الأتوبيس
دَخَلَ "سَيِّدٌ الديبُ" مُوَظَّفُ التأْميناتِ مَبْنَى المَصْلَحَةِ مُسْرِعاً ليَلْحَقَ بإمْضاءِ الحُضورِ قَبْلَ غَلْقِ الدَفْتَر، وبَعْدَ أَنْ وَقَّعَ بالحُضورِ ذَهَبَ إلى القِسْمِ الذي يَعْمَلَ بِهِ فَوَجَدَ زميلَهُ "محمودَ" يُبادِرُهُ قائِلاً :
- لِسَّه جاي يا
باشا؟.. ناموسيتَك كُحْلي.
- أُسْكُت يا
"حوده".. دَه انا ما كُنْتِش حَ آجي النَهارْ دَه مِنْ أَصْلُه.
- ليه؟.. كفى الله
الشَر.
- أَصْلي وانا راكِب
الأتوبيس النَهارْ دَه رَكَبِت مَعايا حِتِّة دين مُزَّة إنَّما إيه.. تِحِل مِنْ عَ
المَشْنَقة.
- يا راجِل!
- ورَحْمِة أُمِّي
زَيْ ما باقول لَك كِدَه.. راخَر انا فَضَلْت لازِق وَراها مِنْ أَوِّل الخَط لَحَد
ما نَزَلِت.
- وهيَّ سَكَتِت لَك
يا "ابو السيد"؟
- هيَّ حاولِت تغَيَّر
مَكانْها فِ الأتوبيس كام مَرَّة.. بَسْ انْتَ عارِف اخوك.. ما باعْتَقْش.. لغايِة
ما يَأَسِت واستَسْلِمِت للأَمْر الواقِع.. زيَّها زَيْ غيرها.. يَعْني حَ يفْضَحوا
نَفْسُهُم أَوَنْطَة.. خُصوصاً إنْ الناس التانيّين دَه الوَقْت بيكَبَّروا دماغْهُم
وبيشوفوا العَمايِل اللي احْنَا بنَعْمِلْها فِ الأتوبيسات أَوْ الشَوارِع وبيسْكُتوا..
وكُل واحِد بيقول : "ياللا نَفْسي.. وانا مالي.. أَتدَخَّل لِيه واجيب لِنَفْسي
وَجَع الدِماغ وقِلِّة القيمة".. أومَّال فين "دَلال"؟
- لِسَّه ما جَاتْش.
- أوْعَى تكون مَزْنوقَة
فِ الأتوبيس هيَّ كَمان.. ها ها هاي.. ما هِي مِنْ ساعِة ما اتطَلَّقِت وهيَّ أكيد
ماشية عَلَى حَل شَعْرَها ومقَضيَّاها أُتوبيسات.. عادي يَعْني.. زَيْ أَيْ واحْدَة
مِتْطَلَّقَة.
- دول بيقولوا إنّها
اتطَلَّقت عَلَشَان جوزها كان شيوعي.. وكان أَمْن الدَوْلَة بيعْتَقِلُه كُل شويَّة..
وكانوا بيعَذِّبوه ويَعْمِلوا فيه حاجات بَطَّالة لاجْل ما يِكْسَروا عِينُه ويذِلِّوه..
راخَر ما نَفَعْش مَعَ "دلال" بَعْد كِدَه.. أَصْلَها فَرَسَة عَفِيَّة
ومِحْتاجَة واد خَيَّال قَراري.
- وانا الخَيَّال
دَه يا معَلِّم.. إنْتَ ما بِتْشوفْنيش وانا بارْمي والَقَّح عَليها بالكلام وهيَّ
بِتْجاريني؟.. لعِلْمَك دي بتبْقَى فاهْمَة قَصْدي إيه بَسْ بِتِتْقَل.
- ماشي يا عَم الخَيَّال..
لمّا تيجي حَ ابْقَى ارْفَع الإيريال واسيبكُم لِوَحْدُكُم.. لما نشوف جَدْعَنْتَك..
أَهي جَت.
وسَمِعَتْهُما زَميلَتُهُما
"دَلالُ" أَثْناءَ دخولِها الحُجرةِ فباغَتَتْهُما بالسُؤال :
- إيه؟.. جايبين
سيرتي فِ إيه عَ الصُبْح؟
فرَدَّ عَلَيْها
"َسيِّدٌ" وهوَ يتَكَلَّمُ بِبُطٍء ويَضْغَطُ عَلَى مَخارِجِ الحُروفِ
ليؤكِّدَ لمُسْتَمِعِيهِ أَنَّ وراءَ حَديثِهِ مَغْزَىً آخَراً بَعِيداً :
- أَصْلي مِشْ لاقي
القَلَم بِتاعي.. قُلت إنْتي أكيد أَخَدْتيه.. أَصْلك لمّا شوفتيه قَبْل كِدَه عَجَبِك..
