يقطعه سوى صوت الخطوات المسرعة "لموفّق" على الدرج الداخلي المؤدّي
للدور العلوي الكائنة فيه غرفة "فؤادة" حيث كان يقفز كالفهد محاولاً
الوصول "لفؤادة" قبل أن يراه أحد، وما إن وصل لبابها حتّى دق بلطف
فسمعها تقول :
- أدخل ياللي بتخبّط.
فسارع في الدخول وأغلق الباب وراءه بحرص، وذُهلت
"فؤادة" من فوْرها وهُرعت إليْه في شوقٍ ولهفة وتلاقت أيديهما بعد
أعينهما وقلبيْهما وبادرت بسؤاله :
- إزايّك يا "موفّق".. إنت إيه اللي
جايبك ده الوقت.. إنت مش قلت لي امبارح إنك ح تيجي بعد يومين؟
- ما اقدرش استني يوم واحد من غير ما اشوفِك.
- تقوم تخاطر بحياتك وتيجي م الباب وف عز
الضهر الاحمر؟
- أنا أدفع عمري كله بس ترضي عني.
- ولو انت حصل لك حاجة الشر برّه وبعيد ح
يتفضّل لي مين؟
- ما تخافيش عليَّ.. عمر الشقي بقي.. أنا
مراقب الدوّار م الصبح وانتهزت فرصة إن كل ظبّاط الهجّانة خرجوا وأخدوا معاهم
الغفر والعساكر وح يتأخّروا ف الإجتماع اللي مع أهل البلد الضهريّة وما بقاش موجود
غير "مصيلحي" واتنين كمان من الخدّامين.. واستنّيت لحد ما راحوا يفطروا
ف الجنينة وقلت آجي ِلك علشان نهرب سوا.
- ده الوقت؟
- حالاً.. ده أحسن وقت للهروب.. لو استنّينا
لبالليل ح تلاقي الغفر مرشّقين ف كل مكان.. إنما ده الوقت ما حدّش ح يخطر على باله
أبداً إنّك ممكن تهربي.. أنا رابط حصاني عند السقفيّة اللي جنب الساقية على طول.
- طب استني أشوف فيه حد برّه ولّا لأ.
وفتحت "فؤادة" الباب وأطلّت برأسها
خارجه فلم ترَ أحداً فأشارت "لموفّق" بأن يتبعها؛ فهبطا الدرج مهروليْن وهما
يتلفّتان حوْلهما ونجحا في الوصول إلى باب الدوّار دون أن يعترضهما أحد، وما إن
فتح "موفّق" الباب إلّا وقد فوجئ أمامه بأحد الخفر وقد عاد لحراسة
الدوّار بناءً على تعليماتٍ من "طهطاوي"، فصاح الخفير على زميله الذي عاد
معه فشرعا بندقيّتيْهما في وجه "موفّق" الذي أغلق الباب مرةً أخرى من
الداخل بالمزلاج وأمر "فؤادة" قائلاً :
- إطلعي انتي أوضتك بسرعة قبل ما يشوفك حد.. وانا
ح امشي ده الوقت وح آجي لِك بالليل.
وأسرع "موفّق" بالجري عبر القاعة
بالدور الأرضي وقفز من النافذة المطلّة على الحديقة التي تحيط بالدوّار في اللحظة
التي استطاع فيها الخفيريْن كسر الباب وإطلاق النار عليه؛ فصرخت "فؤادة"
صرخةً عالية ثم أُغشي عليها من هوْل الموْقف؛ فحملها الخفيران إلى سريرها وطفقا
يتناوبان عليها باستنشاق العطر مرّة والبصل مرّةً أخرى إلى أن استفاقت واستردت كل
وعيها وبعضاً من رباطة جأشها فسألت الخفيريْن عمّا حدث فأخبرها أحدهما قائلاً :
- أبداً يا ست "فؤادة".. ده الظاهر
كان فيه حرامي ف الدوّار بس ما لحقش يسرق حاجة.. حاكم احنا طبّينا عليه ف الوقت
المناسب وضربناه بالنار.. بس يا خسارة ما لحقناهوش.. كان جرى قبل ما نعكشه.. لكن ح
يروح مننا فين؟.. لازماً ح نجيبه قبل ما يهرب م البلد.. خصوصاً إن فيه رصاصة صابته
إكمنّنا لقينا نقط دم بره الشبّاك اللي نط منّه.. ده لو ما ماتش من النزيف أصلاً.
ودارت الدنيا مرّةً أخرى "بفؤادة" ولم تدرِ أتفرح بهروب حبيبها أم تحزن لإصابته بإحدى طلقات الرصاص، واستبد بها القلق حوْل مصير "موفّق"، ودعت الله في نجواها بأن يحفظه لها وبأن يجمعهما على خيرٍ قريباً حتّى تطمئن نفسُها ويهدأ بالها ويستريح قلبها تجاه حبيبها.