صَح؟
فأَجابَتْهُ في تَمَنُّع
:
- باقول لَك إيه.. إصْطَبَح
عَ الصُبْح.
وهُنا أَرادَ
"محمودٌ" أَنْ يَفي بوعْدِهِ لصاحِبِهِ فَقالَ وهوَ يُغادِرُ الغُرْفَةَ
مُسْرِعاً :
- طَبْ انا حَ اروح
اشوف كَشْف التَعيينات طَلَع ولّا لِسَّه.. أَصْلُهُم بيقولوا إنْ المُدير حَ يعَيِّن
واحْدَة معانا هِنا فِ القِسْم.. بَسْ باقول لَك إيه يا "عَرَب" : ما لَكْش
دَعْوة بيها.. دي بَقَى تِلْزَمني وتخُصِّني.. أَنا خَلاص حَ اكْتِبها باسْمي.. بَسْ
عَلَى الله تِطْلَع قَمَر.. مِشْ أَمَر بالسَتْر.
وعَلَّقَ "سَيِّدٌ"
عَلَى قَوْلِ صاحِبِهِ وهوَ يَفْرُكُ يَدَيْهِ في خُبْث :
- الله يسَهِّل لُه
يا عَم.
وأَدْلَتْ "دَلالُ"
بِدَلْوِها في هَذا الحديثِ بقولِها :
- يا أَخي قول عَلَى
الله تِطْلَع بِتاعِة شُغْل مِشْ قَمَر.. هيَّ السِتَّات عَنْدُكُم كِدَه بَسْ.. جِسْم
مِنْ غير عَقْل ولا شَخْصِيَّة.
فأَغْلَقَ "سيِّدٌ"
بابَ الحِوارِ قائِلاً وهوَ يغْمِزُ بعيْنِهِ لصاحِبِه :
- روح انْتَ يا
"حودَه" وسيبني مَعَ "دَلال" أَشْرَح لها السِتَّات دول عِبارَة
عَنْ إيه بالظَبْط.. إتِّكِل انْتَ شوف مَصْلَحْتَك.
وغادَرَهُما
"محمودٌ" وهوَ يَبْتَسِمُ إبتسامةً ذاتَ مَعْنى، ولَكِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ
طويلاً قَبْلَ أَنْ يعودَ ويقولَ "لسَيِّد" :
- شُفْت اللي حَصَل؟..
لَقِيتْهُم كاتْبين اسْمَك فِ كَشْف الموظَّفين اللي حَ يتْنَقَلوا الفَرْع الجِديد
فِ "امْبابَة".
فبُهِتَ "سيّدٌ"
مِنْ وَقْعِ المُفاجَأَةِ ولَمْ يُحِرْ جَواباً قَبْلَ أَنْ تقولَ "دَلال"
:
- كوَيِّس قَوي.. دَه
الفَرْع دَه جَنْب بيتَك لَزَم.. يا دوبَك حَ تعَدِّي الشارِع.. ولا الحَوْجَة
للأتوبيسات ودَوْشِتْها.
فَرَدَّ عَلَيْها
"سَيّد" بَعْدَ أَنْ بَدَأَ يُفيقُ مِنْ صَدْمَتِه :
- ما هيَّ دي المُصِيبَة.
وفي حينَ تعَجَّبَتْ
"دَلالُ" مِنْ رَدِّ زَميلِها عاجَلَهُما "محمودٌ" بقَوْلِه :
- ما تِقْلَقْش يا
معَلِّم.. وراك رِجَّالَه.. أَنا ادّيت أُسْتاذ "إكرامي" سِكِرتير المُدير
خَمْسيناية وخَلّيتُه يُشْطُب اسْمَك ويكْتِب مَكَاُنه اسم عَمْ "عَلي الدَبُّور"
السُنّي دَه بِتاعْ الأَرْشِيف.. أَنا قُلْت دَه راجِل كِبير وساكِن قُرَيِّب مِ الفَرْع
الجِديد وحَ يخْلَص مِنْ هَمْ المَواصَلات.
- الله ينَوَّر عَليك
يا صاحْبي.. صَحيح ما يعرَف مزاجَك إلّا اخوك.
وبَعْدَ هُنَيْهَةٍ
اقْتَحَمَ الغُرْفَةَ عَمُّ "عَليٌ الدَبُّورُ" ذو اللِحْيَةِ الشَيْباءِ
وهوَ يَصيحُ بصَخَبٍ رافِعاً يَدَيْهِ للسَماءِ داعِياً اللهَ بحُرْقَة :
- مِنَّك لله يا "محمود".. مين قال لَك تِكْتِبْ اسْمي فِ فَرْع "إمْبابَة".. أَهو انْتَ كِدَه حَ تضَيَّع عَلَيَّ الفُلوس اللي دَفَعْتَها فِ أَبونيه الأتوبيس اللي كان مَزاجي ارْكَبُه كُل يوم وانا جاي الشُغْل.